الحمد لله الكريم المنان ذي الطول والفضل والإحسان، هدانا للإيمان ، وفضل ديننا على سائر الأديان ، وأشهد أن لا إله إلا الله الإله الحق المعبود في كل زمان ومكان، والشكر له على مِنَّتِه بإكمال عدة رمضان، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين..وبعد : فقد انتهى شهر رمضان، وانفض سوق كان عامرا بالخير ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقُبل فيه من قُبل، وطُرد فيه من طُرد، فياليت شعري من المقبول منا فنهنيه ومن المطرود منا فنعزيه؟! فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقى إخوتي من فضل أعمار ..
أيها الأحبة الفضلاء ! لقد كانت المساجد في شهر رمضان معطرة بأنفاس الصائمين ، وكانت المساجد مزدحمة بصفوف المصلين، بل وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بالذكر وكلام رب العالمين، بل وأسعد قلوبنا في رمضان تنافس أهل البر من المحسنين. ولكن مع أول فجر من شهر شوال يتألم قلبك، وتبكي عينك، ويتحسر فؤادك، وتتمزق نفسك حسرات! أين المؤمنون؟! المساجد تشكو حالها إلى الكبير المتعال!! ما الذي حدث؟
أين المصلون بعد رمضان؟!
أين القائمون لله بعد رمضان؟!
أين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! .. ترى إعراضاً وفتوراً يؤلم قلب المؤمن التقي النقي.. بئس العبد الرمضاني ونعم العبد الرباني ؛ إن رب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام ..
فيا من صليت لله في رمضان وضيعت الصلاة في غير رمضان احذر واعلم يقيناً بأن هذه علامة من علامات عدم القبول ..
فمن علامة الحسنة الحسنة بعدها ومن علامة السيئة السيئة بعدها ، ومن علامات النفاق أيضا الغفلة عن العبادات خاصة المفروضة ، فاللهم املأ قلوبنا ذكرا و إيماناً..
إن المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين، بل ومن أحب القربات إلى الله رب العالمين؛ كما في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن نبينا ﷺ قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)..
ومما لا شك فيه أن الاستمرار في أعمال الصالحات لها أثر كبير على النفس والمجتمع وعلى رأس الأعمال الصالحة الإحسان إلى الأيتام فعلى المسلم رعاية اليتيم والإحسان إليه ..
إن تخصيص يوم لليتيم فكرة طيبة ينبغي أن نهتم بها ونسعى إلى إدخال السعادة والسرور على من فقدوا آباءهم، وإشعارهم بأنهم ليسوا وحدهم في الحياة،لكن ينبغي أيضا أن نعلم أن المنهج الإسلامي أن الأمر لا يقتصر على يوم واحد في العام، وإنما ذلك من باب الذكرى لمن شغلتهم الحياة عن هذا الواجب الإنساني والمجتمعي..
فما هو اليتيم ؟!.
اليتيم يا إخوتي هو من مات عنه أبوه وهو صغير لم يبلغ الحلم؛ أي قبل البلوغ. ويستمر وصفه باليتم حتى يبلغ.. وقيل من فقد أمه ، وهناك اللطيم وهو الذي فقد كلا الوالدين.. وكل يتيم لطيم وليس العكس .. (ويكيبيديا)..
العنصر الأول:وصية الإسلام باليتامى والتحذير من أكل ماله ..
لقد اعتنى الإسلام بحسن رعاية الأيتام والإحسان إليهم ، وأخذ على ذلك الميثاق ..
واعتبر الإسلام أنَّ عدمَ إكرام اليتيم يدُلُّ على عدم الرَّغْبَة في الخير، كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾ [الفجر: 17]..
كما نهى عن قُرْب مالِ اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وأمَرَ بالحرص على تنميته، وعدم تعريضه للأخطار حتى يَبلُغَ اليتيمُ سِنَّ الرُّشد حيث تزولُ عنه الوِلاية، ويُدفعُ إليه مالُه، ويصيرُ وليَّ نفسِه..
ويقول النبي كما أمر الإسلام بالإحسان إلى اليتيم في تربيته، ونهى عن الإساءة إليه، “عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُحسَنُ إليه، وشَرُّ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُساءُ إليه))؛ أخرجه البخاري في الأدب المفرد ..
و في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ) – أي المهلكات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشَّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ)( متفق عليه).
وقال أيضا -: “اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ”(أخرجه الإمام أحمد )
كما اعتنى الإسلام بالحقوق التربوية والاجتماعية لليتيم ؛ حيث أمر بتربيته وكفالته، وبيَّن الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنهُ هو وكافلُ اليتيم في الجنَّة..
قال النووي -رحمه الله-: “كَافِلُ الْيَتِيمِ الْقَائِمُ بِأُمُورِهِ مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَرْبِيَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ”(شرح النووي على مسلم 18/ 113)..
وكافلُ اليتيم هو: الذي يقوم برعايته وتربيته، والعنايةِ به حتى يبْلُغ، ونهى الإسلام عن دفع اليتيم بعُنف وشِدَّةٍ وقسْوة،؛كما قال عز وجل: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾ [الماعون: 1، 2]؛ أي: هو الذي يقهر اليتيم، ويظلمه حقه، ولا يطعمه، ولا يحسن إليه..
قال السعدي -رحمه الله- عند هذه الآية: “هذا من لطفه ورحمته -تعالى- باليتيم الذي فقَد والده وهو صغير غير عارف بمصلحة نفسه ولا قائم بها؛ أن أمر أولياءه بحفظه وحفظ ماله وإصلاحه وأن لا يقربوه؛ (إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)؛ من التجارة فيه، وعدم تعريضه للأخطار، والحرص على تنميته، وذلك ممتد إلى بلوغه وعقله ورشده، فإذا بلغ أشده زالت عنه الولاية، وصار ولي نفسه ودُفِعَ إليه ماله”( تفسير السعدي)..
العنصر الثاني :النظر إلى الأيتام بعين الرأفة والرحمة منهج إسلامي وإنساني..
إن الدين الإسلامي دين رحمة، وكتابه كله رحمة، ونبيه هو نبي الرحمة والرحمة تعني الرفق والرأفة، والرقة واللين، والعطف والعناية والرعاية، ومن محاسن الشريعة الإسلامية أنها اهتمت بالفئات الضعيفة اهتمامًا عاليًا، وأولتها رعاية فائقة، وعناية خاصة، ومن تلك الفئات الضعيفة(اليتامى والفقراء)..
وإن النظر إلى الأيتام بعين الرحمة والشفقة، منهج إسلامي قبل أن يكون تقليدا إنسانيا ..
والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في رعايتهم والعنايةِ بهم، وقد قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9]؛
قال السمعاني -رحمه الله-: “أي: لا تحتقره، ولا تأخذ حقه وتتقوى به، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك في أموال اليتامى”( تفسير السمعاني). وقال السعدي -رحمه الله- عند هذه الآية: “أي: لا تسئ معاملة اليتيم، ولا يضق صدرك عليه، ولا تنهره، بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يُصنع بولدك من بعدك” (تفسير السعدي)..
والمرادُ: لا تُذلَّهُ، ولا تَضُرَّه، وتُضيِّقْ عليه، وتنهرْهُ، وتزجُرْه زجرًا يتأثرُ به نفسيًّا، ولا يدخلُ في ذلك تأديبُهُ وتعليمُه؛ بل على ولِيِّهِ أن يُعلِّمَهُ ويؤدِّبَهُ كما يفعلُ الأبُ مع أولاده، من التربية لمصلحتهم في الدنيا والآخرة..
ورعاية اليتيم والرحمة به وإصلاح شأنه خلق إنساني وحضاري رفيع دعت إليه جميع الشرائع السماوي.. وقام بهذا الخلق أنبياء الله ورسله (عليهم السلام ، ومنهم نبي الله زكريا (عليه السلام) يتنافس مع أهله بني إسرائيل على من ينال شرف كفالة السيدة مريم (عليها السلام) بعد وفاة والدها عمران ، قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ..
وفي السنة النبوية المطهرة ما يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمر اليتيم، اسْتُشْهِدَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَتَرَكَ أَطْفَالًا أَيْتَامًا، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَاهَدُهُمْ وَيَمْسَحُ رُؤوسَهُمْ وَيَدْعُو لَهُمْ؛ شَفَقَةً بِالْيَتِيمِ، وَرَحْمَةً بِهِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، قَالَ: “مَرَّ بِنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى دَابَّةٍ وَنَحْنُ صِبْيَانٌ نَلْعَبُ، فَقَالَ: “ارْفَعُوا هَذَا إِلَيَّ” قَالَ: فَحَمَلَنِي أَمَامَهُ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى رَأْسِي ثَلاثًا، وَقَالَ كُلَّمَا مَسَحَ: “اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي وَلَدِهِ”..
وقيل لما خافت على أولادها، جعلت تذكر لرسول الله ﷺ من يُتمِ أولادها وحاجتهم… إلخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (الْعَيْلَةَ – الفقر والفاقة والحاجة ـ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟)..
وهكذا فقد نظر الإسلام الحنيف لليتامى نظرة رعاية ، وعناية ، وإصلاح في كل أحوالهم ، وكافة شئونهم..
وأما المراد بكفالة اليتيم؛ رعايته حسيا ومعنويا؛ فالرعاية الحسية تكمن في الإنفاق عليه وكسوته وتعليمه والإحسان إليه. والرعاية المعنوية تكون في العطف عليه ومواساته والاحتفاء به.
العنصر الثالث :عناية الإسلام بإصلاح أحوال اليتيم ورعاية شئونهم ..
اعتنى الإسلام بإصلاح وصيانةِ مال اليتيم، والمحافظةِ عليه، فالله عز وجل يعلم نوايا المصلح من غيره في المحافظة على مال اليتيم ممن يأكل ماله ، ويفسد معاشه ..
والمتدبر في الآية الكريمة يرى أن التعبير القرآني قد جاء بكلمة (إصلاح) ليكون شاملا لكل وجوه العناية والرعاية ، فالإصلاح اسم جامع لكل ما يحتاج إليه اليتيم ، فقد يحتاج إلى المال فيكون الإصلاح برا وعطاءً ماديًا ، وربما يكون اليتيم غنيًا فيحتاج إلى التقويم والتربية، فيكون الإصلاح هنا رعاية وتربية ، وقد يحتاج إلى من يتاجر له في ماله أو من يقوم على شئون زراعته أو صناعته فيكون الإصلاح هو القيام بذلك ، وقد لا يحتاج إلى هذا ولا ذاك ، وإنما تكون حاجته إلى العطف والحنو والإحساس بمشاعر الأبوة فيكون الإصلاح بتوفير ذلك له، وقد يكون الإصلاح في تقويم زيغه واعوجاجه وتهذيب سلوكه وأخلاقه ، وبهذا المعنى الشامل للرعاية والكفالة جاءت النصوص القرآنية والنبوية تحثنا وتدعونا إلى إصلاح أحوال اليتامى ، ورعاية شئونهم..
لقد أوجب القرآن الكريم إصلاح أموال اليتامى بحفظها وصيانتها ، والاتجار فيها، وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى؛ فهم إخوانكم ، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه ، والمرجع في ذلك إلى النية والعمل، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم، وليس له طمع في ماله ، فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه عليه حرج وبأس، ومن علم الله من نيته أن قصده بالمخالطة التوصل إلى أكلها وتناولها ، فذلك الذي فيه حرج وأثِم كبير ..
1-الإصلاح والرعاية النفسية لليتامى فقد نهى الإسلام عن استذلالهم أو إهانتهم، أو احتقارهم؛ محافظة على نفسيتهم، ورعاية لمشاعرهم، فقال تعالى مخاطبًا نبيه (صلى الله عليه وسلم) ومُعلمًا لأمته: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ، أَي: لا تحقره ولا تظلمه ، ولا تستذله ، ولا تمنعه حقه الذي في يدك ، وكن له كالأب الرحيم).
كذلك جعل القرآن الكريم إهانة اليتيم، وعدم إعطاءه حقه، وعدم الإحسان إليه من صفات المكذبين بدين الله (عزّ وجلّ)، فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُ الْيَتِيمَ {، أي: يدفعه دفعًا عنيفًا بجفوة وأذى، ويرده ردًا قبيحا بزجر وخشونة إذا طلب منه شيئًا.
كذلك حثت السنة النبوية المطهرة على مراعاة نفسية اليتامى، ورفع معنوياتهم، والإحسان إليهم، ومن مظاهر ذلك المسح على رؤوسهم..
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: “أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يشكو قسوة قلبه ؟ قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك” (رواه الطبراني)..
2- الإصلاح والرعاية الاجتماعية لليتامى قال تعالى واصفًا أهل الإيمان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا..
فرعاية الأيتام وإصلاحهم ليست عملا فرديًا، بل هو واجب مجتمعي، وثقافة ينبغي أن تسود، والمتأمل في الآية الكريمة يرى أن الله (عز وجل) لم يمتدح فعلا فرديَّا، وإنما امتدح فعلا جماعيًا حيث قال: {وَيُطْعِمُونَ} بصيغة الجمع.
وهذا نبي الله موسى والعبد الصالح الخضر (عليهما السلام) يقدمان لنا أنموذجا عاليًا في رعاية الأيتام اجتماعيًا ، فيقومان ببناء جدار آيل للسقوط كان ملكًا لغلامين يتيمين ، وكان تحته كنز لهما ، على الرغم من لؤم أهل القرية معهما ومنعهما واجب الضيافة ، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزَ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ..
3- الإصلاح والرعاية المالية للأيتام : فقد أمر الإسلام بدفع نصيبهم في الميراث إليهم، وحذر من تزييفه أو تغييره ، والطمع فيه ، وبين أن هذا الفعل جرم كبير ، وإثم عظيم ..
قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كبيرًا ، فقد نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فنزلت الآية ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}..
وحرصًا من الإسلام على اليتامى أمر باختبارهم قبل دفع الأموال إليهم ، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا. فإذا لم يكن للأيتام مال فقد حثنا القرآن الكريم على إعطائهم من أموالنا ، وجعل | ذلك لونًا من ألوان البر ، ومرتبة عالية من مراتب الإيمان ، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ…}..
العنصر الرابع :أيتام صنعوا التاريخ
عَبْرَ التَّارِيخِ بَرَزَ أَيْتَامٌ كَانَ لَهُمْ شَأْنٌ عَظِيمٌ فلَمْ يَكُنْ لِلْيُتْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِفَقْدِ الْأَبِ الرَّحِيمِ الْمُشْفِقِ وَالْمُوَجِّهِ النَّاصِحِ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ النُّبُوغِ وَالْبُرُوزِ وَتَحْصِيلِ أَعَلَى الْمَرَاتِبِ؛ بل على العكس من ذلك فقد كان اليتم دافعا قويا على التوافق والتقدم فكان منهم عُلَمَاءٌ وَأَعْلاَمٌ، شُعرَاءُ وَعَبَاقِرَةٌ، وَشَخْصِيَّاتٌ شَهِيرَةٌ، بَلْ مِنْهُمْ قَادَةُ الْعَالَمِ وَعُظَمَائِهِ وَخُبَرَائِهِ، وكُلُّ هَؤُلَاءِ عَاشُوا أَيْتَاماً، فَغَيَّرُوا مَجْرَى التَّارِيخِ بِعَزْمِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، فَهَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَشَأَ يَتِيمًا، وَكَانَ يَرْعَى لِقَوْمِهِ الْغَنَمَ، ثُمَّ لَازَمَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ على رأس المكثرين رَاوِيَةَ لحديث رسول الله ﷺ..
وإِمَامُ الدُّنْيَا فِي الْفِقْهِ الْإمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- ومن نوابغ الأيتام: الإمام الشافعي -رحمه الله-، فقد مات أبوه قبل أن يتم العامين، وربته أمه في فقر وقلة وشدة…
حَتَّى سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ وصاحب مذهب فقهي ليس له منازع ..
قال عنه الإمام أحمد لولده: “يا بني: كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس”..
وَكَذَا تِلْمِيذُ الشَّافِعِيِّ: الْإمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ- لم تكتحل عينه برؤية أبيه؛ فقد مات وهو في بطن أمه ، ونشأ كذلك في فقر وفاقة،فَحَضَنَتْهُ أُمُّهُ وَأَدَّبَتْهُ وَأَحْسَنَتْ تَرْبِيَتَهُ، حَتَّى أَخْرَجَتْ لنا عَالِمًا فَذًّا، وَإِمَامًا وَرِعًا حَفِظَ اللهُ بِهِ الدِّينَ والْعِبَادَ فِي الْفِتْنَة.. وهو كذلك صاحب المذهب الفقهي..
وختاماً : يا إخوة الإسلام: إن رعاية الأيتام، وكفالتهم، والقيام بشئونهم لهو عمل جليل يعود بالنفع على الإنسان حال حياته، وبعد مماته، ومن ذلك:
فوائد رعاية اليتيم وكفالته.
١-لين القلب ، وتيسير الأمر ، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يشكو قسوة قلبه، فقال له : (أَتُحِبُّ أَنْ يلين قلبك ؟ فَقَالَ: نَعَمْ ، قَالَ : ارْحَمِ الْيَتِيمَ ، وَامْسَحْ رَأسَهُ ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ، وَتَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِكَ)..
٢-تماسك المجتمع وترابطه ..
ومن فوائد الإحسان إلى اليتيم وكفالته حصول تماسك المجتمع وقوته، وحُسنُ الترابط بين أفراده، لوجود الألفة والمحبة بينهم، ذلك أنَّه مجتمع حفظ حقوق اليتامى وأحسن إليهم ولم يتركهم هملاً، وكذلك بشرى لمن كفل يتيمًا بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، وهي منزلة عظيمة وشرف كبير، وكذلك من يشتكي قسوة القلب فإنَّه بإحسانه إلى اليتيم ومسح رأسه يحصل له لين القلب، فتزول عنه القسوة..
٤- النجاة من عذاب الله في الآخرة ، قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۚ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكَ رَقَبَةِ * وَإِطْعَامُ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةِ.
4-مرافقة النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة ، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم قال : (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا)
اللهم ألهمنا حب الفقراء والمساكين ، وارزقنا العطف على اليتامى والأرامل والمحتاجين
واللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الموحدين، اللهم ارزقنا الاستقامة على طاعتك بعد رمضان، اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك، اللهم فرج كرب المكروبين وهم المهمومين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين ..