2. الخطبة الثانية: (ذم السلف الصالح لتارك التعبد بعد شهر رمضان).
ثانيا: الموضوع:
الله أكبر (تسعًا متواليات)، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، سبحان ذي الطول والإنعام، سبحان ذي الجود والأفضال، سبحان مَنْ عنت له الوجوه، وسجدت له الجباه، سبحان مَنْ ليس لملكه ابتداء ولا انتهاء.
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنشأنا على فطرته، وشرح صدورنا لطاعته، الحمد لله الذي هدانا لذكره وشكره، ووفقنا لتوحيده وتمجيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد ولا ندّ ولا نظير له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، خيرُ مَنْ صلى وصام، وتعبّد لله وقام، فاللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأزواجه وذريته، وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم جميعا من المؤمنين، وبعد:
(1) ((ستةٌ من خطورة ترك التعبد بعد شهر رمضان))
أيها الأحبة الكرام: منذ ساعات قليلة انطفئت المصابيح، وانتهت صلاة التراويح، وانقضى شهر العبادة، وعدنا إلى شهور العادة، منذ ساعات قليلة ودعنا شهر رمضان الذي كان بعضنا يوصي بعضنا بحسن استقباله، وإكرام ضيافته ووفادته، بالجد والاجتهاد فيه بألوان وأشكال وأصناف العبادة والطاعة، وصدق الشاعر حينما قال:
رمضان ولى مسرعًا ….. للصائمين مودعًا ….. مضى الكريم إلى ربه ….. فاسكب عليه الأدمع
وقد كنا في شهر رمضان على خصالٍ عظيمة من الخير والطاعة والعبادة؛ فقمنا بفريضة الصيام، ومعه سنة التراويح والقيام، وحافظنا على الصلوات الخمس بسننها، وقرأنا كتاب الله، وعشنا مع آياته وتفسيره، واستمعنا لدروسٍ من العلم، وتحركت أيدينا بالبذل والعطاء والسخاء، وسعينا في صلة الأرحام ومواساة الأيتام…الخ، فماذا نحن فاعلون بعد شهر رمضان؟
هل يليق بنا كمؤمنين وموحدين وعقلاء أن نرتد على أدبارنا خائبين خاسرين ونترك هذه الطاعات والعبادات بعد أن وفقنا الله (عزّ وجلّ) لأدائها؟ أن ترك التعبد لله (عزّ وجلّ) بعد شهر رمضان له أضراره وأخطاره، ومن خطورة ترك التعبد بعد رمضان؛ ما يلي:
1ـ ترك التعبد بعد شهر رمضان مخالفٌ للقرآن الكريم، الذي أمرنا بالتعبد لله (عزّ وجلّ) على الدوام طوال شهور العام لا في شهر رمضان فقط، قال تعالى مخاطبًا النبي (صلى الله عليه وسلم): {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ*وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99،98]، أي: أعبد ربك أبدًا حتى يأتيك اليقين الذي لا شك فيه وهو الموت، وقال تعالى مخاطبًا النبي (صلى الله عليه وسلم) أيضًا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8،7]، أي: إذا انتهيت من عبادة وطاعة فتلبس بطاعة وعبادة أخرى، وكنّ دائمًا في دأب من الطاعة والعبادة، فكان (صلى الله عليه وسلم) إذا انتهى من صيام رمضان أتبعه بصيام التطوع، وأتبع التراويح بقيام الليل، وأتبع الاعتكاف بالجلوس في المسجد لتعليمهم أمور دينهم…وهكذا، ومن خطورة ترك التعبد أيضًا.
2ـ أن ترك التعبد بعد شهر رمضان مخالفٌ لهديه (صلى الله عليه وسلم)، فقد كانت طاعاته وعبادته (صلى الله عليه وسلم) دائمة لا تنقطع، ولم يكن يخصُّ (صلى الله عليه وسلم) زمنًا من الأزمان بطاعة وعبادة، فعن علقمة، قال: سألت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قلت: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: (لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ) (متفق عليه)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (…وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ) (رواه مسلم).
وقد كان ذلك هدي الصحابة (رضوان الله عليهم)، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) قال سالم (ابن عبد الله بن عمر): فكان عبد الله، بعد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلا. (متفق عليه)، ومن خطورة ترك التعبد أيضًا.
3ـ أن الوقوع في المعاصي بعد رمضان يعدُّ كفرًا وجحودًا ونكرانًا لنعمة الله علينا، بأن وفقنا لأداء تلك العبادات وتلك الطاعات، وهذا يعرضنا للدخول تحت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ*جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:29،28]، ويقول سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن خطورة ترك التعبد أيضًا.
4ـ ارتكاب المعاصي بعد شهر رمضان يعرض طاعات وعبادات هذا الشهر للضياع وعدم القبول ـ عند المولى تبارك وتعالى، فعلامة قبول الطاعة والعبادة التوفيق لطاعة وعبادة بعدها.
قال كعب الأحبار بن ماتع الحميري (ت34هـ): (من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود)، وقال يحيى بن معاذ الرازي (ت258هـ): (ليس بعارفٍ من لم يكن غايةُ أمله من الله العفو، من استغفر بلسانه وقلبُه على المعصية معقود، وعزمُه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود، فصومُه عليه مردود، وبابُ القبولِ في وجهه مسدود) (لطائف المعارف)، ومن خطورة ترك التعبد أيضًا.
5ـ أن ترك الطاعة بعد رمضان فيه نقض لعهد الطاعة والعبادة الذي قطعه الله علينا، ونحن في (عالم الذّر) ظهر أبينا آدم (عليه السلام)، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ*أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ*وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:172ـ 174]، ومن خطورة ترك التعبد أيضًا.
6ـ أن تارك الطاعة بعد رمضان سفيهٌ أخرقٌ، أحمقٌ، هكذا شبهه القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ*وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل:92،91]، (والتي نقضت غزلها): امرأة خرقاء من قريش، يقال لها: (ريطة بنت عمرو بن سعد) وتلقب بالجعراء، كانت بها وسوسة، وكانت متناهية الحمق، تغزِلُ الغزل من القطن أو الصوف فتُحكِمُه (تصنع منه الأشياء النافعة)، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه. وقال بعضهم: كانت تغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، فضربها الله مثلا لناقضي العهد.
وهكذا يكون تارك العبادة والطاعة بعد شهر رمضان ـ بعد أن وفقه الله لأدائها ـ يكون مشابهًا لتلك المرأة في السفه والحمق والخرق لتقطيعها غزلها بعد أن صنعت منه الأشياء النافعة.
فينبغي علينا ألا نترك ما كنا علية من طاعة وعبادة في شهر رمضان، فإن ربّ الشهور واحدٌ، وهو مطلعٌ علينا وشاهد، (فاللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا).
وعلينا أن نتقي الله (عزّ وجلّ) في كل لحظة من لحظات حياتنا، ونعدُّ العدة لما بعد الموت، فالكيس الفطن الذكي هو من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، وهذا هو ما أمرنا به الحق تبارك وتعالى في العديد والعديد من الآيات القرآنية، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281]، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر:18]، وصدق الإمام الشافعي حينما قال:
تزود من التقوى فإنك لا تدري ….. إذا جنّ ليلٌ هل تعيش الي الفجر /// فكم من عروس زينوها لزوجها ….. وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر /// وكم من صغار يُرتجى طولُ عُمرِهم ….. وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبر /// وكم من صحيح مات من غير علّة ….. وكم من سقيم عاش حيناً من الدّهر /// وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً ….. وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري /// وكم من ساكنٍ عند الصباح بقصره ….. وعند المساء قد كان من ساكن القبر /// فداوم على تقوى الإله فإنّها ….. أمان من الأهوال في موقف الحشر /// تزود من التقوى فإنك لا تدري ….. إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر.
عباد الله: أقول قولي هذا، واستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(الخطبة الثانية)
((ذم السلف الصالح لتارك التعبد بعد شهر رمضان))
الله أكبر (سبعًا)، الله أكبر في كل زمان ومكان، الله أكبر ما أذن المؤذن بالآذان، الله أكبر ما قمنا لنقف بين يدي الرحمن، الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين المؤمنين المتقين العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله ضمن الجنة لعباده الأخيار الأبرار، وكتب العذاب على الكافرين الفجار، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: إن سلفنا الصالح (رضوان الله عليهم) قد ذموا وعابوا من ترك العبادة والطاعة بعد رمضان، فقد باع الحسن بن صالح (ت169هـ) جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: (يا أهل الدار الصلاة الصلاة). قالوا طلع الفجر؟ قالت: (وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!!). ثم جاءت الحسن فقالت: (بعتني إلى قوم لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني) (لطائف المعارف).
وقيل لبشر الحافي (ت227هـ): إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقط. فقال: (بئس القوم لا يعرفون لله حقّاً إلا في رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها) (لطائف المعارف).
وقيل لأبي بكر الشبلي (ت334هـ): أيهما أفضل العبادة في رجب أو شعبان؟ فقال: (كن ربانيًّا ولا تكن شعبانيًّا ولا رجبيًا)، أي: تعبد لله طوال أيام العام. (لطائف المعارف).
وباع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم. فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت: (وأنتم لا تصومون إلا رمضان! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم) (لطائف المعارف).
فينبغي علينا ألا نترك ما كنا علية من طاعة وعبادة في شهر رمضان، فإن ربّ الشهور واحدٌ، وهو مطلعٌ علينا وشاهد.
فاللهمّ إنّا نسألك رضاك والْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ سخطك ومن النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَما مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.