خطبة عيد الفطر المبارك بعنوان ( ماذا تعلمنا من رمضان ) لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع

خطبة عيد الفطر المبارك بعنوان ( ماذا تعلمنا من رمضان )
لفضيلة الشيخ :ياسر عبدالبديع

لتحميل الخطبة pdf اضغط على الرابط  أدناه

khutbat eid alfitr almbarkyaseer

الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

اللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد – أهل الثناء والمجد – أحق ما قال العبد – وكلنا لك عبد ـ، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.

وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء، وإمام المتقين وأشرف المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا.

الله اكبر أحصى كل شيءٍ عددا.

الله اكبر وسِع كُل شيء رحمةً وعلما.

العنصر الأول : يوم الجائزة

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نُقدّمَ لأُنفسِنا أعمالاً تُبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88-89].

ولتعلموا – عباد الله – أن الله تعالى قدّر لكل امرئٍ أجلاً لا يتجاوزه ولا يعدوه، بل عندما تقف دقات قلبه وتُنزع روحه من جسده، وحينئذٍ لا ينفعه حسب ولا نسب ولا ذرية، ولكنه العمل، فإنه مُسعده أو مُشقيه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37-41].

عبد الله: إن صالح العمل هو الذي يُنجيك من بأس الله، وهو الذي يكون لك أنيساً في ظلمة القبر، عندما يولي عنك أهلك ومالك.

أيها الناس: من زرع في هذه الدار الذنوب والآثام أثمرت له شوكاً وضريعاً ومُهلاًً وزقوماً، قال تعالى: ﴿ إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ﴾ [الدخان: 43-46]، ومن زرع الأعمال الصالحة والكلمات الطيبة جنى ثمرات طيبة ناضجة، ونعيماً مقيماً وشراباً مريئاً، قال تعالى: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ﴾ [الإنسان: 12-14]. فماذا أعددتم لهول يومٍ عظيم؟ خبروني ماذا زرعتم وماذا قدّمتم من عمل صالح؟ أجيبوا أنفسكم.

فاستعدوا – عباد الله – لحياة لا تنفد، ونعيم لا يبرح، وتذكروا قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].

قال أحد الصالحين: رأيت لكل واحد من الناس حبيب يحبه ويُعزه ولا يفارقه، ولكنه إذا جاءه الموت فارقه هذا الحبيب، فبحثت عن حبيب لا يفارقني إذا دخلت قبري وهو عملي الصالح.

إذا وضع الواحد منا في قبره يأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي» [رواه أبو داود رقم (3212) في الجنائز، باب الجلوس عند القبر، ورواه ابن خزيمة والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه في صحيح الجامع رقم (1676)].
عباد الله:

نتذكر ونحن نودع شهر رمضان سُرعة مرور الأيام، وانقضاء الأعوام، فإن في مرورها وسرعتها عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين قال عز وجل: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]، بالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدومه ونسأل الله بلوغه، واليوم نودعه بكل أسىً، ونتلقى التعازي برحيله، فما أسرع مرور الليالي والأيام، وكر الشهور والأعوام. والعمر فرصة لا تُمنح للإنسان إلا مرة واحدة، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت، فهيهات أن تعود مرة أخرى، فاغتنم أيام عمرك قبل فوات الأوان ما دمت في زمن الإمكان، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : «إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما »، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : «ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي».

رمضان أيام معدودات كما وصفه الله جل وعلا فانتهت، وأنت أيها الإنسان أيام معدودات ستنتهي حتمًا يومًا من الأيام، كتاب صفحاته تطوى يومًا بعد يوم وسينتهي يومًا ما.

والله لو عاش الفتى في عمره
ألفاً من الأعوام مالك أمره
مُتنعماً فيها بكل لذيذةٍ
مُتلذذاً فيها بسكنى قصره
لا يعتريه الهم طول حياته
كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي
بمبيت أول ليلةٍ في قبره

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.

عباد الله: إن هذا اليوم يومٌ عظيم وعيد جليل، يُسمى يوم الجوائز؛ وذلك لأن الجوائز تُفرّق على العاملين في شهر رمضان، تُفرّق بحسب عمل كل عامل، ولهذا ورد في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ابن عباس رضي الله عنهما صلى الله عليه وسلم يرفعه قال: «إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض وتكون على أفواه السكك يُنادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن والإنس، يقولون: يا أمة محمد اُخرجوا إلى ربٍّ كريم يُعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاّهم قال الله تبارك وتعالى لملائكته: يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فتقول الملائكة: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره، فيقول الله عز وجل، يقول للملائكة: أشهدكم أني جعلتُ ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، ثم يقول موّجهًا خطابه إلى عباده: انصرفوا مغفورًا لكم، انصرفوا مغفورًا لكم» [ضعيف، أخرجه الطبراني في الكبير (617) وانظر ضعيف الترغيب للألباني (594، 670)] قال بعض العلماء: يرجع أقوام من المصلى كيوم ولدتهم أمهاتهم، أي أنه لا ذنب عليهم، قد غُفرت ذنوبهم ومُحيت سيئاتهم.

رمضان انطلق وهو يحمل معه شهادات بالفوز والرضوان موقّعة من الرحيم الرحمن على لسان الصادق الأمين – صلى الله عليه وسلم – ونصّها: «من صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه».

وفي الوقت ذاته يحمل صكوك الخسارة والحرمان مُذيّلة بتوقيع الروح الأمين وممهورة بتأمين المصطفى الأمين – صلى الله عليه وسلم – ونصّها: «من أدرك رمضان فلم يُغفر له فأبعده الله قل آمين فقال المصطفى آمين» [أخرجه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، وكذا البخاري في الأدب المفرد (646)].

الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

أيها المسلمون: في هذا اليوم العظيم أي في عيد الفطر يجتمع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يجتمع المسلمون في كل قُطر وفي كل قرية يجتمعون لصلاة العيد، وفي هذا الاجتماع تظهر الوحدة الإسلامية، تظهر في أبهى حللها وفي أروع صورها، تظهر الوحدة الإسلامية، يجتمع الغني مع الفقير، القوي مع الضعيف.

العنصر الثانى : من كان يعبد رمضان فإن رمضان قدانتهى ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإنكم إن فقدتم رمضان فإن ربكم سبحانه يُعبد في كل زمان، ولا يقطع عمل العبد إلا موته ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].

أيها الناس: كان رمضان خلال أيام خلت ملء أسماعنا وأبصارنا، عشناه يوما بيوم، وليلة بليلة، وها هو قد انتهى بما أودعه العباد من أعمالهم؛ فمحسن ومسيء، ومقل ومستكثر، ومقبول ومردود، وغدا في الحساب يوفى العاملون أجورهم. لقد كان صوت رمضان مدويا في الآفاق، وشعائره بادية للعيان؛ فأحاديث الإذاعة عنه، وبرامج التلفزة فيه، وأضاءت المساجد في ليله، وعجَّت المنائر بالقرآن يتلى، وبالدعاء يصعد إلى السماء، وعاش المسلمون فيه أجمل اللحظات التي طربت فيها القلوب، وانشرحت الصدور، وسحت العيون، بعد عام كامل من الانشغال بالدنيا وملذاتها، والغفلة عن ذكر الله تعالى.

إن رمضان أشبه ما يكون بمستودع مليء بالإيمان والخشوع، والناس يغترفون منه زادا لعامهم كله، فمنهم من أخذ حظه وافيا منه، ومنهم من رأى الناس يغترفون وهو لا يزيد على أن ينظر إليهم.

في رمضان تاب عباد من خطاياهم، وعاهدوا الله تعالى على أن لا يعودوا إلى العصيان بعد أن طعموا حلاوة التوبة والإقبال الله تعالى، وتذوقوا لذة الخشوع والدعاء والقرآن.

وفي رمضان واظب عباد على صلاة الجماعة، وداوموا على الصف الأول، ولم تفتهم التكبيرة الأولى؛ فعزموا على أن يكون هذا دأبَهم العمر كله، والتبكيرُ إلى الصلاة له لذة لا يعرفها إلا أهلها.

وفي رمضان عرف كثير من الناس قيمة القرآن الذي يهجرونه طوال العام؛ فاستمعوا آياته تتلى آناء الليل، ورتلوه آنا النهار، فوجدوا في القرآن خير جليس: أيقظ قلوبهم، وشحذ هممهم للعمل بما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم.

وجدوا فيه وعيدا على معاص قد تلبسوا بها، فعاهدوا ربهم على الإقلاع عنها، وقرءوا فيه جزاء عظيما على أعمال صالحة قد فرَّطوا فيها، فعزموا على المحافظة عليها.

لقد تعلموا من القرآن ما لم يكونوا يعلمون، ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين، فندموا على سنوات مضت هجروا فيها هذا الكتاب العظيم، وعقدوا العزم على أن يكون لهم منه ورد يومي لا يتركونه مهما كلف الأمر.

وفي رمضان وجد كثير من المتهجدين لذة صلاة الليل، ومناجاة الرب جل جلاله، والانطراح على بابه، والبكاء من خشيته ورجائه، وطَعِموا حلاوة الاستغفار في أسحاره، فعلموا أنهم قد غفلوا عن هذا الباب العظيم من الخير، وأن سهرهم أول الليل ونصفه، ونومهم آخره قد حرمهم هذه اللذة العظيمة، فعزموا على أن يجاهدوا أنفسهم على قيام الليل، وأن يأخذوا بالأسباب المعينة على ذلك؛ لئلا يُحرموا لذة مناجاة الرب في أفضل الساعات، وربنا تبارك وتعالى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حين يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فيقول: من يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ له، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ له، كما جاء في الحديث الصحيح.

وفي رمضان انتشرت مظاهر الإحسان للخلق بتفطير الصائمين، وتلمس حاجات المعوزين، وإيتاء الزكاة الواجبة، وإتباعها بصدقة النافلة، وأحس الصائم بجوع إخوانه الفقراء، وعلم حاجتهم، ووجد لذة عظيمة في الإحسان إليهم، وإدخال السرور عليهم وعلى أسرهم وأطفالهم، فكان سروره يزداد مع زيادة صدقاته وإحسانه، وودَّ ساعة إنفاقه لو ملك ما على الأرض لا لشيء إلا ليحسن إلى إخوانه، ويدخل السرور إلى بيوتهم.

وكان قبل رمضان يشبع ويلبس ويركب ويترف، ولا يأبه بغيره، لكنه لما رأى مظاهر الإحسان في رمضان أبت عليه نفسه إلا أن ينتظم في سلك المحسنين، فوجد في الإحسان إلى الخلق ما لم يجده في لذيذ طعامه ولباسه ومراكبه ومساكنه وزينته، فعزم على أن لا يقطع لذة الإحسان إلى الخلق، وأن يكون للفقير والمسكين وذي الحاجة حظ دائم من أمواله التي وهبها إياه ربُه عز وجل. ولا سيما مع علمه بحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فيه إلا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فيقول أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)) رواه الشيخان.

وفي رمضان حرص كثير من الناس على برِّ والدِيْهم، وإدخال السرور عليهم بمجالستهم ومنادمتهم، فرأوا من سرور والدِيْهم بهم ما غفلوا عنه من قبل بمشاغل الدنيا، ومطالب الأهل والولد، فعزموا على أن يعطوا والديهم حظهم منهم، وأن يكون لهم معهم جلسات مرتبة لا يتخلفون عنها أو يؤجلونها مهما كلف الأمر؛ لعلمهم بعظيم حقهم عليهم، حتى إن الله سبحانه ذكر حقهم مع حقه تعالى؛ لأنهم السبب الأول بعد الله تعالى في وجودهم في هذه الدنيا ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].

وفي رمضان وَصَل كثير من الناس أرحامهم للمباركة لهم ببلوغ الشهر أو العشر، فرأوا من فرحهم بهم ما لم يظنوه، ومن ترحيبهم بهم ما لم يتوقعوه، فعلموا قدر تفريطهم سابقا في حق قرابتهم، وبعدهم عنهم، وقطيعتهم لهم، واشتغالهم بالمباحات وبما دونها عن أداء الواجبات، وقد سمعوا في رمضان آيات الله تعالى تأمرهم بالإحسان إلى القربى ﴿ وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى ﴾ [النساء: 36] وقرؤوا وعيد الله تعالى فيمن قطعوا أرحامهم ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25] فعزموا على أن يجعلوا لقرابتهم حظا من أوقاتهم، وجزءً من زياراتهم ومكالماتهم؛ طاعة لله تعالى، ووفاء لحقهم.

وفي رمضان تفقد بعض الناس جيرانهم بزيارتهم أو السؤال عنهم فوجدوا فيهم المريض والعاجز عن بلوغ المسجد، ولم يفتقده أكثر المصلين لانشغالهم عنه، وعدم اهتمامهم بحقوق الجار، فعزموا على أن يعطوا جيرانهم ما لهم من الحقوق عليهم، ويسألوا عنهم، ويتفقدوهم طوال العام.

لقد كان رمضان منبعا للإيمان والتقوى، وموردا لتزكية النفوس، وتقويم السلوك، ومعرفة الحقوق، صدر إليه المؤمنون فاغترف كل واحد منه ما اغترف، والموفق من أوفى بعهده مع الله تعالى، وأحسن في سائر الشهور كما أحسن في رمضان؛ لأنه يعبد الله عز وجل ولا يعبد رمضان، والله تعالى يجب أن يعبد في كل زمان ومكان وحال.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18-19].

العنصر الثالث : علامات قبول العمل

هو شهر رمضان قد نقضت خيامه، وتنكست أعلامه، وتصرمت ساعاته، وترحلت أوقاته، بعد أن بقي بيننا ثلاثين يوما كانت ميدانًا يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق فيه المتسابقون، ويحسن فيه المحسنون، تروضت فيه النفوس الطيبة على الفضيلة، وتربت فيه على الكرامة، وترفعت عن الرذيلة، وتعالت عن الخطيئة، واكتسبت فيه كل هدى ورشاد.

مضى رمضان وانقضى، وانفض سوق تجارته، وذهب إلى الله سبحانه محملا بأعمال العباد شاهدا لهم أو عليهم بما قدموا فيه، فياليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المردود فنعزيه؟

نعم، فقد ترك رمضان الناس بين رابح وخاسر، فالرابح فيه من وفق للطاعة، وقام بحق العبادة وأقبل على الله مجيبا داعي الطاعة، ومنادي السماء “يا باغي الخير أقبل”، فاجتهد في عبادته، ومنَّ الله عليه بالقبول فهو أهم من العمل.

والخاسر فيه مَنْ لَعِب ولَهَى، ونام وسهى، ولم يُقِم لله فيه حقا، ولا رعى له فيه حرمة، وكذا مَنْ فرَّط في أيامه، وبالغ في أحلامه، وأكثر من آماله، ولكنه سوف وأخر وأهمل في أعماله، وأشد خسارة من عمل وأتعب نفسه، وأضنى بدنه ولكنه فسدت نيته وساءت طويته، ولم يخلص لله في عمله، ومثله وأسوأ من أعجبته نفسه، وغره جهده وعمله، فمَنَّ به على الله، وأدلَّ بعمله على مولاه؛ فرده الله عليه، نعوذ بالله من الخذلان.

الخوف من عدم القبول

لقد كان هدي المرسلين، إتقان العمل، وشدة الخوف من الرد، وعادتهم الإلحاح على الله بطلب القبول.

هذا إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل يبنيان أعظم بيوت الله، في أعظم أرض الله وأحبها إليه، بأمر من الله، ويرفعان قواعد البيت، وهما يدعوان ربهما أن يتقبل منهما: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:127).

كان وهيب ابن الورد يقرأ هذه الآية ويبكي ويقول: “يا خليل الرحمن! ترفع قوائم البيت وأنت مشفق ألا يتقبل منك؟!”.

وهذه امرأة عمران تهب ما في بطنها لله تعالى ولخدمة بيته بيت المقدس، وتدعو بالقبول: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(آل عمران:35).

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “لأن أكون أعلم أن الله تقبل مني عملا أحب إلى من أن يكون لي ملء الأرض ذهبا”.

يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: لأن أستيقن أن الله تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(المائدة:27).

وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بهذا الوصف:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}(المؤمنون:57ـ61).

روى الإمام أحمد والترمذي، وغيرهما عن أم المؤمنِين عائِشة رضِي الله عنها قالت: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}(المؤمنون:60)، أَهُم الذين يَشْربون الْخَمْر وَيَسْرِقون؟ قال: لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).

قال العلامة المباركفوري في “تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي”: “أَيْ الذين يُعطون ما أعطوا مِن الصدقة وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة وقلوبهم وَجِلَةٌ أَيْ خَائِفَةٌ أَنْ لَا تُقْبَل مِنْهُم”.

علامات القبول وأسبابه

لقد أخفى الله القبول لتبقى القلوب على وجل، وأبقى باب التوبة مفتوحا لئلا ينقطع عن القلوب الأمل، وجعل العبرة بالخواتيم لئلا يحتقر أحَدٌ أحدا مهما بلغ من العمل، ولئلا يغتر أحد منا بما عمل.
ومع ذلك تبقى للقبول علامات تدل عليه، فمن ذلك ما يكون قبل العمل، ومنها ما يكون بعده:

فقبل العمل:

ـ الحرص على إتمام صورة العمل وهيئته، وإكماله والإتيان به على أحسن صورة وأجملها وأتمها وأحسنها، وأن يكون متابعا فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمام المتابعة قدر الإمكان.

ـ ثم الحرص على الإخلاص فيه لله تعالى وصدق النية وإرادة وجه العلي القدير سبحانه وتعالى.

ـ ثم الانكسار بين يدي الله، وعدم الإدلال بالعمل عليه، وإخفاؤه وعدم التحدث به وذكره للناس.

ـ ثم الإلحاح على الله بالقبول والرضا وعدم الرد وكثرة طرق باب القبول، كما ورد عن السلف أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يتقبله منهم.

واما بعد العمل، فللقبول أيضاً علامات منها:

ـ انشراح الصدر، وانفساح القلب، وخفة الظهر بعد أن انزاح عن كاهله ما كان يثقله من الأوزار كما قال الله تعالى لنبيه: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك}(الشرح:3:1).

ـ المسارعة في العبادات، والخفة إلى الطاعات، وعدم استثقال القربات، بل يحبها ويحب أهلها ويسعى إليها بحب وخفة.

ـ التوفيق للعبادات والطاعات

والقربات فإن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها كما قال بعض الصالحين.
ـ أن يكون الحال بعد الطاعة
أحسن منه قبلها، فيكون حالك بعد رمضان أحسن منه قبله، لا فيه، فإن في رمضان من موجبات الطاعة والمعينات والأسباب الميسرة لها ما ليس في غيره، وإنما يكون الحال أحسن منه قبل رمضان، كأثر من آثار قبول الطاعة فيه. قال ابن عطاء: “مَن وجد ثمرة عمله عاجلا، فهو دليل على وجود القبول آجلا”.

ومن أعظم علامات القبول:

المداومة على فعل الخيرات، وعدم الانقطاع عن العبادات، والاستقامة على القربات، فإن (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم: فقالت: (كان عمله ديمة)، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه (إذا عمل عملا أثبته)، يعني داوم عليه. وقد قال لعبد الله بن عمرو :(يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل) متفق عليه.

علامات الرد

وكما أن الاستقامة هي أعظم علامات القبول، فإن العودة إلى الذنوب، والنكوص على الأعقاب، والزهد في الطاعات، وتركها، والعودة إلى المعاصي واقترافها بعد انقضاء موسم العبادة من

أعظم علامات الرد.

فاحذر أن يضيع ما جمعتَه أو أن تهدم ما بنيته في رمضان بالعودة إلى المعاصي والذنوب بعده، فإن الشياطين تنتظرك بعد انطلاقها من حبسها وفكها من أسارها.

وقد حذرنا الله من هذا الارتداد على الأعقاب، وأن نكون مثل ريطة بنت سعد، وهي امرأة من قريش كانت تقضي يومها ونهارها تغزل غزلا رقيقا جميلا، فإذا جاء الليل أمسكت بطرف خيطها فنقضت ما عملته، وأفسدت كل ما صنعته، فحذرنا الله من مثل فعلها فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}(النحل:92).
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وكل عام وأنتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

لتحميل الخطبة pdf اضغط على الرابط  أدناه

khutbat eid alfitr almbarkyaseer

اترك تعليقاً