وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

الدرس الثاني والعشرون :﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها الصائمون: إن لوقت السحر فضائل عظيمة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(الذريات: ١٥-١٨)، ووقت السحر يكون في الثلث الأخير من الليل لحين طلوع الفجر، ففيه تتنزل الرحمات والبركات من الله عز وجل، ويشعر المسلم بالسكينة والطمأنينة التي تغمر قلبه، ويشرق النور على وجهه، بتقربه إلى خالقه الذى يناجيه بما يشاء، خاصة فى مثل هذه الليالى المباركات ليالى العشر الآواخر من رمضان؛ فعن عمرو بن عبسة قال: قلت يا رسول الله، هل من ساعة أقرب من الأخرى، أو هل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال ﷺ: «أقربُ ما يكونُ الربُّ من العبدِ في جوفِ الليلِ الآخرِ فإِنِ استطعْتَ أن تكونَ ممن يذكرُ اللهَ في تلْكَ الساعَةِ فكُنْ» رواه الترمذي والنسائى.

وقال رسول الله ﷺ قال: «ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَاءِ الدُّنيا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر فيقولُ: هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ؟» متفق عليه.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل أيّ الليل أفضل؟ فقال: «يا داود ما أدري، إلا أن العرش يهتز في السحر» رواه ابن أبي شيبة والإمام أحمد في الزهد.
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السَّحَر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء، والاستغفار حتى يصبح. رواه ابن أبي حاتم.
وعن محارب بن دثار عن عمه قال: كنت آتي المسجد في السحر، فأمرّ بدار عبد الله ابن مسعود، فأسمعه يقول: «اللهم أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا السحر؛ فاغفر لي»، فلقيت بن مسعود، فقلت له: كلمات سمعتك تقولهن في السحر، فقال: «إن يعقوب أخّر بنيه إلى السحر حين قال لهم:﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾(يوسف: ٩٨)،

وقال لقمان الحكيم لابنه: «يا بني، لا تكن أعجز من هذا الديك؛ يصوّت من الأسحار وأنت نائم على فراشك».

وقال موسى بن عيسى المُقرِئ: مضيتُ إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل، فقلتُ له: يا أبا عبدالله، قد ركبني دينٌ وأنا مغموم به، قال: عليك بالسَّحَر.

معاشر الصائمين: إن الاستغفار أعظم ما يدعو به المؤمن في وقت السحر فذاك دأب المتقين وراثي الجنان؛ قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾(آل عمران: ١٥-١٧)،

قال الحسن البصري: مَدّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار.

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السَّحر سبعين مرة.

وذكر الحافظ عبدالحق الإشبيلي أن أحد الصالحين رُئي في المنام في الجنة، فقيل له: بم نلت هذا؟ قال: بذلك التضرع والاستغاثة في الأسحار.

وصدق القائل:
وَاذْكُرْ وقُوفَكَ في المَعَادِ وَأَنْتَ في
كَرْب الحِسَابِ وَأَنْتَ عَبْدًا مُفْْرَدًا
سَوَّفْتَ حَتَّى ضَاعَ عُمْرُكَ بَاطِلًا
وَأَطَعْتَ شَيْطَانَ الغِوَايَةِ وَالعِدَا
فَانْهَضْ وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَقُمْ إلى
بَابِ الكَرِيْمِ وَلُذْ بِهِ مَتَفَرِّدًا
وَادْعُوهُ في الأَسْحَارِ دَعْوَةَ مُذْنِبٍ
وَاعْزِمْ وَتُبْ وَاحْذَرْ تَكُنْ مُتَرَددًا
وَاضْرَعْ وَقُلْ يَا رَبِّ جِئْتُكَ أَرْتجي
عَفْوًا وَمَغْفِرَةً بِهَا كَيْ أَسْعَدَا
فَلَعَلَّ رَحْمَتَهُ تعُم فإِنَّهَا
تَسَعُ العِبَادَ وَمَنْ بَغَى وَمَن اعْتَدى.

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «سيِّدُ الاستغفارِ أنْ يقولَ العبدُ : اللَّهمَّ أنتَ ربِّي وأنا عبدُكَ لا إلهَ إلَّا أنتَ خلَقْتَني وأنا عبدُكَ أصبَحْتُ على عهدِكَ ووَعْدِكَ ما استطَعْتُ أعوذُ بكَ مِن شرِّ ما صنَعْتُ وأبوءُ لكَ بنعمتِكَ علَيَّ وأبوءُ لكَ بذُنوبي فاغفِرْ لي إنَّه لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ» صحيح ابن حبان.

معاشر الصائمين: إن دعوة السحر غنيمة ربانية؛ فينبغي الحرص عليها، ولو لبضع دقائق فهي أرجى موطن تقضى فيه الحاجات، فليس بفقيه من كان له إلى الله حاجة، فنام عنها في الأسحار لا سيما ونحن نعيش في رحاب العشر الآواخر من رمضان؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، وقال تعالى:﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانَ النبيُّ ﷺ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قالَ: «اللَّهُمَّ لكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ لكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ الحَقُّ ووَعْدُكَ الحَقُّ، ولِقَاؤُكَ حَقٌّ، وقَوْلُكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ ﷺ حَقٌّ، والسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لكَ أسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أنَبْتُ، وبِكَ خَاصَمْتُ، وإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنْتَ المُقَدِّمُ، وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلَّا أنْتَ» رواه البخارى.

وعنه كان النَّبيُّ ﷺ يدعو بهذا الدعاء: «رَبِّ أعِنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصُرْني ولا تنصُرْ عليَّ، وامكُرْ لي ولا تمكُرْ عليَّ، واهْدِني ويَسِّرْ هُدايَ إليَّ، وانصُرْني على من بغى عليَّ، اللَّهُمَّ اجعَلْني لك شاكِرًا، لك ذاكِرًا، لك راهِبًا، لك مِطواعًا، إليك مُخبِتًا أو مُنيبًا، رَبِّ تقَبَّلْ توبتي، واغسِلْ حَوْبتي، وأجِبْ دَعوتي، وثَبِّتْ حُجَّتي، واهْدِ قَلبي، وسَدِّدْ لِساني، واسْلُلْ سَخيمةَ قلبي» رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه.

واحرصوا عباد الله: على دعاء ليلة القدر؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت:«قلتُ : يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةِ القدرِ ما أقولُ فيها ؟ قال : قولِ: اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» رواه الترمذي والنسائى وابن ماجه.

واعلموا معاشر الصائمين: أنه لا بد من حضور القلب عند الدعاء، فينبغى أن يكون الدعاء مصحوباً بالرجاء؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «قال اللهُ عز وجل: يا ابنَ آدمَ! إنك ما دعوْتَنِي ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ ! لو بلغت ذنوبُك عنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ ! إنك لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتَني لا تُشركُ بى شيئًا؛ لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً» رواه الترمذي، وأحمد.

معاشر الصائمين: إن العشر الآواخر من رمضان ساحة للتنافس فى الخيرات، وميدان رحب للعباد الذين يلتمسون أجر ليلة القدر، فما بالكم إذا كان وقت السحر له من الفضائل ما قد علمتم، فكيف إذا كان وقت السحر فى العشر الآواخر من رمضان فى تلك الليالى الطيبات المباركات التى ترجى فيها خير ليلة على الإطلاق وهي ليلة القدر، ألا يدفعنا هذا إلى الجد والإجتهاد فى وقت السحر بالدعاء والإستغفار والتذلل بين يدى ربنا الرحمن الرحيم؟!

يانفس توبي فإن الموت قد حانا
واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطًا
فتلحق أُخرانا بأُولانا
في كل يوم لنا مَيْتٌ نشيعه
نرى بمصرعه آثار موتانا
أسأل الله تعالى لى ولكم القبول والعتق من النيران والفوز بالجنان.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وأحشرنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
السبت ٢٢ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ٢٢ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *