ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها قال: ثم أيٌّ؟ قال: ثم برُّ الوالدين قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني
بر الوالدين يفرج الله به الهموم:
ففي الصحيحين عن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكُنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أُرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كُنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرِّج عنَّا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنتُ عمٍّ كانت أحب الناس إليَّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألَمَّت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تُخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أُحل لك أن تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كُنت فعلت ابتغاء وجهك، فافرُج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرت أجره حتى كثُرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله، فاستاقه فلم يترك منه شيئًا، اللهم فإن كُنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرُج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون
بر الوالدين جهاد في سبيل الله:
ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد
روى الحاكم ، عن معاوية بن جاهمة أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أردت أن أغزو وجئت أستشيرك، فقال: ألك والدة؟ قال: نعم قال: اذهب فالزمها، فإن الجنة عند رجليها
حسن مصاحبة الوالدين من الوفاء:
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله من أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: أمُّك قال: ثُم من؟ قال: ثم أمك قال: ثم من؟ قال: ثم أمك قال: ثم من؟ قال ثم أبوك ففي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلت وهي راغبةٌ، أفأصل أُمي؟ قال: نعم صِلِي أُمَّك
وجود والديك على ظهر الدنيا فرصة لدخول الجنة:
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة
صلة أصدقاء الوالد من تمام البر: روى مسلم عن عبد الله بن عُمر أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل وُدِّ أبيه
أبو هريرة رضي الله عنه: كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال: السلام عليكم يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرًا.
* عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: طلبت أمه في إحدى الليالي ماء، فذهب ليجئ بالماء فلما جاء وجدها نائمة، فوقف بالماء عند رأسها حتى الصباح، فلم يوقظها خشية إزعاجها، ولم يذهب خشية أن تستيقظ فتطلب الماء فلا تجده
وهناك من رفع البر ذكره وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم به وذكر اسمه، نسبه، وصفاته لأصحابه، فكان إذا أتى على عمر بن الخطاب أمدَاد أهلِ اليمن الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو، يسأل عنه، حتى وصل إليه. وجاء في صحيح مسلم:«كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي، فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلى
العنصر الثانى : البر بعد الموت
ثبت عن النبي ﷺ أنه سأله سائل فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما، فقال عليه الصلاة والسلام: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما هذا كله من بر الوالدين بعد وفاتهما.
الاستغفار لهما: وممن ذُكِر بِرُّهم في القرآن الكريم، نوح – عليه السلام، حيث قال: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28]. وقال إبراهيم – عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» صحيح رواه أحمد في “المسند”.
وقال أبو هريرة – رضي الله عنه -: (تُرفع للميت بعد موته درجته. فيقول: أي ربِّ! أي شيء هذه؟ فيقال: ولدُك استغفرَ لك) حسن – رواه البخاري في “الأدب المفرد”.
الدعاء لهما: عن أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم. فبيَّن الحديث أنَّ عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع عنه تجدد الثواب إلاَّ في هذه الأشياء الثلاثة، ومنها: دعاء الولد الصالح؛ لأنه كان سبباً في وجوده وصلاحه، وإرشاده إلى الهدى.
قضاء الدين عنهما: عن أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» صحيح رواه الترمذي وابن ماجه.
ولحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رضي الله عنهما -؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ» رواه مسلم.
قضاء النذور عنهما: كنذر الصيام، والحج أو العمرة، أو غير ذلك مما تدخله النيابة.
قضاء الكفارات عنهما: ككفارة اليمين، وكفارة قتل الخطأ، وغير ذلك؛ لدخول هذه الواجبات في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: «لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟». قَالَ نَعَمْ. قَالَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» رواه مسلم. فكل الديون الواجبة لله تعالى؛ من الكفارات، والنذور، وفرض الحج، والعمرة، والصوم، تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».
تنفيذ وصيتهما إنْ كان لهما وصية: وإنفاذ الوصية واجب، والإسراع بالتنفيذ: إما واجب أو مستحب، فإنْ كانت في واجبٍ فللإسراع في إبراء الذمة، وإنْ كانت في تطوع؛ فللإسراع في الأجر لهما، وينبغي أن تُنفذ الوصية قبل الدفن، بمقدار الثلث فأقل.
قضاء صيام رمضان عنهما: لحديث ابن عباس السابق: والشاهد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» رواه مسلم. وفيه دليل على أنَّ الصوم يُقضى عن الميت، سواء كان الصوم عن فرض أو عن نذر. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ؛ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» متفق عليه. قال ابن حجر – رحمه الله – في قوله: «صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»: (هذا خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور)؛ لأن الولي محسن، وما على المحسنين من سبيل، وله أجر الدلالة على الخير.
صلة الرحم التي لا توصل إلاَّ بهما: لحديث أبي بُردة – رضي الله عنه – قال: قَدِمتُ المدينةَ فأتاني عبدُ الله بنُ عمر – رضي الله عنهما – فقال: أتدري لِمَ أتيتُكَ؟ قلت: لا، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أحَبَّ أنْ يَصِلَ أباه في قبره؛ فَلْيَصِلْ إخوانَ أبيه بعدَه [أي: أصدقاء أبيه من بعد موته]، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاءٌ وَوُدٌ، فأحببتُ أنْ أصِلَ ذاك. حسن رواه ابن حبان في “صحيحه”؛ وأبو يعلى في “مسنده”.
إكرام صديقهما من بعدهما: عن ابن عمر – رضي الله عنهما -؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» رواه مسلم.
قال النووي – رحمه الله -: (وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم بإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه، وتلتحق به أصدقاء الأم، والأجداد، والمشايخ، والزوج والزوجة). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاةَ؛ يقول: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ» رواه مسلم.
وإذا كان من الإحسان إلى الميت الإحسانُ إلى أصدقائه؛ فالأب والأُم أَولى بذلك الإحسان في حياتهما، وبعد موتهما.
الاعتراف بفضلهما، والثناء عليهما: فعن أبي مُرَّة؛ مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالبٍ: (أنه ركب مع أبي هريرة – رضي الله عنه – إلى أرضه بـ”العقيق” فإذا دخل أرضَه صاح بأعلى صوته: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته يا أُمَّتاه! تقول: وعليكَ السلام ورحمة الله وبركاته. يقول: رحمكِ اللهُ؛ كما ربَّيتيني صغيراً. فتقول: يا بُنَيَّ! وأنت، فجزاك الله خيراً، ورضي عنك؛ كما بَرَرْتَني كبيراً) حسن – رواه البخاري في “الأدب المفرد”. فالاعتراف بفضل الوالدين – بعد وفاتهما – والثناء عليهما من أعظم البر.
وهنا مسألة مهمة تتعلق بالاستغفار للوالدين: إذا كان الوالدان كافرَين أو أحدُهما كافراً؛ فهل يجوز لولده أنْ يستغفر له؟
الجواب: لا خلاف بين العلماء في أنه لا يُدعى بالمغفرة والرحمة للكافر الذي مات على الكفر.
قال النووي – رحمه الله -: (الصلاة على الكافر، والدعاء له بالمغفرة حرام؛ بنص القرآن والإجماع). وقال ابن تيمية – رحمه الله -: (الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنَّة والإجماع).
إذاً؛ لا بأس أن يدعوَ الرجل لأبويه الكافرين بالهداية والمغفرة ما داما حيَّيْن، فأمَّا مَن مات: فقد انقطع عنه الرجاءُ فلا يُدعى له.
ومن الأدلة الصريحة في منع الاستغفار للوالد الذي مات كافراً: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي» رواه مسلم.
قال ابن كثير – رحمه الله -: (استغفرَ إبراهيمُ – عليه السلام – لأبيه مدةً طويلة، وبَعد أنْ هاجَرَ إلى الشام، وبنى المسجدَ الحرام، وبَعد أنْ وُلِدَ له إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام، في قوله: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
واستغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام؛ اقتداءً بإبراهيم الخليل في ذلك، حتى أنزل الله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الممتحنة: 4]، يعني: إلاَّ في هذا القول، فلا تتأسوا به.
ثم بيَّن -تعالى- أنَّ إبراهيمَ أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]) انتهى كلام ابن كثير.
أيها الإخوة الكرام.. فَمَنْ فاته الإحسانُ إلى والديه في حياتهما؛ فقد جعل الله تعالى له ذلك بعد موتهما، سواء كان ذلك بالصدقة عليهما، أو بالاستغفار لهما، أو الدعاء، أو قضاء الديون، والنذور، والكفارات، أو إنفاذ عهدهما من بعدهما، أو صلة الرحم التي لا توصل إلاَّ بهما، أو صلة أهل وُدِّهما، أو بالاعتراف بفضلهما، والثناء عليهما، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما.
العنصر الثالث : خطورة العقوق
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله: قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. رواه البخاري ومسلم
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان عطاءه. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث والرجلة. رواه النسائي
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله . رواه أحمد.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يقبل الله عز وجل منهم صرفا ولا عدلا: عاق ولا منان ومكذب بقدر. رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن صحيح
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه . رواه البخاري ومسلم
وفي رواية للبخاري ومسلم : إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه : قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه .
وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت رمضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا ونصب أصبعيه ما لم يعق والديه . رواه أحمد والطبراني.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال : لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك الحديث . رواه أحمد وغيره وتقدم في ترك الصلاة بتمامه.
وجاءفي اللواط حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال ملعون من عمل عمل قوم لوط … ملعون من عق والديه . الحديث رواه الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد.
وجاء أيضا حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير تخوم الأرض، ولعن الله من سب والديه . الحديث رواه ابن حبان في صحيحه.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يراح ريح الجنة من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها منان بعمله ولا عاق ولا مدمن خمر . رواه الطبراني في الصغير
وجاء في شرب الخمر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه . رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد
فهذا شيء يسير مما ورد في الوعيد والترهيب من عقوق الوالدين، وفيه بيان أن العقوق من أكبر الكبائر، وأن الجنة حرام على العاق، وغيره من الوعيد والتهديد
فالعاقل الناصح لنفسه لا يقدم على هذا الذنب العظيم ولا يتصف بهذا الوصف الذميم.
أما حدود كل طرف تجاه الآخر فقد بين الله عز ما يجب على الولد نحو والده في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا{الإسراء:23}
الإحسان إليهما والإحسان بابه واسع، سواء كان في الأقوال أو الأفعال، فكل ما هو معروف عند الناس أنه من الإحسان فالوالدان أولى به. ما لم يكن معصية.
عدم التضجر منهما بكل قول ولو بقول أف وهو أدنى درجات التضجر.
عدم نهرهما أي زجرهما ورفع الصوت عليهما.
إلانة القول لهما وقل لهما قولا كريما أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم.
خفض الجناح لهما والتواضع لهما والرفق بهما.
الدعاء لهما وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا مثل رحمتهما إياي في صغري حتى ربياني ولا فرق بين الوالد المحسن الرفيق بولده في هذه الحقوق مع الوالد الفظ الغليظ.
فهذا بعض مما يجب على الولد تجاه والده في باب المعاملة، أما الوالد فيجب عليه أن يرفق بولده وأن يعامله معاملة طيبة لقوله تعالى : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا {البقرة: 83 } والولد أولى من غيره بذلك وأن ينفق عليه ما دام فقيرا صغيرا ،