خطبة بعنوان ( أَوَّلُ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ ) لفضيلة الشَّيْخِ مُحَمَّدِ سَيِّدِ

جَمْعُ وَتَرْتِيبُ فضيلة الشَّيْخِ : مُحَمَّدِ سَيِّدِ حُسَيْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ .
إِدَارَةُ اوِقَافِ الْقَنَاطِرِ الْخَيْرِيَّةِ .

✍: العناصر:
✍: الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بَاقِيَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ .
✍: مِنْ بَرَكَاتِ الِابْتِلَاءِ انْتِقَاءُ الشُّهَدَاءِ.
✍: سُمَيَّةُ بِنْتُ خَبَّاطٍ مِثَالٌ وَقُدْوَةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

الْمَوْضُوعُ
أَمَّا بَعْدُ فَيَقُولُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة التوبة.

اِيُّهَا اَلْإِخْوَةُ اَلْكِرَامُ : إِنَّ اَلصِّرَاعَ بَيْنَ اَلْحَقِّ وَبَيْنَ اَلْبَاطِلِ صِرَاعٌ قَدِيمٌ . .
{ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ حِينَ } سُورَةِ الْأَعْرَافِ
وَإِنَّ الْمُنَازَعَةَ وَالْمُوَاجَهَةَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنَ الشَّرِّ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا . .

وَإِنَّ ابْتِلَاءَ الطَّائِفَةِ الْمُؤْمِنَةِ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . .{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }سورة العنكبوت.

اَلْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُصِيبُ الطَّائِفَةَ الْمُؤْمِنَةَ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِ الْعَبْدِ ، وَعَلَى صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِ ، وَعَلَى ثَبَاتِهِ عَلَى الْحَقِّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَّخِذُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ . .

سَجَدَ سَحَرَةُ الْفِرْعَوْنِ وَقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ، قَالُوا لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .

مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُصِيبُ الطَّائِفَةَ الْمُؤْمِنَةَ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِ الْعَبْدِ وَعَلَى صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِ وَعَلَى ثَبَاتِهِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا . .

مِنْ بَرَكَاتِ الِابْتِلَاءِ أَنْ يَنْتَقِيَ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادًا يَضَعُ عَلَى صُدُورِهِمْ وِسَامَ الشَّرَفِ حِينَ يَخْتَارُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى شُهَدَاءَ فِي سَبِيلِهِ . .

قَالَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ :{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} سورة آل عمران.

وَإِذَا كَانَ حَدِيثُنَا الْيَوْمَ ، وَنَحْنُ فِي رَمَضَانَ ، شَهْرِ جِهَادِ النَّفْسِ ، شَهْرِ جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، شَهْرِ بَذْلِ الرُّوحِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، الشَّهْرُ الَّذِي فَازَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ بِالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى . .
فَسَوْفَ يَنْتَظِمُ الْحَدِيثُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَوَّلِ دَمٍ سُفِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَأَوَّلِ رُوحٍ فَاضَتْ إِلَى بَارِئِهَا ، وَأَوَّلِ مَنْ فَازَ بِالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . .

فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ آيَةٌ يَقُولُ فِيهَا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} سورة الأحزاب.

اَلْبُطُولَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَخُصُّ لَوْنًا مُعَيَّنًا ، وَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى جِنْسٍ بِعَيْنِهِ وَلَا تَنْحَصِرُ فِي عِرْقٍ دُونَ عِرْقٍ ، اَلرُّجُولَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَعْنِي الذُّكُورَةَ ، إِنَّمَا الْبُطُولَةُ وَالرُّجُولَةُ فِي الْإِسْلَامِ صِفَاتٌ وَأَخْلَاقٌ وَمَوَاقِفُ مَنْ أَتَى بِهَا وُصِفَ بِالرُّجُولَةِ وَلَوْ كَانَ فِي الْأَصْلِ إِنْثَى . .

{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} سورة الأحزاب.

وَبَطَلُ الْيَوْمَ ، وَصِفَةُ الرُّجُولَةِ الْيَوْمَ فِي حَقِّ سَيِّدَةٍ مِنْ السَّيِّدَاتِ اللَّاتِي سَبَقَتْ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَبَدَأَتْ رِحْلَةَ الْكِفَاحِ وَالنِّضَالِ وَالْجِهَادِ قَبْلَ غَيْرِهَا مِنْ النَّاسِ . .

إِنَّهَا ( سُمَيَّةُ بِنْتُ خَبَّاطٍ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا

أُمُّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، سَيِّدَةٌ سَبَقَتْ الْجَمِيعَ ، هِيَ وَزَوْجُهَا وَوَلَدُهَا ، أَوَّذُوا فِي اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَى أَحَدٌ ، وَجَادُوا قَبْلَ أَنْ يَجُودَ أَحَدٌ ، وَبَذَلُوا قَبْلَ أَنْ يَبْذُلَ أَحَدٌ ، وَلِهَذِهِ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَفَحَاتٌ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ . .

إِنَّهَا ( سُمَيَّةُ بِنْتُ خَبَّاطٍ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا

سُمَيَّةُ بِنْتُ خَبَّاطٍ : صَحَابِيَّةٌ مَكِّيَّةٌ جَلِيلَةٌ كَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا يَاسِرُ بْنُ عَامِرٍ الْعَنْسِيُّ وَابْنُهُمَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ بَنِي هَاشِمٍ .

كَانَتْ سُمَيَّةُ وَزَوْجُهَا وَوَلَدُهَا سَابِعَ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بِسَبَبِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ ، لَمْ يَفْلِتْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ التَّنْكِيلِ وَالتَّعْذِيبِ . .

كَانَ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِنْ الْأَذَى وَالصَّبْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَكَانَ لِلنِّسَاءِ أَيْضًا نَصِيبٌ . .
أَنْ نَعْجَبَ مِنْ صَبْرِ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ ، أَنْ نَعْجَبَ مِنْ صَبْرِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ فَأَعْجَبُ مِنْهُ صَبْرُ النِّسَاءِ أَمْثَالُ : ( فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطَّابِ ، وَلَبِيبَةَ جَارِيَةِ بَنِي الْمُؤَمَّلِ ، وَزُنَيْرَةَ الرُّومِيَّةِ ، وَالنَّهْدِيَّةِ وَابْنَتِهَا ، وَأُمِّ عُبَيْسٍ ، وَحَمَامَةَ أُمِّ بِلَالٍ ) وَغَيْرِهِنَّ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُنَّ . .

إِلَّا أَنَّ مَا أَصَابَ أُمَّ عَمَّارٍ ( سُمَيَّةَ بِنْتَ خَبَّاطٍ ) مِنْ الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ هُوَ الْأَعْنَفَ ، وَهُوَ الْأَقْسَى ، وَقَدْ كَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَجُوزًا فَقِيرَةً ضَعِيفَةً ، لَكِنَّهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ شَابَّةً فِي عُلُوِّ هِمَّتِهَا ، غَنِيَّةً بِرَبِّهَا ، قَوِيَّةً بِإِيمَانِهَا رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا . .

سُمَيَّةُ بِنْتُ خَبَّاطٍ : هِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَظْهَرَتْ الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَخْشَى فِي اللَّهِ أَحَدًا . .

قَالَ مُجَاهِدٌ : ” أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ :
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ ، وَخُبَّابُ بْنُ الْأَرْتِ ، وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ . .

لَمَّا أَسْلَمَتْ سُمَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَسْلَمَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ وَأَسْلَمَ وَلَدُهَا عَمَّارٌ وَأَسْلَمَ أَخُوهَا ، غَضِبَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو مَخْزُومٍ غَضَبًا شَدِيدًا ، وَصَبُّوا عَلَيْهِمْ الْعَذَابَ صَبًّا . .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } سُورَةِ الْبُرُوجِ .
كَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَبِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إِسْلَامٍ كَانُوا يَخْرُجُونَ بِهِمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ حَتَّى إِذَا حَمِيَتْ الشَّمْسُ ، عَذَّبُوهُمْ بِرِمَالِ مَكَّةَ الَّتِي تَكَادُ تَشْتَعِلُ نَارًا . .

وَيَمُرُّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَيَرِقُّ لَهُمْ وَتَدْمَعُ عَيْنَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا . .

اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبَشِّرَهُمْ فَيَقُولَ : ( صَبْرَا آلِ يَاسِرٍ ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةُ ) فَيَسْتَبْشِرُونَ خَيْرًا وَ يَأْبَى يَاسِرٌ ، وَيَأْبَى عَمَّارٌ ، وَتَأْبَى سُمَيَّةُ إِلَّا الْإِسْلَامَ “

عَذَبُوهُمْ لِيَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ ، لِيَتَنَصَّلُوا عَنْ أَخْلَاقِهِمْ ، وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَمْ يُعْطُوهُمْ مَا أَرَادُوا ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَحْتَ وَطْأَةِ الْعَذَابِ أَجَابَهُمْ بِلِسَانِهِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ لِمَا أَرَادُوا فَذَكَرَ اللَّآتِ وَالْعِزَى بِخَيْرٍ . .

فَلَمَّا فَعَلَ تَرَكُوهُ . . فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ عَمَّارًا قَدْ كَفَرَ . . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كَلَّا ، إِنَّ عَمَّارًا مُلِئَ إِيمَانًا مَنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ ، وَاخْتَلَطَ الْإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ » .

ثُمَّ إِنَّ عَمَّارَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكَى ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ : « يَا عَمَّارُ مَالِكٍ؟! ، إِنْ عَادُوا فَعِدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ »
يَا عَمَّارٌ : « كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟
قَالَ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إِنْ عَادُوا فَعَدْ » وَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ { إِلَّا مَنْ أَكْرَهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلْإِيمَنِ }

وَامَّا بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ : فَإِنَّهُ ثَبَتَ وَتَحَمَّلَ مَا لَا يُحْتَمَلُ فَجَعَلُوا يُضَاعِفُونَ الْعَذَابَ ، وَهُوَ يُرَدِّدُ بِقَوْلِهِ أَحَدُ أُحُدٍ ، فَيَشْتَاطُوا غَيْظًا فَيُعَاوِدُ وَيَقُولُ « وَاَللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَغْيَظُ لَكُمْ مِنْهَا لَقُلْتُهَا » رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ .

وَأَمَّا سُمَيَّةُ فَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ ضَعْفِهَا وَقِلَّةِ حَيلَتِهَا إِلَّا أَنَّهَا عَلَى الْإِيمَانِ ثَبَتَتْ وَجَعَلَتْ تَرُدُّ عَلَى قُرَيْشٍ لَا تَخْشَاهُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى . .

قُلْتُ : رَغْمَ أَنَّهَا كَامْرَأَةٍ عَجُوزٍ ضَعِيفَةٍ لَوْ أَجَابَتْهُمْ لِمَا أَرَادُوا لَمَا عَتَبَ عَلَيْهَا أَحَدٌ ، لَكِنَّهَا آثَرَتْ أَنْ تَبِيعَ نَفْسَهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . .

قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ” جَعَلُوا يَقْتُلُوهَا فَتَأَبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ “

فَمَا كَانَ مِنْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ إِلَّا أَنْ هَزَّ حَرْبَتَهُ ثُمَّ رَمَا بِهَا سُمَيَّةَ ، لِتَقَعَ مِنْهَا فِي مَقْتَلٍ ، ثُمَّ رَبَطَهَا بَيْنَ جَمَلَيْنِ ثُمَّ أَرْسَلَ جَمَلًا إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ إِلَى الْمَغْرِبِ فَيَنْشَقُّ جَسَدُهَا نِصْفَيْنِ لَا يَصْرِفُهَا ذَلِكَ عَنْ دِينِهَا لِتُكْتَبَ سُمَيَّةُ أَوَّلَ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ ، وَاوِّلَ مَنْ جَادَتْ بِرُوحِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، سَبَقَتْ فِي ذَلِكَ جَمِيعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ..

وَفِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ ولكن لَا تَشْعَرُونَ } سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَمِنْ هَذَا الْيَوْمِ لَقَّبَ رَسُولُ اللَّهِ عَمْرُو بْنَ هِشَامٍ بِأَبِي جَهْلٍ ، وَدَارَتْ الْأَيَّامُ دَوْرَتَهَا ، وَانْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِأُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ الَّذِي قَتَلَ سُمَيَّةَ ، وَاَلَّذِي عَذَّبَ بِلَالًا ، وَاَلَّذِي آذَى حَمَامَةَ أُمَّ بِلَالٍ ، وَشَارَكَ فِي قَتْلِ هَذَا الْمُجْرِمِ بَعْضُ أُولَئِكَ الَّذِينَ عُذِّبُوا عَلَى يَدَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا لِيَشْفِيَ اللَّهُ بِمَقْتَلِهِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . .

قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ لَمَّا قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمَارٍ : قَتَلَ اللَّهُ قَاتِلَ أُمِّكَ ” .

قُتِلَ عَدُوُّ اللَّهِ وَلَمْ تَبْقَ إِلَّا غَدَرَاتُهُ وَفَجَرَاتُهُ سَبَّةً فِي تَارِيخِهِ وَسِيرَتِهِ . .

أَمَّا سُمَيَّةُ وَأَمَّا يَاسِرٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَبَقِيَتْ لَهُمْ آثَارُهُمْ الصَّالِحَةُ وَسِيَرُهُمْ الْمُشَرَّفَةُ سَجَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ . .

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }سورة آل عمران.

نُسَالُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَرْزُقَنَا الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى الْمَمَاتِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَمَوْلَاهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . .

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ : بَقِيَ لَنَا وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنْ الْمَكَانَةِ الْعُظْمَى الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلشُّهَدَاءِ . . بَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ قَصَدْتُ قَصْدًا أَنْ أَتَكَلَّمَ عَنْ أُمِّ عَمَّارٍ ، اَلصَّحَابِيَّةِ الْجَلِيلَةِ ، الْمُؤْمِنَةِ الصَّابِرَةِ ، سُمَيَّةَ بِنْتِ خَبَّاطٍ ، سَيِّدَةٍ مِنْ السَّيِّدَاتِ ، صَحَابِيَّةٍ مِنْ الصَّحَابِيَّاتِ ، أُقَدِّمُهَا قُدْوَةً لِنِسَاءِ الْيَوْمِ . .

سُمَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : قُدْوَةٌ وَمِثَالٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ الصَّابِرَةِ الَّتِي تُحْسِنُ التَّبَعُّلَ وَتَرْعَى حَقَّ زَوْجِهَا وَأَوْلَادِهَا . .

سُمَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : قُدْوَةٌ وَمِثَالٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ الَّتِي تَعْرِفُ قِيمَةَ دِينِهَا فَتَتَمَسَّكُ بِهِ وَتَعُضُّ عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ . .

قُدْوَةٌ وَمِثَالٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ الَّتِي تُحَافِظُ عَلَى حَيَاءِهَا وَأَخْلَاقِهَا كَمُسْلِمَةٍ وَلَا تَبِيعُ دِينَهَا مَهْمَا كَانَتْ الْمُغْرِيَاتُ . .

اللَّاتِي مِنْهُنَّ مَنْ لَا يَعْرِفْنَ عَنْ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمَهُ ، وَلَا عَنْ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمَهُ . .

أَقْدَمُ الْيَوْمَ سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ اوَلُ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ ، اوَلُ مَنْ بَذَلَتْ الرُّوحَ لِلَّهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ . .

أُقَدِّمُهَا أَيْضًا مِثَالًا يُحْتَذَي لِلشَّبَابِ ، الْأَشِدَّاءِ ، الْأَبْطَالِ ، الْمَغَاوِيرِ ، فَسَمِّيَةُ امْرَأَةٍ ، ثُمَّ هَى عَجُوزٌ ضَعِيفَةٌ ، ثُمَّ هَى فَقِيرَةٌ مُعْدَمَةٌ ، وَرَغْمَ كُلِّ الْمُعَوِّقَاتِ إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَقِفْ عَاجِزَةً بَلْ سَعَتْ وَتَحَرَّكَتْ وَقَدَّمَتْ مَا تَسْتَطِيعُ وَعَمِلَتْ لِدِينِ اللَّهِ . .

سُمَيَّةُ امْرَأَةٌ ، ثُمَّ هَى عَجُوزٌ ضَعِيفَةٌ ، ثُمَّ هَى فَقِيرَةٌ مُعْدَمَةٌ ، وَرَغْمَ كُلِّ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ أَبَدًا مِنْ الَّذِينَ يَبِيعُونَ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا . .

جَادَتْ سُمَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِرُوحِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَمَاذَا خَسِرَتْ ؟
خَسِرَتْ دُنْيَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، خَسِرَتْ حَيَاةً بَائِسَةً ، خَسِرَتْ عِظَامًا ضِعَافًا ، خَسِرَتْ شُعَيْرَاتٍ ، لَكِنَّهَا فَازَتْ بِجَنَّةٍ عُرْضُهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ . .

فَلِلَّهُ دَرَّهَا ، فَقَدْ رَبِحَ بَيْعَهَا وَفِيهَا أَوَّلًا وَفِيمَنْ سَارَ عَلَى طَرِيقِهَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ : ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ ﴾

أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أَنْ يُلْحِقَنَا بِأُولَئِكَ الْأَطْهَارِ ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا مَعَهُمْ ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *