
خطبة الجمعة القادمة تحت عنوان: (تعزيز الهوية ودورها في صناعة الحضارة)
الجمعة 7 من رمضــان 1446هـ – الموافق 7 من مـــــــارس 2025م
إعداد فضيلة الشيخ : عادل عبدالكريم توني إبراهيم
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف
عناصر الخطبة :
١- المقصود بالهوية الإسلامية .
٢- فريضة الصيام والحفاظ على الهوية .
٣- شهر رمضان ونهضة الأمة .
٤- مما يميز عبادة الصيام في الإسلام أنها تتوافق مع الفطرة الإنسانية.
الخطبة الأولي :
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام….. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المسلمون :
يقول الله تعالي : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: من الآية 3].
جاء الإسلام دينًا كاملاً: – وأمر الله تعالي أهل الإسلام ألا يحيدوا عنه وإلا ضلوا: فقال سبحانه وتعالي :﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[ الأنعام: 153]
روي الإمام أحمد – رحمه الله – عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه – قال :خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِه ثم قال : هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال : هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ “
وأمر الله عباده المسلمين أن يتميزوا عن الأمم الأخرى بمنهجهم وهويتهم الوسطية: قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]،
وقال تعالي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: من الآية 110].
فالمقصود بالهوية الإسلامية: كل ما يميز المسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى، وقوام هويتهم هو الإسلام وعقيدته وشريعته وآدابه ولغته، وتاريخه وحضارته .
للمسلمين ما يميزهم عن غيرهم في العبادات: وعند النداء للصلاة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَ النَّاسَ لِمَا يُهِمُّهُمْ إِلَى الصَّلاةِ، فَذَكَرُوا الْبُوقَ فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ ذَكَرُوا النَّاقُوسَ فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى” [رواه ابن ماجه، وصححه الحافظ ابن حجر]. وقال صلى الله عليه وسلم: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلا خِفَافِهِمْ» [رواه أبو داود، ]
و في السلوك والمظاهر الاجتماعية: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَلا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشَارَةُ بِالأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشَارَةُ بِالأَكُفِّ»[رواه الترمذي].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤاكل ويُشارب ويباشر زوجته وهى حائض، خلافًاً لليهود. –
و في الهيئة والصورة: قال صلى الله عليه وسلم : «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى» [متفق عليه] .
فعلي المسلمين أن يعتزوا بدينهم ، قال الله تعالي : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[فصلت:33].
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه : ” إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله”. رواه الحاكم وغيره .
(٢)- الصيام والحفاظ على الهوية .
الصوم في الإسلام عبادة عظيمة، ولعظمتها نالت الركنية في مبنى الإسلام العظيم،
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا “أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).
فلا غرابة أن يشتمل هذا الركن على مقاصد جليلة ، من أهم تلك المقاصد الحفاظ على الهوية الإسلامية، وتجديد الخصوصية لهذه الأمة ببعض أحكامه وتعاليمه التي تميزت به هذه الأمة من بين الديانات والثقافات المختلفة.
فالشريعة كلها بما فيها الصوم حافظت على بناء الخصوصية لهذه الأمة، بناء على طبيعة وجودها الخاتم، ووسطيتها في كل شيء،
فجاء الصوم مؤكدا لهذا المعنى من خلال النهي عن التشبه بالأمم الأخرى في بعض الأحكام والتعاليم .
من ذلك: التوجيه بتعجيل الفطر مخالفة لليهود ففي سنن النسائي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، عجلوا الفطر؛ فإن اليهود يؤخرون».
ومن ذلك: النهي عن تخصيص يوم السبت بالصوم، فعن عبد الله بن بُسْرٍ، عن أُختِهِ الصمَّاءِ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افتُرضَ عليكُم، فإِنْ لم يجِد أحدُكم إِلاَّ لحاءَ عِنَبَةٍ، أو عودَ شجرةٍ فليمضغهُ» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
والمراد بالنهي في هذا الحديث إفراد السبت بالصوم، لا الصوم مطلقًا، فلو صام يوما قبله أو بعده، أو وافق يوما يشرع صومه مثل يوم عرفة فلا ينهى عنه،
والشاهد في الحديث هو التأكيد على فطر يوم السبت مخالفة لليهود ولو بأكل ما تيسر، حتى ولو بمضغ عود شجرة، وهذا أبلغ ما يدل على قصد الشارع لعدم مشابهتهم في العبادات.
ومن ذلك: الأمر في صيام عاشوراء بمخالفة اليهود، فلما كان الباعث على صيامه مشتركا جاء التوجيه بمخالفتهم بصيام يوم قبله تأكيدا على أحقية هذه الأمة بولاية الأنبياء، وحفاظا على الهوية الإسلامية في ذات الوقت،
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع» قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وفي سنن الترمذي عن ابن عباس أنه قال: «صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود».
ومن ذلك: ما جاء في الترغيب كثيرا في السنة النبوية بتناول أكلة السحور ، ومن جملة مقاصد ذلك مخالفة اليهود ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلةُ السحر».
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في شرح مسلم: معناه الفارق والمميّز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحّرون، ونحن يستحبّ لنا أن نتسحّر.
قال القرطبي في المفهم: هذا الحديث يدل على أن السحور من خصائص هذه الأمة ومما خفف به عنهم أكلة السحر.
ـ وتتأكد الخصوصية الإسلامية في صيام المسلمين حين ننظر في واقع هذه العبادة في ديانات وثقافات أخرى، وما يصاحب ذلك من طقوس ، متعلقة بأسباب الصوم، وزمانه، وكيفيته، والاختلاف في ذلك بين أبناء الديانة الواحدة.
فاليهود من جملة ما يصومونه يوم الغفران وتيشا باف وهو اليوم الأكثر حزنًا في التقويم اليهودي والذي يصوم فيه اليهود باعتباره تلك الفترة من الزمن التي تم فيها تدمير الهيكل المقدس في القدس على حد زعمهم، ويكون الصوم في هذين اليومين صوم عن الطعام والشراب والنكاح بالإضافة إلى تحريم الاستحمام، أو التعطر أو حتى غسل الأسنان، كما يحرم ارتداء الجلود في هذين اليومين.
ومن العجائب من أنواع الصيام ما يسمى “الصيام حتى الموت” ويعمل به أتباع الديانة اليانية بباعث الزهد يقرر الإنسان التخلي عن كل ما هو مادي بغرض تطهير الجسد من جميع الرغبات لإزالة الخطايا وتحرير الروح من مدار الولادة والاستعداد للبعث من جديد حسب اعتقادهم. ويقدر الخبراء بأنه وتحديدًا في الهند فإن هناك أكثر من 200 إنسان يموتون سنويًا بهذه الطريقة.
و كلما توسع الإنسان في تفاصيل تلك الديانات والثقافات يجد الغرائب والعجائب في طقوس الصوم التي يؤدونها،
وهذا يستدعي من المسلم أن يؤدي صيامه شاكرا لله تعالى على نعمة هذه العبادة، فهي عبادة ربانية، إذ إن الذي شرعها هو الله تعالى، فليست من اختراعات العقولة.
قال الله تعالي :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[ البقرة: 185]
(٣)- ليس ثم تشريع من التشريعات الإسلامية إلا وتحمل مقومات النهضة في كل جوانبه،
ومن استقصى أوامر الشرع ونواهيه يدرك يقينًا أنَّها تهدف إلى إحياء الأمة حضاريا وخلقيًا وقيميًا ليتمكن المسلم من إعمار الأرض بالشَّكل المطلوب كما قال الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]
شهر رمضان وما فيه من عبادات ، واحد من التشريعات الربانية التي تؤسس لنهضة شاملة
ومن مظاهر ذلك:
* التقويم السلوكي
فقد أولت الشريعة اهتمامها البالغ بالعناية بالإنسان ككائن أساسي في تكوين الحضارة، وشواهد ذلك في الصِّيام كثيرة وعديدة، فإنَّ من أكثر ما اهتمت به الشريعة في بيان الصيام: الاهتمام بالسلوك القيمي والأخلاقي للإنسان الصائم، فجاءت نصوص عديدة تقوم وتهذب سلوكيات هذا الإنسان.
من ذلك:
ـ أن الصَّائم يكون في أعلى درجات الالتزام الأخلاقي تجاه نفسه وتجاه غيره، فلا يقترف شيئًا يخدش به صومه من المنكرات، فقد جعل الشَّارع شهر رمضان فرصة لتربية النفس على الأخلاق الفاضلة، وتجنبها الأخلاق الفاسدة، ويظهر هذا بجلاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”(أخرجه البخاري برقم (1903).
فالمقصود الأعظم من الصِّيام التقوى كما قال الله في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
وترك الطعام والشراب لا شك أنَّه مظهر من مظاهر الاستسلام لله سبحانه وتعالى، لكن المقصد الأعظم هو ترك المحرمات، ولذا من لم يقم بالصيام بهذه الحالة من ترك المحسوسات من المفطرات، وترك المنكرات والمعاصي فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، يقول بدر الدين العيني: “قوله: (فليس لله حاجة) هذا مجاز عن عدم الالتفات والقبول، فنفى السبب وأراد المسبب، قال ابن بطال: وضع الحاجة موضع الإرادة، إذ الله لا يحتاج إلى شيء، يعني: ليس لله إرادة في صيامه”(عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10/ 276).
ويقول ابن القيم رحمه الله عبارةً لطيفةً في بيان حقيقة مقصد الصيام، وأنَّه تربية الإنسان على الخضوع لله سبحانه وتعالى بترك كل المحرمات، وصيام كل أعضاء الإنسان مع امتناعه عن الأكل والشرب، يقول: “الصَّائم هو الذي صامت جوارحُه عن الآثام، ولسانُه عن الكذب والفحش وقول الزُّور، وبطنه عن الطَّعام والشَّراب، وفرجُه عن الرَّفث “.
ففي الحديث الصَّحيح: “ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش”(أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (8856).
ومن ذلك :
ـ أن مدرسة الصوم تربي الإنسان على أن يقدم العفو على الجزاء والانتقام، وأن يبادر إلى تذكير نفسه وغيره بأنَّه متلبس بالصوم الذي يجعله أكثر ضبطًا لنفسه، ووعيًا بأن المشاحنات والخصومات إنما هو هدر للوقت والقوة.
ولم ينه الشَّارع الكريم عن الخصومة فحسب؛ بل دعى إلى التحمل والصبر إذا خاصمه غيره، وذلك معنى عالٍ في الأخلاق الحسنة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل إنِّي امرؤٌ صائم”(أخرجه البخاري برقم (1904).
ثانيا: تنمية الشعور بالآخرين.
فلا يتصور أن تكون هناك نهضة كبيرة ورقي صحيح إذا كانت البنية الاجتماعية للأمة متصدعة، لذا كان من أجلِّ مقاصد الصوم إكساب المسلم شعورًا اجتماعيًّا، فيربط بين المسلم وأخيه ليوقظ في النفوس قيمة التعاضد في بناء الحضارات، فتجد الصيام يحثُّ على التفاعل الإيجابي مع غيره، وعلى الإحساس بشعورهم ومعاناتهم، وعلى الخروج من دائرة الذات إلى دائرة المجتمع كله، ويتمثل ذلك في كثير من المظاهر في رمضان.
من أهمها:
ـ إفطار الصائمين، فقد جاء الحثُّ والندب إليه في نصوص كثيرة، من أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من فطَّر صائمًا كان له مثل أجرهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا”(أخرجه ابن ماجه برقم (1746).
ـ تلمس حاجات الفقراء والمساكين، فمن أغراض الصوم رفع شعور المسلم إلى أعلى درجات الإحسان إلى الغير حتى يتحقق التكافل الكامل، والإسلام يريد الارتقاء بالمجتمع إلى حالة من التكافل والتآزر والترابط بحيث تكون الأمة صفًّا واحدًا .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المثال والقدوة في باب الخير والإحسان إلى الفقراء والمساكين، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة”(أخرجه البخاري برقم (6)، ومسلم برقم (2308).
يقول ابن رجب في كلامٍ بديع: “وسئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع وهذا من بعض حكم الصوم وفوائده”(لطائف المعارف لابن رجب (ص: 168).
والمتأمِّل في هذا كله يجد أن معنى التراحم والتآزر والتَّوادد وتلمس حاجات الناس يجمع بين هذه الصور كلها، وهو ما يحقق تماسكًا اجتماعيًّا فريدًا متى ما قام المسلمون به حق القيام، ويشكل نقلةً حقيقية في كل من المجالات الاقتصادية والاجتماعية مما يحقق النهضة المرجوة.
فالصيام إذن يربي على وحدة المجتمع، وتماسك الأمَّة، والإحساس بالتلاحم مع المجتمع الذي يعايشه، وهو ما يعطي ضمانة مجتمعية بالحفاظ على المقومات التي تساعد على النهضة بالأمة .
عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ” مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم ، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى ” أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللفظ له
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه واشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
(٤)- فإن مما يميز عبادة الصيام في الإسلام عن الشرائع الأخري أنها تتوافق مع الفطرة والقدرة الإنسانية، فلم يكلف الله المسلم إلا ما يطيق، بل وشرع فيها من التخفيفات للمريض والمسافر والحامل والمرضع والعاجز ما تجعل هذه العبادة أكثر منطقية وواقعية،
قال الله تعالي :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[ البقرة : 183- 184]
وهي عبادة مضمونة الثواب، قد ادخر الله ثوابها، ولم يكشف عن مقداره لعظمته، فالصائم يوفَّى أجره بغير حساب؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْـحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِـهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عز وجل: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَـخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)).
ويقول الله تعالي : ﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
ومن فضائل الصيام أنه وقاية للعبد من عذاب الله يوم القيامة؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّمَا الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ، هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)).
ومنها: أنه طريق عظيم إلى الجنة؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لاَ عِدْلَ لَهُ))، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِي: (عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ))، وفي رواية: فكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهارًا، إلا إذا نزل بهم ضيفٌ.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ فِي الْـجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)).
ومنها: أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ)).
فاللَّهمَّ اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدني لأحسنِها إلَّا أنتَ ، وقنا سيِّئَ الأعمال والأخلاق لا يقي سيئَها إلا أنتَ .
اللهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام وصالح الأعمال .
اللهم احفظ بلادنا من كل مكروه وسوء وسائر بلاد المسلمين ،
وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين