خطبة بعنوان «تعزيز الهوية الوطنية ودورها في صناعة الحضارة» لفضيلة الدكتور محمود الشال


خطبة بعنوان «تعزيز الهوية الوطنية ودورها في صناعة الحضارة»

لفضيلة الدكتور : محمود الشال

 

الحمد لله الكريم الجواد مانح العطايا وواهب الرحمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقدر الأحوال ومفرج الكربات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الهادي إلى الحق بإذن ربه الكبير المتعال، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله في كل الأوقات وعلى أي هيئة وحال،

أما بعد،،

فإن الغاية من خلق الإنسان عبادة الله تعالى وعمارة الأرض، مصداقا لقول الله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وقوله تعالى: ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾، وهذا معنى الخلافة التي أشار إليها القرآن في بداية الخلق فقال تعالى: ﴿..إني جاعل في الأرض خليفة..﴾.

فالخلافة عبادة لله تعالى وعمارة للأرض، ولقد طورت المفاهيم لدى البشر حتى صار مفهوم الخلافة معبرا عنه بصناعة الحضارة، التي تشير إلى التقدم المادي والرقي الروحي.

ولكي يحقق الإنسان هذه الغاية لابد من تزكية النفس مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها*قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾

ونخلص من هذا إلى أن الله خلق الإنسان على ظهر الأرض لغاية وهي صناعة الحضارة، وصناعة الحضارة أيضا غايتها بناء الإنسان، وهذا ما حرص عليه الإسلام ورسخه في نفوس المسلمين لكي يقوموا بدورهم في هذه الحياة.

وخلال هذه المسيرة على ظهر البسيطة لصناعة الحضارة فإن الناس فيها منقسمون في كل عصر إلى مصلحين ومفسدين، فالخلافة التي هي صناعة الحضارة لما أخبر الله ملائكته عنها بقوله: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ كان لهم استفسار بناء على من سبق الإنسان على الأرض فقالوا: ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ ثم بين الله لهم أن الإنسان يستطيع أن يقيم الخلافة على الأرض ويصنع الحضارة بوسيلة مهمة تميزه عن غيره من المخلوقات فقال: ﴿وعلم ءادم الأسماء كلها﴾ فالعلم هو ركيزة صناعة الحضارة وهو سبيل التقدم، ولذلك بدأ الله نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق*خلق الإنسان من علق﴾.

بالعلم والأخلاق تصنع الحضارات، وهذا ما اعتمده واعتمد عليه الإنسان المصري منذ القدم، فقد صنع حضارته جيلا بعد جيل، حتى صار في كل عصر تضرب بحضارته المثل، فقد استطاع في كل حقبة تاريخية أن يضع نفسه بين الأمم كصانع رئيس للحضارة وعنصر فاعل فيها، فمنذ آلاف السنين كانت الحضارة المصرية القديمة الموسومة بالفرعونية، ثم الحضارة المصرية القبطية، ثم الحضارة المصرية الإسلامية، وفي كل عصر ما يميزه، وحتى في العصر الحديث تميزت هذه الأمة بين الأمم بصناعة الحضارة وصار يضرب بها المثل في المحافظة على الأرض والعرض ومواجهة أعتى عدو وهزيمته وكسر أنفه.

وقد قال الحكماء:

إن كل شيء في الوجود يُشترى مرة واحدة، إلا الوطن فإن كل جيل مكلف بأن يقدم ثمنه ليشتريه من جديد.

وإن تقديم الثمن يكون بإعادة صناعة وصياغة جيل يؤمن بقيمة الوطن ويدرك قدره وتُبنى شخصيته على ثقة عميقة في الذات وعلى أن هذا الإنسان قادر على تحقيق حلمه.

لقد كان الإنسان المصري على مر العصور صانعًا للحضارة ومقررًا لما يطمح غير عابيء بمعوقات أو محبطات.

فإن حضارة لها آلاف السنين وما زالت بكرا يفتخر بها القاصي والداني ويتعجب لها العدو قبل الصديق، لا يجب أن يُتجاهل صانعها؛ ألا وهو الإنسان المصري.

علينا أن نسترجع الماضي لنأخذ منه دافعا قويا لبناء المستقبل واستقرار الحاضر.

إنها الحضارة التي تتجاوز الأزمات والفتن، فعن عمير بن عبد الله المعافري، عن أبيه، عن عمرو بن الحمق – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: (ستكون فتنة أسلم الناس فيها – أو قال: لخير الناس فيها – الجند الغربي) فلذلك قدمت مصر. رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

كتب الشعراء والأدباء عنها فرفعت من شأنهم، لما لا وقد ذكرها الله في كتابه بالتلميح والتصريح في غير آية، قال تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين﴾.

وقال تعالى على لسان عدو متجبر متكبر بلغ الفخر به كل مبلغ، كان مما افتخر به أن قال: ﴿أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي﴾

إنه البلد الذي أجبر التاريخ على أن يتوقف عنده عدة مرات، سواء في الزراعة أو الطب أو المعمار أو نشر العلم في شتى ربوع الأرض.

إنه مجتمع رسخ معاني الإنسانية بكل صورها بداية من تطبيق قول الله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾ مرورا بمد يده بالسلام لجميع البشر دون التفريق على حسب اللون أو الجنس، فلقد تعامل مع جميع البشر بمفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم لآدم وآدم من تراب).

لقد ضرب الإنسان المصري المثل في وقت الفتن وانتصر للمظلوم في وقت الشدة، ولا أدل على ذلك من استقباله لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ضاقت عليهم البلاد وحاصرهم كل مجحف مجاف، وعبرت عن ذلك إحدى سليلات بيت النبوة سيدتنا السيدة زينب ابنة الإمام علي والسيدة الزهراء حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دعت لأهل مصر فقالت: “يا أهل مصر، نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبة فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا”، وما زالت بركة دعائه تلازم أهل مصر.

والإنسان المصري دائما ما يتمسك بأرضه محبا لها لا يحب مفارقتها ولا البعد عنها، وهو ما عبر النبي صلّى الله عليه وسلم لما أُخرج من بلده مكة، فقال: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك)، وكما أن الله وصف مكة بالبلد الآمن في كتابه بقوله: ﴿وهذا البلد الأمين﴾ فقد وصف مصر بنفس الوصف على لسان سيدنا يوسف عليه السلام بقوله: ﴿ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين﴾.

ولأهل هذا البلد كل الحق في أن يعتزوا بوطنهم ويحبونه ويحمونه من أطماع الطامعين، لما لا وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة وأنهم خير أجناد الأرض.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الأمين،

وبعد،،

ففي مثل هذه الأيام من هذا الشهر الفضيل نتذكر تلك الملاحم وليست ملحمة واحدة من الملاحم المصرية في الدفاع عن الدين والأرض والعرض، فقد جرب الناس جميعا على الجند المصري قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير أجناد الأرض) بعيدا عن اختلاف العلماء في تخريج الحديث سندًا لكن الواقع المجرب قد نطق فأخبر بكل وضوح حينما حقق الجند المصري المستحيل تارة تحت قيادة سيف الدين قطز في معركة عين جالوت الحاسمة مع التتار بعد أن اجتاحوا العالم الإسلامي كله وكان الحسم من القاهرة التي قهرتهم في معركة لا ينساها التاريخ أبدا وكانت في شهر رمضان من سنة ٦٥٨ ه، وفي العصر الحديث كان للجندي المصري في هذا الشهر المبارك وقفة لا يمكن أن تنسى في العاشر من رمضان سنة ١٣٩٣ه الموافق السادس من أكتوبر سنة ١٩٧٣ م، لما لقنوا العدو الذي وصف نفسه بأنه لا يقهر درسًا قاسيا كسر أنفه وأجبره على التراجع والتسليم.

فاللهم اجعل مصر أمنا أمانا إلى يوم الدين، اللهم احفظ مصر وجيشها وشعبها من كل مكروه وسوء. اللهم أعنا على صيام هذا الشهر الفضيل وقيامه، ووفقنا لقيام ليلة القدر..أقم الصلاة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *