خطبة بعنوان ( أسس البناء الحضاري في الإسلام )
لفضيلة الدكتور : محمد جاد قحيف
الحمد لله الولي المتين ، القاهر الظاهر الملك الحق المبين ، لا يخفى على سمعه خفي الأنين ، ولا يغرب عن بصره حركات الجنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله إلأولين والآخرين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين .. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد أشرح الناس صدرا ، وأعظم الناس قدرا ، وأرفع الناس ذكرا ، وأكثر الناس صلاة وصوما ..
وبعد : إن البناء الحضاري لأمة الإسلام يحتاج إلى مجهود ضخم ، وتفكير عميق ، وإمكانيات هائلة، كما أنه يحتاج إلى أساس قوي متين ، يستطيع أن يحمل فوقه البناء الهائل، فأي عمارة ضخمة تحتاج إلى أساس متين ، وهكذا الحضارة في الإسلام ..
مفهوم الحضارة وخصائصها ..
الحضارة في اللغة تقترن بالحضر والعمران، و يُقصد بها : كل إنتاج روحي ومادي، وما يتصل بالتقدم والرقي الإنساني في مختلف ميادين الحياة ومجالاتها .. وقيل: “إنها مجموعة من العقائد والمبادئ المنظِمة للمجتمع في مختلف المجالات، كالعلوم، والآداب، والفنون، وما ينجم عن هذا النشاط من ميول قادرة على صياغة أساليب الحياة المختلفة، والأنماط السلوكية، والمناهج المختلفة في التفكير “..
ومن خصائص الحضارة الإسلامية
“أنها حضارة ربانية ، اشتملت على مختلف جوانب الحياة ، استمدت تعاليمها من أنوار الفكر الإسلامي، الذي حث على الشورى، والعدالة، والحرية، وحفظ الحقوق ورعايتها”.
ومعنى ربانية الحضارة الإسلامية؛ أن مصدرها وقاعدتها التي اعتمدت عليها هي الشريعة الإسلامية ، التي عرفت الناس بخالقهم ، وساهمت في إيجاد الحلول لجميع المشكلات التي تواجه الإنسانية كافة، والتي بدونها لن يتحقق الإصلاح في المجتمع ولن تستقيم حضارة ..
قال سبحانه : (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة: 138]؛ بخلاف الحضارات التي اعتمدت على الأهواء وقوانين دعاة الإغواء؛ تلك الحضارات المشبوهة التي بسببها انحرفت العقيدة وانهارت الأخلاق..
كما أكدت على أن العالم له مالك واحد هو: خالقه وصانعه وحاكمه ومدبره، له الخلق والأمر كله، وله الحكم، وهو منقاد إليه..
ومن خصائص الحضارة الإسلامية ودعائهما الأخذ بمبدأ الشورى؛ حيث تُعَدُ قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة الربانية؛ فقد أوصى الإسلام بالشورى وحث عليها في كثير من الأمور ورسخ قواعدها، قال -تعالى- آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم بها : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]، وامتدح الله أهلها؛ فقال: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى: 38]..
ومن خصائص حضارة الإسلام: أنها حاربت اليأس والتشاؤم، وبعثت الأمل والرجاء والثقة، والاعتزاز في نفس الإنسان ..
ومن يتأمل فيما سبق من تعريفات للحضارة وخصائصها يجد أن حضارة الإسلام هي أسمى الحضارات وأخلدها ، ومن أجل هذه الخصائص والدعائم كان للحضارة في الإسلام مكانة عليا ، ومنزلة سميا ..
الأساس الأول :القرآن الكريم
يعد القرآن الكريم الملهم الأول للحضارة الإسلامية ، فما من علم إلا وله في القرآن أصل ..
فعلي المسلمين الاهتمام بحفظه ، وتلاوته ، وتدبره ، وفهم ما يرشد إليه ، ويدعو له ، وشهر رمضان شهر القرآن فرصة للعودة إلى القرآن الكريم ؛ كمصدر ملهم لأمة العرب والإسلام في شتى قضاياهم ..
صحيح تلاوة القرآن الكريم لها أهمية كبيرة ، وثواب عظيم كما قال رسول الله ﷺ : «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» [أَخْرَجَهُ الإمام مُسْلِمٌ]..
وقال عليه الصلاة والسلام: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ » يعني :”السَّحَرَةُ”أخرجه الإمام مسلم.. لكن تلاوة القرآن الكريم ليست هي غاية الغايات ، بل التدبر التفكر والنظر والتعقل ثم التبليغ والعمل.. قال تعالى:﴿كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ﴾ ص/٢٩.. كتاب أنزلناه إليك مبارك؛ ليتفكروا في آياته، ويعملوا بهداياته ودلالاته، وليتذكر أصحاب العقول السليمة ما كلفهم الله به. (التفسير الميسر).. وقال جل وعلا: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } محمد/٢٤.. لقد علّمَ القرآنُ العربَ والمسلمين الأول أن ينظروا فنظروا، ودعاهم إلى السَّير في الأرض فساروا… حبّب إلى نفوسهم التّعقّلَ والتفكّرَ والاعتبارَ ، ودعاهم إلى السّير في الأرض، والانكباب على العلم، والاستفادة من تجارب الأمم… وأعطى حياتَهم معنى جديدًا..
قال تعالى: “قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (يونس: 101)… وقوله جل جلاله : “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ” (العنكبوت: 20)… وقال :”أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ” (ق: 6)… وقال جل جلاله : “فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ” (عبس: 24).. وقال عز وجل : “فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ” (الطارق: 5)… وقال جل شأنه : “أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ” (الغاشية: 17، 18)… وأسّس لهم مشروعًا ومُهمّة عظيمة في الأرض، محذّرا إيّاهم من الفرقة، ومنفّرا لهم من الاستبداد (العلوّ) والفساد: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” .. (آل عمران: 104)… ودعاهم إلى الاتحاد والاعتصام ، والصبر وعدم التنازع والاختلاف .. قال جل جلاله : “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا” .. (آل عمران: 103)… وقال عز وجل : “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” .. (الأنفال: 46).. تخرّج العرب من مدرسة القرآن فأبدعوا في وقت قياسيّ تجربةً حضارية متميّزة ..
قال “توماس جولدشتاين” مصورا بعضَ ملامح الحضارة الإسلامية : “كان العنصرُ الأكثر حيويَّةً في تطوّر العلم الإسلامي هو هذا الطّابعُ الكوني للثقافة التي أرساها العرب، وأثبتُوا أنهم أساتذةٌ في نسْج كلِّ الخيوط الثقافية المختلفة في نسيج ثقافي جديد، وتماسكت الحضارة الجديدة بواسطة لغتهم المشتركة وإيمانهم المشترك ، وطريقة حياتهم المشتركة…” ( المقدمات التاريخية للعلم الحديث)..
أمّا غوستاف لوبون فيُصوّر هذا التميّز الحضاري وينوّه بجليل إنجازاته فيقول: “لم تَعرف القرونُ الوسطى العصورَ الكلاسيكية القديمةَ إلاّ من خلال العرب، وعلى مدى خمسمائة سنة، لم تقُم جامعات الغرب إلا على كتبهم.
وكان العرب همُ الذين أدخلوا أوروبا زمنَ الحضارة: بمستوياتها الثلاثة: المادية والفكرية والأخلاقية. وإذا درسنا أعمالَهم العلميةَ واكتشافاتِهم، فإنّنا نُدرك أنّ أيًّا من الشّعوب لم يقدر على تحقيق هذا القدر من الإنجازات في مثل هذا الحيّز الزمنيّ القصير..”..(حضارة العرب)..
إن المسلمين الأوائل هم أول من أسسوا مرصدا فلكيا في إشبيلية (جنوب أوروبا)..
وهم أول من أسسوا مدارس لتعليم علوم الطب ، وأول من صنعوا ساعة لحساب الزمن ، وبعض من رآها تعجب كيف تسير ، وزعم أن فيها شيطانا …
وهكذا كان حال المسلمين الذين شيدوا أعظم حضارة عرفتها البشرية ، عندما أقاموا المدارس العلمية والصناعات والمستشفيات، وابتكروا المناهج العلمية عندما كان الغرب والشرق يئن تحت نير الجهل والفوضى .. بالعِلمِ والمالِ يَبني النّاسُ مُلْكَهُمُ/ لم يُبنَ مُلْكٌ على جهلٍ وإقلالِ..
لقد نجح القرآن في أن يصنع عقلا عربيًّا شغوفا بالمعرفة متطلّعا إلى أسرار الكون وسننه، حتّى أضحى العربُ أساتذةً في هذا المعنى، ولقد “كان مما تعلّمته العصور الوسطى من الإسلام هو هذا الابتهاج بتنوّع تفاصيل الطبيعة واستخداماتها من أجل المجتمع. وبتأثير هذا الالتقاء اتخذ الغرب الخطوة نحو غرس العلوم المتخصصة انطلاقا من اللبّ الفلسفي الأصلي. وكلّ علم متخصّص على حِدَة في الغرب يَدين بأصوله إلى الدّافع الإسلامي، أو على الأقل باتجاهه منذ ذلك الوقت فصاعدا…” (المقدّمات التاريخية للعلم الحديث)..
يكفي حضارة الإسلام أنها راعت العقل وأعملته ومنحت كل فرد من أفرادها قيمة ومكانة؛ بخلاف الحضارات الأخرى الزائفة حيث قامت على إقصاء عقول الآخرين وصادرت آراءهم وحصرت الرأي في شخصيات معينة تسير الحياة بكل شؤونها حسب مرادها والآخرين تبع لها ..
ونجح القرآن في أن يوحّد اللّسان الرّسميّ للأمّة مع احترامه لكلّ الألسنة، ويحفظَ لغة القرآن الكريم التي هي واحدة من أكثر اللغات انتشارا وفعالية بحكم الواقع الدّيني على الأقل، وانظر ملايينَ الحفّاظ من كلّ الأعراق وهم يتنافسون في التّغنّي بالقرآن العربيّ المبين تُدركْ …
الأساس الثاني : التسلح بالإيمان :
الإيمان هو ما وقر في القلب من محبة الله ورسوله وصدقه العمل، فيتكامل الاعتقاد مع العمل، فيصبح الإيمان هو المحرِّك الرئيس للفرد والمجتمع في السير نحو التحضُّر في جميع مجالات الحياة الفكرية، والسياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية..
لكن الإيمان بحاجة دائمة إلى التجديد والاستعانة بالله في الثبات على الهدى والإيمان ..
قال رسول الله ﷺ ﴿إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كَما يَخلَقُ الثّوبُ ، فاسْألُوا اللهَ تعالَى : أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ ﴾ أخرجه الإمام الطبراني وسنده صحيح ..
والإيمانُ يَزيدُ بالطاعاتِ ويَنْقُصُ بالمَعاصي، وعلى المُؤمِنِ أنْ يَحرِصَ على تجديدِ إيمانِه وزِيادتِه، كما يُرشِدُ إليه هذا الحديثُ، حيثُ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكم”، أي: يَبْلَى ويَضْعُفُ في قَلْبِ المُسْلِمِ، ويكونُ ذلك بسَببِ الفُتور في العِبادةِ أو ارتكابِ المعاصي وانغِماسِ النَّفسِ في بَعضِ شَهواتِها، “كما يَخْلَقُ الثَّوبُ”، أي: مِثْلَ الثَّوْبِ الجَديدِ الذي يَبْلى بطُولِ استخدامِهِ؛ “فاسْأَلوا اللهَ تعالى” بالدُّعاءِ والأعْمالِ الصَّالحةِ والقِيامِ بالفرائضِ وأعمال التطوُّعِ التي تَعمُرُ القَلبَ بالإيمانِ، والصَّدقاتِ والنفقةِ على المحتاجِينَ، والتَّفكُّرِ في آياتِ اللهِ الشرعيَّةِ والكونيَّةِ، وكَثرةِ الذِّكرِ والاستغفارِ ولُزومِ مَجالِسِ الذِّكرِ والعِلمِ، كما في الأثَرِ الذي ذَكَره ابنُ أبي شَيبةَ عن مُعاذِ بنِ جبلٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: «اجلسْ بنا نُؤمِنْ ساعةً»، يعني: نَذكُر اللهَ، “أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكم”، وتجديدُ الإيمانِ أنْ يعودَ إلى ما كان عليه ويَزيدَ ؛ حَتَّى لَا يكونَ في القُلوب وَلَهٌ لغَيرِهِ وَلَا رَغْبَةٌ فِي سواهُ.(الدرر السنية)..
والنهضة الحضارية لا بدَّ لها من قوّةٍ دافعةٍ تحرِّك الإنسان نحو هدفه في البناء. والإيمانُ بالله يولِّد هذه القوة، فيَعرف الإنسان سببَ وُجوده في الحياة، وما وُكل إليه في هذا الكون من مسؤوليات، فينصلح قلبه وينعكس ذلك على تصرفاته وسلوكه في العمارة وتشييد الحضارة. والخطاب بلفظ الإيمان في كتاب الله تشريفٌ وتكليف؛ تشريفٌ بأنَّ هذه النعمة العظيمة من الله، وتكليفٌ بالمترتِّب عليها، لذلك فإنَّ التكاليف تأتي مباشرةً بعد الخطاب بالإيمان، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ٥٧]..
والإيمان لا ينفصل عن العمل الذي لا تُتصوَّر حضارةٌ بدونه.. وتتجلّى أهمية الإيمان بالله في النهوض الحضاري فيما يأتي: الإيمان يجعل الإنسان يبذل الجهود مدفوعًا بالتصور لحقيقة الوجود والغاية من الحياة ، وأنه مُستخلَف في الأرض لعمارتها، قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: ١٤]..
والإيمان بالله مؤسس على دعائم وأركان ، منها الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر ، وكذلك أركان الإسلام تعد أيضا من دعائم الإيمان وثمرته وغايته ..
روى الإمامان البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ) .. في هذا الحَديثِ الجَليلِ شَبَّه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الإسلامَ ببِناءٍ مُحكَمٍ، وشبَّه أركانَه الخَمسةَ بقواعدَ ثابتةٍ مُحكَمةٍ حاملةٍ لذلك البُنيانِ، فلا يثبُتُ البنيانُ بدُونِها، وبقيَّةُ خِصالِ الإسلامِ كتتمَّةِ البُنيانِ،
وأوَّلُ هذه الأركانِ: الشَّهادتانِ؛ شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، وهُما رُكنٌ واحدٌ؛ لكَونِهما مُتلازمتَينِ لا تنفَكُّ إحداهُما عن الأخرى. ومعنى الشَّهادتينِ: أنْ يَنطِقَ العبدُ بهما مُعترفًا ومُقِرًّا بوَحدانيَّةِ اللهِ واستحقاقِه للعِبادةِ وحْدَه دونَ ما سِواهِ، وبرِسالةِ مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ، مُصدِّقًا بقلبِه بهما، مُعتقدًا لمعناهما، عامِلًا بمقتضاهُما؛ هذه هي الشَّهادةُ الَّتي تنفعُ صاحبَها في الدَّارِ الآخِرةِ، فيفوزُ بالجنَّةِ، وينجو مِن النَّارِ.
والرُّكنُ الثَّاني: هو إقامةُ الصَّلاةِ، ويعني: المحافظةَ على أداءِ الصلَواتِ الخَمسِ المَفروضاتِ في اليومِ واللَّيلةِ، وهي: «الفَجْر، والظُّهر، والعَصْر، والمغرِب، والعِشاء» في أوقاتِها، بشُروطِها وأركانِها وواجباتِها.
والرُّكنُ الثَّالثُ: إخراجُ الزَّكاةِ المفروضةِ، وهي عِبادةٌ ماليَّةٌ واجِبةٌ في كُلِّ مالٍ بلَغَ المِقدارَ والحدَّ الشرعيَّ، وحالَ عليه الحَوْلُ -وهو العامُ القمَريُّ أو الهِجريُّ- … وفي إيتاءِ الزَّكاةِ على وَجهِها لِمُستحِقِّيها زِيادةُ بَرَكةٍ في المالِ، وجَزيلُ الثَّوابِ في الآخرةِ. وللبُخلِ بها ومَنعِها مِن مُستحقِّيها عواقبُ وخيمةٌ في الدُّنيا والآخرةِ، بيَّنَتْها نُصوصٌ كثيرةٌ في القُرآنِ والسُّنةِ، وهي تُصرَفُ لِمُستحقِّيها المذكورينَ في قولِه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}..
وهذه خمس أعمدة رئيسية منها: صوم رمضان، وما يتبعه من أعمال صالحة في شهر الصيام أمر في غاية الأهمية ..
فدين الإسلام دين عظيم يشمل كل أمور الحياة، يشمل العقيدة العبادات من صلاة وصيام وحج وعمرة، يشمل زكاة وصدقة واعتكافاً وقياماً، ويشمل علوماً مختلفة وآداباً عديدة، وفضائل جمة، يشمل بيوعاً ومعاملات وتجارة وزراعة وصناعة، يشمل حروباً ومعاهدات وأحلافاً، ويشمل حدوداً وقوانين وتشريعات، يشمل الطعام والشراب، يشمل الزواج والأسرة والتربية، أبواب الإسلام واسعة جداً، فهو دين شامل كامل متكامل، لكن من كل هذه الأبواب الضخمة اختار الله عز وجل خمسة أمور فقط جعلها أعمدة الإسلام، والتي يبنى عليها كل هذا الصرح الضخم، من هذه الأعمدة صيام رمضان.. ويلحق بها عمل الصالحات في هذا الشهر .. فما كانت الصلاة ولا الصيام يوما يعطل حركة الإنتاج وعجلة الحياة .. وشهر رمضان أمر بنائي لهذه الأمة، شهر رمضان عمود أساس من الأعمدة التي تحمل الإسلام فوقها، تخيل فلو أن هذا العمود غير موجود، أو أن هذا العمود مغشوش أو هش، أو أن به خللاً في التصميم ماذا ستكون النتيجة؟ سينهار البناء بالكلية، عمود واحد فقط ينهار بسببه هذا البناء الضخم بالكلية.. إذاً: الأمر في غاية الأهمية، إذا كنا نريد بناءً قوياً صلباً لهذه الأمة فلا بد أن يكون أساسه متيناً، ومن ثم لا بد أن يكون صيام رمضان على أعلى درجات الإتقان، حتى يحمل فوق الصرح المهول الإسلام، بهذه العزيمة وبهذا الفكر ومن هذا المنطلق نريد أن ندخل إلى رمضان، نريد أن ينتهي رمضان وقد أصبحنا مؤهلين لحمل الصرح العظيم والأمانة الكبيرة، القضية ليست فقط قضية الصيام، القضية قضية بناء أمة، أو قل: بناء خير أمة. .
لذلك ربط الله بين الصيام والإيمان والاحتساب قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»..
معنى الإيمان في الحديث الشريف : هو التصديق بأن الصيام فرضٌ والامتثال طواعية واختيارًا لأمر الله تعالى من غير جبر أو استحياء، واليقين بفضله وأن له أجرًا كبيرًا، مع الخوف من محاسبة الله له عند تركه من غير عذرٍ شرعي.. أما الاحتساب فمعناه: إرادة وجه الله تعالى بالصيام، والطمع في فضله، ورجاء ثواب الصيام والأجر منه وحده، والتبرؤ من الرياء والسمعة في العمل؛ ليكون الصيام خالصًا لوجهه الكريم سبحانه وتعالى..
الأساس الثالث : العلم الديني والدنيوي
غَرَس القرآن الكريم في قلوب المسلمين حُبَّ العلم النافع سواءً كان علومًا كونية أو شرعية منذ بداية نزوله، فأوَّل آية أُنزلت على الرّسول ﷺ كانت تختصُّ بالعلم، وتأمر به وتحضُّ عليه، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.. [العلق: ١].
ودعت الكثير من الآيات إلى الاهتمام بالعلم، ورفعت مكانة أهله في الدنيا.. قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: ١١]. كما أمرت بالاستزادة منه، قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]..
ولم يكتف القرآن الكريم بالحثِّ على العلم بل أمر باستخدام الأدوات التي تُوصل إليه؛ ليُعيد ترتيب وتنظيم عقل الإنسان..
كما حثَّ على التّفكير والبحث في مختلف الآيات الكونيّة والسّمعيّة، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ [السجدة: ٢٧].
لقد كانت العلوم الكونية حاضرة في أكثر من ألف آية تتحدث عن أوصاف علمية دقيقة لظواهر الكون، وعلم النبات، وعلم الأرض (الجيولوجيا)، وعلم الأجناس، وعلم الحيوان، وعلم اللغات..
تأمَّل في قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢٠-٢١]. قال ابن كثير: «أي فيها من الآيات الدالَّة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال، والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنةِ الناس وألوانهم، وما جُبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفُهوم والحركات، والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه؛ ولهذا قال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾.. لقد جمعت حضارة الإسلام بين الدين والدنيا، فمن دعاء الربانيين :(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، وقال تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 148]..
إن حضارة الإسلام الزاهرة فتحت أبواب المعارف والعلوم لسائر البشرية بمختلف أديانها وألوانها؛ فلم تحتكر حرفة أو علما على نفسها بل فتحت معاهدها لكل محتاج إليها؛ فبرع في علومها التجريبية من طب وصناعة وهندسة وغيرها من المجالات من شتى الملل والأجناس، ونعم بها القاصي والداني، ولم تكن حكرا على أبناء الإسلام والمنتسبين له فحسب.. وإن تاريخ الحضارات يدل دلالة قاطعة على أنه كلما اهتمَّت أمة بالعلم ازدادت رفعة ونهضة وتقدُّمًا ..
إنه الدين الحق الذي أرسى الله به قواعد الحضارة المثلى، وأقام به ركائز ومقومات النهضة الكبرى، التي سعدت في ظلالها الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، في ماضي الأيام، وفي حاضرها ومستقبلها -بإذن الله تعالى-، وإن السمو الحضاري في هذا الدين لتتضح معالمه، وتتجلى خصائصه بالنظر المتأني في ركائز الحضارة وأسسها التي قامت عليها..
وفي تاريخ الحضارات يدلُّ على أنه كلما اهتمَّت أمة بالعلم ازدادت تقدُّمًا، وهكذا كان حال المسلمين الذين شيدوا أعظم حضارة عرفتها البشرية عندما كان الغرب والشرق يئن تحت نير الجهل والفوضى ..
يا إخوة الإسلام كلّما زاد علم الإنسان ومعرفته يستطيع أن يستثمر ما سخر له في هذا الكون، فيزدهر البناء الحضاري في المجتمع الذي يعيش فيه، وبقدر الزيادة في العلم يكون الإسهام في نفع الإنسانية، والتقدم في جميع المجالات الحياتية..
عماد الحضارات العلم النافع ولا تبنى إلا به، ولا تصل أي حضارة إلى التفوق والإبداع والمجد والصدارة إلا بالعلم؛ فكلما زادت العلوم الكونية تأثرت الحضارة وارتقت وإن القوة العدة والأسلحة والعتاد مرتبطة بالعلم ؛ لذلك أمر الله عباده بحسن الإعداد ، والأخذ بأسباب القوة : ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]..
الأساس الرابع : العدل
تحقيق العدالة في المجتمع كافة؛ فبالعدل تقوم الحضارات ، وتستقيم الحياة .. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠].. وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «ما في القرآن آيةٌ أجمعُ للخير والشر من هذه الآية»..
وهذا فهمٌ صائب؛ لأن كل خير يندرج تحت العدل والإحسان، وكل شر يشمله قوله سبحانه: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: ٩٠]..
قال ابن كثير: «يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالاً ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه»..
ولقد أرست الآيات الكريمة العدل قيمة مجتمعية تفجر طاقات الإنسان الإبداعية لتشيد الحضارة، ويحرك عجلة الحياة، ويعزز الانتماء للمجتمع والأمة ..
ولم يأت هذا التأكيد على العدل إلا لأنه أبرز دعائم قيام الحضارات وبقائها وحفظ تاريخها؛ ولم تسبق حضارة الإسلام في ركيزة العدل العظيمة، حضارة من الحضارات كما يحلو لأصحابها تسميتها بذلك، بل جميع الحضارات مارست البغي والعدوان ابتداء من ظلم الله -تعالى- بالإشراك به ومخالفة أوامره إلى ظلم العباد وانتهت بظلم النفس؛ فكم مورس في هذا العالم مذ نشأته إلى يومنا هذا من ظلم وبغي وقتل، وكم عانى أهله من التدمير والحروب والانتهاكات الهمجية في حق الإنسانية..
العدل هو الميزان الضامن لاستمرار الحضارة، وضرورة من ضروراتها، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥].
والقسط: العدل، وهو قوام الدنيا، فالحضارة التي لا تبنى على العدل مصيرها الزوال، والأحداث على مر التاريخ تدل بوضوح على أن هلاك المجتمعات، وتدمير الحضارات إنما يكون بسبب الظلم والبغي، قال تعالى: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٤٧].
والعدل الذي أمر به القرآن الكريم عدل مطلق شامل للفعل والقول وللصديق والعدو وللقريب والبعيد، فهو تطبيق عملي يظهر في واقع الإنسان يعم جميع مناحي الحياة..
الأساس الخامس : الأخوة والتعاون ، والاصطفاف المجتمعي..
لقد عد القرآن الكريم التعاون والاصطفاف من الضروريات فالحضارة لا تنهض إلا بهذا الأصل، فعند وجود التعاون والاصطفاف في أي أمة سينتج استقرار وتطور ينهض بالأمة، ويُوصِلها مع العوامل السابقة إلى الرقي الحضاري ..
والتعاون له منزلةٌ مرموقة في أيِّ حضارة؛ لأن الناس يحتاج بعضهم لبعض ويكمل بعضهم بعضًا، والجماعة تسدُّ النقص الموجود في الأفراد فيوفرون الأوقات، ويكون العمل متقنًا، وقد بيّن ابن خلدون أن العمران لا يقوم إلا على التعاون؛ حيث إنّ أعمال أهل البلد الواحدة يستدعي بعضها بعضًا لما في طبيعة العمران من التّعاون ..
وللتعاون فوائد جليلة منها: تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتحاد والتناصر، حتى يصبح ذلك خُلُقًا للأمة..
إن حضارة الإسلام أرست مبدأ الوحدة الإنسانية والأخوة الإيمانية؛ التي جاء بها الإسلام ليقضي على الفروقات المبنية على الجنسية والقومية؛ وأرسى قاعدة مهمة في التفاضل ألا وهي التقوى؛ وحينها لا فرق بين شرقي أو غربي أو عربي أو أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى؛ مؤكدا أن رسالة الإسلام العالمية لجميع الأُمم والشعوب دون استثناء، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].
و قال عليه الصلاة والسلام : “يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ.. “.. (أخرجه البيهقي وسنده صحيح)..
فهل رأيتم -أيها المسلمون- حضارة تتعامل مع أتباعها وأفرادها بميزان كهذا؟! .. عباد الله: كفى الحضارة الإسلامية شرفا وفخرا ومكانة وفضلا؛ أنها قامت لتكريم الإنسانية والارتقاء بها في شتى المجالات والنهوض بها في كافة أنواع العلوم؛ الدينية والإنسانية والدنيوية؛ إنها حضارة حيوية امتدادية عبرت العالم شرقا وغربا بحرا وبرا وجوا؛ صالحة لكل زمان ومكان؛ نظرا لأصالة مصدرها وربانيتها..
وإذا كنّا قد تخلّفنا بعد تقدّم، أو تشرذَمنا بعد وَحدة، أو هُنّا على الزّمان وفي أعين خصومنا بعد عزّة، فلأنّنا غيّرنا ما بأنفسنا وأعرضنا عن أسباب مجدنا، ونسِينا مشروعَنا ورسالتنا، فحقّ علينا ذلك “القانون القرآنيّ”: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ ..[الرعد: ١١]..
قال السعدي: «﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ من النعمة والإحسان ورغد العيش، ﴿حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البَطَر بها فيسلُبهم الله عند ذلك إياها..».. والإصلاح يبدأ بالنفس نحو الارتقاء، حتى يكون التغيير نابع من الذات وهو اللبنة الأساسية في بناء الحضارة ..
الأساس السادس : القيم الأخلاقية : من أهم دعائم حضارة الإسلام القيم الإسلامية الأصيلة وفي مقدمتها الحق والعدل ، والصدق والأمانة والوفاء والفضيلة، ولم تقم كغيرها من الحضارات الأخرى التي قامت على القهر و الجبروت ، والإذلال والظلم ، والتزييف والخيانة ؛ حتى ملأت الأرض سفكا للدماء، وتعذيبا للبشر، ونشرا للجوع والفقر والجريمة والرذيلة.
تنشأ وتزدهر الحضارة على أساس القيم والمبادئ الأخلاقية، فالقيم لها أثر كبير في حياة الناس فهي توجه السلوك نحو الخير والفضيلة.
والقيم في القرآن نظام حياة ترشد الفرد والمجتمع لما فيه خير، وتشكل المبادئ الإنسانية السامية التي يتسلح بها الإنسان للوصول إلى الرقي الحضاري، قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧].
فالبرُّ صفةٌ تجمع الخير والفضيلة في أي زمان ومكان وحال؛ لذلك اعتبر العلماء هذه الآية العظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت قواعد الأخلاق الإسلامية ..
ومن نماذج اهتمام القرآن الكريم بالقيم: الحثُّ على قيمة الرحمة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]. الحثُّ على قيمة المساواة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣]. الحثُّ على قيمة الأمانة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون: ٨].
الحثُّ على قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠]. وهكذا نجد أنَّ القرآن الكريم يحرص على غرس القيم؛ لأهميتها في بناء الإنسان الذي يُعتبر أساس الحضارة..
وانهيار القيم الأخلاقية مقدمات لانهيار المجتمع.. وصدق أمير الشعراء: وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا .. وختاماً :هذه إِشارات يسيرة عن الحضارة الإسلامية ومكانتها وخصائصها، لتكون عونا لنا في معرفة حضارتنا الإسلامية العريقة، وكشف غرور وزيف الحضارات المشبوهة والحاقدة على دين الإسلام وحضاراته وقيمه ومبادئه.. إن حضارة الإسلام هي أوسع الحضارات امتدادا عبر الزمان والمكان، فعمت أرجاء الأرض، وحكمت العالم ثلاثة عشر قرنا، ورغم هذا الاتساع الهائل والمدة الطويلة فإنها أقل الحضارات البشرية سفكا للدم، وتعذيبا للبشر، ونشرا للجوع والفقر؛ لأن دعاتها فتحوا قلوب الناس للإسلام قبل فتح بلدانهم بالسنان، ورأى الناس منهم الرحمة والعدل والإحسان فسلموا لهم، وفضلوهم على حكم غيرهم، وأكثر بلاد الأرض إبان الفتوح دانت للمسلمين سلما، ورضي أهلها بحكمهم قبل الحرب..
إذا كانت هذه سمات حضارتنا الإسلامية المكللة بكل قيمة روحية ومادية؛ فلم الغفلة عنها وإغفالنا لها؟! ولماذا الهرولة نحو الحضارات الغربية؟! وليت شعري ما الذي أعجب ثلة كبيرة من المخدوعين بها؟! وما الذي أغراهم وجذبهم إلى تلك الحضارات الخالية من المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية، الملوثة بسفك الدماء وإشعال الحروب وابتزاز الشعوب وإذلالها والكيد بالمجتمعات المحافظة على موروثها الطيب الأصيل، والمتمسكة بشرعة ربها الجليل، لجرها في وحل التخلف والجهل..حسب أدعياء الحضارة الغربية اليوم؛ القائمة على العنصرية والطبقية والرأس مالية والكذب والبهتان، والكيل بمائة مكيال ، والعلو والاستكبار ونشر الخوف والتنازع في العالم والترويج للحروب والاقتتال.. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا واصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر واحفظ بلدنا وجميع بلاد المسلمين وتقبل منا الصيام والقيام يارب العالمين..