هلال رمضان .. الدرس الأول من كتاب زاد العُبّاد

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

مع الدرس

الحمدلله الذى أعزنا بالإسلام وتفضل علينا بمزيد من الإنعام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

فيا عباد الله: لقد فرض الله عز وجل على عباده المؤمنين صيام شهر رمضان بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚفَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(البقرة: ١٨٥)، ولقد بين سيدنا رسول الله ﷺ أن صيام رمضان يكون برؤية هلال شهر رمضان؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «صوموا لرؤيتِه وأفطروا لرؤيتِه، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يوماً»رواه البخارى ومسلم.

ولقد كان من هدى سيدنا رسول الله ﷺ إذا رأى الهلال أن يسأل ربه أن يهله بالخير؛ فعَنْ طَلْحَةَ بنِ عُبْيدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ إِذا رَأَى الهِلالَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علَيْنَا بِالأَمْنِ والإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ والإِسْلامِ، رَبِّي ورَبُّكَ اللَّه، هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ» رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.

ولقد أنعَم اللهُ عزَّ وجلَّ علينا بشهر رمضان، وجعله مَوسِمَاً للخيراتِ؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ» رواه الترمذي وابن ماجه.

ولقد بين لنا سيدنا رسول الله ﷺ المنن والنعم الربانية التى تكون مع دخول ذلك الشهر الكريم من ذلك:

• الشَّياطينُ تُصفد: إنها نعمة جليلة حيث يكف الله عز وجل شرور الشياطين ومردة الجن عن عباده فى هذا الشهر المبارك، وهنا يجد العبد فرصة للنجاة من وسوسة إبليس حتى يجاهد نفسه على العودة إلى ربه جل وعلا.

• أبَوابُ النَّارِ تُغلق فلم يُفتَحْ منها بابٌ، وتِّفتحَ أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ؛ فالخير أبوابه مفتوحة؛ والشر أسبابه قليلة فى رمضان إكْرامًا مِن اللهِ لعِبادِه في هذا الشَّهرِ.

• «وينادى مُنادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ»: أي: أكثر من فعل الخيرات وعمل الصالحات.
«ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ»، أي: أمسِكْ عن الشر وكل محرم وبادر بالتوبة الصادقة.

• عتق الرقاب من النار: وهذا فى كل ليلة من ليالى هذا الشهر الفضيل.
وقد ثبت أن النبي ﷺ كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺُ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» رواه أحمد.

قال ابن رجب الحنبلى: هذا الحديث أصل فى تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان.

وكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان وكيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران وكيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟!

ومما يدل على جواز التهنئة بالنعم، حديث توبة كعب بن مالك رضي الله عنه وفيه:« فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ، حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ» أخرجه البخاري ومسلم.

قال ابن القيم في زاد المعاد تعليقاً على توبة كعب: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ، وَالْقِيَامِ إِلَيْهِ إِذَا أَقْبَلَ، وَمُصَافَحَتِهِ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ جَائِزٌ لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ.
عباد الله: إن أسلافنا من شدة شوقهم لرمضان كانوا يستعدون لاستقباله ستة أشهر؛

قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان.

وقال يحيى بن أبى كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمنى إلى رمضان وسلم لى رمضان وتسلمه منى متقبلا.

لأن بلوغ زمن رمضان نعمة عظيمة؛ فعن أبى سلمة عن طلحة بن عبيدالله أنَّ رَجُلَينِ قَدِما على رَسولِ اللهِ ﷺ، وكان إسلامُهما جَميعًا، وكان أحَدُهما أشَدَّ اجتِهادًا مِن صاحِبِه، فغَزا المُجتَهِدُ منهما، فاستُشهِدَ، ثم مَكَثَ الآخَرُ بَعدَه سَنةً، ثم تُوُفِّيَ، قال طَلحةُ: فرأيتُ فيما يَرى النَّائِمُ كأنِّي عِندَ بابِ الجَنَّةِ إذا أنا بهما وقد خرَجَ خارِجٌ مِنَ الجَنَّةِ، فأذِنَ للذي تُوُفِّيَ الآخِرَ منهما، ثم خَرَجَ فأذِنَ للذي استُشهِدَ، ثم رَجَعا إليَّ فقالا لي: ارجِعْ؛ فإنَّه لم يَأْنِ لكَ بَعدُ. فأصبَحَ طَلحةُ يُحدِّثُ به الناسَ، فعَجِبوا لذلك، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: مِن أيِّ ذلك تَعجَبونَ؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هذا كان أشَدَّ اجتِهادًا، ثم استُشهِدَ في سَبيلِ اللهِ، ودخَلَ هذا الجَنَّةَ قَبلَه. فقال: أليس قد مَكَثَ هذا بَعدَه سَنةً؟ قالوا: بلى. وأدرَكَ رَمَضانَ فصامَه؟ قالوا: بلى. وصلَّى كذا وكذا سَجدةً في السَّنةِ؟ قالوا: بلى. قال رَسولُ اللهِ ﷺ: فلَمَا بَينَهما أبعَدُ ما بَينَ السَّماءِ والأرضِ» رواه بن ماجة

وكذلك يشرع للمسلم أن يهنىء إخوانه بمجىء رمضان وأن يستقبله بالفرحة قال تعالى: ﴿قل بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾(يونس: ٥٨)، ولقد كان الصالحون يسارعون إلى فعل الخيرات عملاً بقول الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(آل عمران: ١٣٣)، وتأسياً بسيدنا رسول الله ﷺ فعن عبدالله بن عباس رضى الله عنهما قال: «كان رسول الله ﷺ أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة» متفق عليه.

عباد الله: إن حقيقة الصوم تعني ترك جميع المحرمات والآثام، وصوم القلب عن الوساوس والشبهات وصوم السمع والبصر عن الخطايا وصوم اللسان عن الآفات وصوم الفرج والبطن واليد والرجل عن المعاصي والذنوب، فالصوم مفهوم واسع يشمل صوم القلب وسائر الجوارح عن المحرمات الحسية والمعنوية؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله ﷺ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» رواه البخاري.

قال عمر رضي الله عنه: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو…

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ صَوْمُ الْعُمُومِ وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص،

وأما صَوْمُ الْعُمُومِ : فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قضاء الشهوة،
وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ : فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ، عَنِ الْآثَامِ،

وأما صوم خصوص الخصوص : فصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ، وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية، احياء علوم الدين.
فالصيام جنة كجنة القتال أي أن الصيام وقاية

بين العبد وبين المعاصي، فهذا الشهر الكريم فرصة لك أيها المسلم لتزكي نفسك وتخلصها من آثار الآثام والمعاصي، فبعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم، يمتنع في نهار رمضان عن الطعام والشراب لكنه لا يتوب عن المعاصي، ولا يكف عن الخطايا، وإن كف عن المعاصي في نهار رمضان أفطر عليها في ليل رمضان فنهاره جوع وعطش، وليله عكوف على المعاصي …

فاتقوا الله عباد الله: واغتنموا زمن رمضان فى مرضاة ربكم جل وعلا وأكثروا من فعل الخيرات وعمل الصالحات، واصدقوا التوبة واستغفروا ربكم يغفر لكم.

اللهم أعد علينا أمثال هذه الأيام المباركات بالخير واليمن والبركات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
غرة شهر رمضان. ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ٢٩ فبراير ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *