خطبة بعنوان ( يسر في العبادة سماحة في المعاملة )
لفضيلة الشيخ ثروت سويف
بتاريخ 22شعبان الأخري 1446هـ – الموافق 21 فبراير 2025م.
اقرأ في هذه الخطبة
أولا – إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ ثانياَ : إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ثالثاً – الاسلام يأمرنا بالسماحة في المعاملات
الخطبة الأولي
الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا، المتفرد بتصرف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرا وتدبيرا، المتعالي بعظمته ومجده الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، أطلع شمس الرسالة في حالك الظلم سراجا منيرا، ومَنّ بها على أهل الأرض فيَا لها من نعمة لا يستطيعون لها شكورا، وفجر ينابيع الهداية في قلوب من سبقت لهم منه الحسنى تفجيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكبره تكبيرا الذي لم يزل ولا يزال بجميع المحامد جديرا، وأستعين به استعانة من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، فأبى أكثر الناس إلا كفورا.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وسلم تسليما كثيرا.
اما بعد
فقد جاءت الشريعة الاسلامية برفع الحرج والتضييق على الناس أو التعنت في تكليفهم، فليس الحرج مرفوعاً في هذه الشريعة فقط بل نزه الله سبحانه وتعالى هذا الدين عنه بقوله عز وجل {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني في الدين الذي أنزله الله
وفي الحديث عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: ” الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ ” صحيح لغيره البخاري في “الأدب المفرد
قال الحافظ ابن حجر: الإسلام يُسْر بالنسبَةِ إلى الأديان قبلَه؛ لأن الله رفع عن هذه الأمَّة الإِصْرَ الذي كان على مَن قبلهم، ومِن أوضح الأمثلة: أنَّ توبة مَن كان قبلَنا كانت بقتلِهم أنفسهم، وتوبة هذه الأمَّة بالإقلاعِ، والعزم على عدم العودَة للذنب، والنَّدم . فتح الباري 1/ 118
اولاً : إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ
روى الإمام أحمد عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ “
وروى البيهقي عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ المَنْبَتَ لا سَفَرَاً قَطَعَ، ولا ظَهْرَاً أَبْقَى».
وَمَعْنَى الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: إِنَّ هذا الدِّينَ مَتِينٌ صَلْبٌ، فَسِيرُوا فِيهِ بِرِفْقٍ من غَيْرِ تَكَلُّفٍ، ولا تُحَمِّلُوا أَنْفُسَكُم مَا لا تُطِيقُونَ، فَتَعْجِزُوا وَتَتْرُكُوا العَمَلَ، وَتَكْرَهُوا الطَّاعَةَ بِسَبَبِ المَشَقَّةِ، فَإِنَّ المَنْبَتَ المُنْقَطِعَ المُتَخَلِّفَ عَن رِفْقَتِهِ لِكَوْنِهِ أَجْهَدَ دَابَّتَهُ حَتَّى أَعْيَاهَا أَو عَطِبَتْ، وَلَم يَقْضِ وَطْرَهُ، لا هُوَ قَطَعَ الأَرْضَ التي قَصَدَهَا، ولا هُوَ أَبْقَى ظَهْرَهُ يَنْفَعُهُ.
والمُنْبَتُّ: “هو المنقطع في سفره قبل وصوله، فلا سفرًا قطعَ، ولا ظهرَه الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السيرُ عليه بعد ذلك؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز، فهو إلى الهلاك أقرب، ولو أنَّه رفق براحلته واقتصد في سَيره عليها لقطعَت به سَفَرَه وبلغ إلى المنزل”؛ يُنظر فتح الباري لابن رجب
وكذلكَ مَن تَكَلَّفَ من العِبَادَةِ مَا لا يُطِيقُ.
وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَنَا بِأَنَّ الغُلُوَّ آفَةٌ خَطِيرَةٌ، وَدَاءٌ فَتَّاكٌ مُسْتَطِيرٌ، لِذَا حَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الغُلُوِّ والتَّشَدُّدِ، وَصَاحِبُ الغُلُوِّ مَحْرُومٌ يَوْمَ الدِّينِ من شَفَاعَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَنْ تَنَالَهُمَا شَفَاعَتِي: إِمَامٌ ظَلُومٌ، وَكُلُّ غَالٍ مَارِقٍ
وقد يُقال: إذا كان التشدُّد في الدِّين مذمومًا، فهل يُمدح التساهل فيه؟!
والجواب: أن الممدوح هو التوسُّط بين التشدُّد والتساهل؛ لأنَّ هذا هو السبيل الذي سلكه الإسلامُ في كلِّ تشريعاته، وبهذا جاء دينًا وسطًا؛ لا إفراط ولا تفريط، ولا تشديد ولا تساهل، إنه منهجٌ واقعي، وسَطِي، متوازن، هذا المنهج الواقعي الوسطي المتوازن، ينقلك إلى أعلى مراتب الإيمان.
ولهذا قال الله تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143
وحثَّ على التوازُن في حياة المسلِم فقال تعالى ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]
اذا يجدر بنا هنا ان نعرف اليسر والسماحة
تعريف اليسر : ويعرف التيسير بأنه رفع المشقّة والحرج عن المكلّف بأمر من الأمور لا يجهد النّفس ولا يثقل الجسم
تعريف السماحة : عرفها ابن الأثير بأنّ المقصود بها: الجود عن كرم وسخاء وسماحة المسلمين الّتي تبدو في تعاملاتهم المختلفة سواء مع بعضهم أو مع غيرهم من أصحاب الدّيانات الأخرى
روي الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: « لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَُ وَالصِّيَامَُ وَالْجِهَادَُ وَالصَّدَقَةَُ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قَالُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَتُجُوِّزَ لَهُمْ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَأُخِذُوا بِالْأَعْمَالِ وأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: نَعَمْ {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نَعَمْ ». ورواه مسلم
ثانيا : إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ
ايها الاخوة : ان هذه الأمة رضي الله لها اليسر، وكره لها العسر وبين ذلك في القرآن الكريم يقول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ( البقرة: 185) ويقول سبحانه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ( الحج: 78 ) ويقول سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ( النساء: 28 ) ويقول سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ( الأنبياء: 107)
لقد بين الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم ان ديننا الحنيف هو دين يسر فلم يكلف انسان نفسه من العبادة فوق طاقته في الحديث الذي رواه الامام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» البخارى
والمشادة المغالبة. (إلا غلبه) رده إلى اليسر والاعتدال
وروي الطبراني في المعجم الكبير عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّه قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ يَمْشِي حَتَّى صَعِدَ أُحُدًا فَأَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «وَيْلُ أُمِّهَا مِنْ قَرْيَةٍ يَتْرُكُهَا أَهْلُهَا كَأَعْمَرِ مَا تَكُونُ، يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا مَلَكًا مُصْلِتًا، فَلَا يَدْخُلُهَا» ، قَالَ: ثُمَّ انْحَدَرَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسُدَّةِ الْمَسْجِدِ، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، وَيَسْجُدُ وَيَرْكَعُ، وَيَسْجُدُ وَيَرْكَعُ، قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَذَا؟» ، قَالَ: فَأَخَذْتُ أُطْرِيهِ لَهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فُلَانٌ، وَهَذَا وَهَذَا، قَالَ: «اسْكُتْ لَا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ» ، قَالَ: فَانْطَلَقَ يَمْشِي حَتَّى إِذَا كُنَّا عِنْدَ حُجَرِهِ، لَكِنَّهُ رَفَضَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ» وقال في لفظ آخر: «اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَضِيَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْيُسْرَ وَكَرِهَ لَهَا الْعُسْرَ» قَالَهَا ثَلَاثًا
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: «جمع الله عزّ وجلّ في هذه الشّريعة بين كونها حنيفيّة وكونها سمحة. فهي حنيفيّة في التّوحيد. سمحة في العمل»
ان الدين الإسلامي دين اليسر وتيسيره من سماته التي تميز بها عما سواه من الأديان، فإن الله سبحانه وتعالى جعل من إحدى الحكم التي بعث من أجلها عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. يقول تبارك وتعالى: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-: ” إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاء بالتّيسير والسّماحة. وقد كانت الأمم الّتي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم فوسّع الله على هذه الأمّة أمورها وسهّلها لهم “
هذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد.
روي الامام الطبراني عَنْ أَبِي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ آنِيَةً مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَآنِيَةُ رَبِّكُمْ قُلُوبُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ , وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ أَلْيَنُهَا وَأَرَقُّهَا» مسند الشاميين للطبراني.
انها السماحة واليسر اللتين تؤدي معهما كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي سيل الحياة الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين وهو تيسير لا تفريط
كذلك تيسير النبي صلي الله عليه الصلاة والسلام لشؤون مناسك الحج، بل ولم يفرض إلا علي المستطيع ماديا وبدنيا فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: «اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ» فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلاَ حَرَجَ» فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ» متفق عليه
واكبر من ذلك الرخص لأصحاب الاعذار والمرضي ومن كان ضعيفا
لقد أمر الحبيب النبي صلي الله عليه وسلم بالتخفيف على المسلمين ونهى عن التثقيل في الصلاة عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلاَنٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الحَاجَةِ» البخارى
والصلاة قياما ومن تعذر عليه القيام صلي قاعدا روي الدار قطني في سننه عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , قَالَ: كَانَتْ لِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَلِّ قَائِمًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ».
ومن لم يستطع ان يتوضأ لمرض او فقد ماء فليتيمم روى الحاكم في المستدرك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ فِي شِتَاءٍ، فَسَأَلَ وَأُمِرَ بِالْغُسْلِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا لَهُمْ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ» ثَلَاثًا «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ الصَّعِيدَ – أَوِ التَّيَمُّمَ – طَهُورًا»
كذا الصيام فعدة من ايام اخر للمسافر والمريض او الفدو بالاطعام للمريض والكبير قال تعالي (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) البقرة
انظر ـ أخي المسلم ـ أنَّ هذا الدينَ من يُسرِه وسماحته أنَّ المسلمَ إذا نوى الخيرَ وعجزَ عنه فإنّ الله يثيبه على قدرِ نيّته، في الحديث: قَالَ أَبي بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» البخاري
عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ ) رواه ابن حبان في ” صحيحه
وهذه الرخص مثل القصر والفطر للمسافر، والمسح على الخفين والجبائر
وفي هذا تَطييبٌ لِقُلوبِ الضُّعفاءِ الذين يأْخُذون بِالرُّخَصِ لِعِلَّةٍ عِندَهم؛ حتى لا يَنتهيَ بهم ضَعفُهم إلى اليأْسِ والقُنوطِ مِن القُدرةِ على فِعْلِ العزائمِ، فيَتْرُكوا الـميسورَ مِن الخيرِ عليهم؛ لِعَجْزِهم عن الوصولِ لِـمُنتهى دَرجاتِ العزائمِ، وهذا الحديثُ يُوافِقُ قولَه تعالى في معرض ايات الصيام قال جلَّ جلاله: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185 أي: إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم
اقول قولي هذا واستفر الله لي ولكم