خطبة بعنوان: “الحال أبلغ من المقال” لفضيلة الشيخ أحمد أبو اسلام
30 يناير، 2025
خطب منبرية

* موضوع خطبة الجمعة القادمة:
الجمعة 1 من شعــبان 1446هـ – الموافق 31 من ينـــــــاير 2025م
إعداد / الشيخ أحمد أبو اسلام
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
رُبَّ حال أفصح من لسان
اللائق بالواعظ أن يتحلى بالورع وتكون هيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين ويتجافى عن الدنيا وألا يخالف فعله قوله ، وكل واعظ ليس عليه سيما الصلاح قل أن ينفع الله به ويتأثر به الناس.
لا ينبغي للقدوة أبدا أن يأتي مواطن الشبه التي لا يمكن التمييز فيها بين الحق والباطل، لأنه حينئذ قد يساء به الظن وينسب إلى الفجور وعدم الصلاح.
واللائق به أيضاً أن لا يضع نفسه في موطن الشبهة ومن وضع نفسه في مواطن الشبهة وظن الناس به الظنون فلا يلومن إلا نفسه.
ومنْ دعا النَّاس إلى ذمِّهِ*** ذمُّوهُ بالحقَّ وبالباطلِ
وفي قصة صفية ما يشير إلى هذا المعنى فإنها لما زارت النبي ﷺ في معتكفه ليلا خرج يودعها فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -ﷺ- أسرعا، فقال النبي -ﷺ-:”على رسلكما، إنها صفية بنت حيي”، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: “إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا . متفق عليه
فالأكمل للمرء بل الواجب عليه أن يتوب من جميع ذنوبه وأن يوافق قوله فعله وألا يخالف ما ينهى عنه، وله أسوة في العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، حيث قال لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{هود: 88}، ولا شك في أن من كان هذا حاله فهو أجدر أن يستجيب له الناس من ذاك الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إلى الإستجابة لأوامر رب العالمين
فقد ورد عن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقلت: أخبريني عن خُلِق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: (كان خلقه القرآن) (رواه مسلم) ، فمهما أمره القرآن بشيء امتثله، ومهما نهاه عنه تركه.
وهي إجابة دقيقة من أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي إجابة موجزة جامعة أيضاً، تحمل في طياتها كل ما يخطر على بال المرء من أخلاق الكمال وصفات العظمة، فحسبك أن يكون عليه الصلاة والسلام، ترجمة عملية حية لمبادئ القرآن الكريم . لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، وكان مربياً وهادياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به سواء في ذلك القرآن المنزل أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد حرص النبي ﷺ في مواقف كثيرة على أن يُري الصحابة أفعالا لا أقوالا مجردة ولا سيما حين تدعوا الحاجة إلى سرعة الامتثال وترسيخ المعنى.
وكان ﷺ يقول لأصحابه: “صلوا كما رأيتموني أصلي” وصلى على مكان مرتفع يوما وقال: “أيُّها الناسُ إِنما صنعتُ هذا لِتأتَمُّوا بي، ولِتَعلَّموا صَلاتي” كما في البخاري. وكان يقول ﷺ: “خذوا عني مناسككم” وقد حج راكبا ليرى الناس أفعاله ولا يخفى عليهم منها شيء.
وكان في سفر ومعه أصحابه فشق عليهم الصوم، فدعا رسول – ﷺ – بإناء فيه ماء، فشرب -وهو على راحلته- والناس ينظرون إليه فأفطروا لما رأوه.
وهذا يشبه قصة الحديبية حينما أمر النبي -ﷺ- الصحابة بالتحلل بعد أن تم الصلح، أمرهم ثلاثاً أن ينحروا ويحلقوا، فلم يفعلوا، فغضب النبي -ﷺ-، ودخل على أم سلمة فقالت: ما لي أراك غاضباً، أغضب الله من أغضبك؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: تصالحنا مع القوم، وانتهت العمرة، وأمرتهم أن ينحروا ويتحللوا فلم يتحلل أحد قالت فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها قائلة خذ المدية، واخرج على الناس ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق واحلق شعرك، ففعل النبي ﷺ ذلك، فلما رأى الصحابة رضي الله عنهم ما فعل، بادروا إلى الحلاق حتى كادوا يقتتلون على الحلاقة.
وقد كان السلف الصالح أقوالهم توافق أعمالهم
ومن ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:«ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به»( الجامع لأخلاق الراوي )
وهذا هو الحسن البصري رحمه الله؛ حينما جاءه الرقيق وطلبوا منه أن يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس وقتئذ يقبلون منه ما لا يقبلون من العلماء.
ولكن البصري قام في الجمعة الأولى فلم يتكلم في هذا، وفي الثانية لم يتكلم، وفي الجمعة الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب، فخرج الناس من المسجد فأعتقوا من كان عندهم من الرقيق، فجاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن ويقولون: “أبطأت علينا ثلاث جمع، فقال: لقد انتظرت حتى رزقني الله مالا، فاشتريت عبدا وأعتقته لوجه الله تعالى؛ حتى لا آمر الناس بما لم أفعل”.
مواعظ الواعظ لن تقبلا *** حتى يعيها قلبه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ *** خالف ما قد قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه *** وبارز الرحمان لما خلا
وقد ذم الله بني إسرائيل على عدم إتباع العلم العمل فقال سبحانه [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {البقرة:44}. فإنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه، فعيرهم الله تعالى.([تفسير الطبري])
وقد أثبت الله الوعيد الشديد المتنوع في مخالفة الإنسان قوله فعله:
1- فصاحبه متوعد بمقت الله تعالى، كما في قوله سبحانه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:2-3}.
2- ومتوعد بالعذاب في النار كما في قول الله تعالى [فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ] {المدَّثر:49-51}
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:«فيجب على المذكِر -بالكسر- والمذكَر -بالفتح- أن يعملا بمقتضى التذكرة وأن يتحفظا عن عدم المبالاة بها؛ لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم».([أضواء البيان])
3- وعذابه في النار يكون بطريقة بشعة منفرة جاء تصويرها في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ ( يعني تخرج امعاؤه) فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».([رواه البخاري ومسلم])
وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل بما قال أو دعا إليه» (رواه أبو نعيم في الحلية)
وعن أنس-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟!) (رواه أحمد).
وقد ورد عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنه جاءه رجلٌ فقال: “يا بنَ عبَّاس، إنِّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عنِ المنكر، قال: أوَبلَغْتَ؟ قال: أرجو، قال: فإن لم تَخْش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله عزَّ وجلَّ فافْعَل، قال: وما هُنَّ؟ قال: قوله عزَّ وجلَّ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44]، أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثَّاني؟ قال: قوله عزَّ وجلَّ: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، أحكمْتَ هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصَّالح شعيب عليه السَّلام: {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، أحكمْتَ هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابْدَأ بنفسك” [رواه البيهقي في الشعب ].
ومن أهم الأخلاق التي يحتاجها الدعاة:
الصدق: ليس في القول فحسب، وإنما في كل مناحي حياتهم حتى في طلبهم للجنة وخوفهم من النار، والخوف على العباد منها وصدقهم في طلب النجاة لهم، فإذا حصل الداعية الصدق خرج كلامه من قلبه إلى قلب المدعوين، وإذا فقده زل كلامه عن قلب السامع كما تزل القطرة عن الصفاة. وكلام الصادق يختلف عن كلام غيره، وكذا وجهه ومنظره يبدو الصدق عليه من عدمه، وقد روى أن رجلا رأى النبي فلما عرفه قال أنت الذي يقول الناس عنه أنه كذاب، قال كذلك يقولون. فقال: لا والله ما هذا بوجه كذاب.. وقد قال عبد الله بن سلام عندما رأى النبي لأول مرة بعد الهجرة: “فلما نظرت إلى وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب”.. فيا أيها الدعاة {اتقو الله وكونوا مع الصادقين}.
قصة
قال أبو يزيد البسطامي : بنيت امري على الصدق , وذلك اني خرجت من مكه الى بغداد اطلب العلم , فأعطتني امي أربعين دينارآ , وعاهدتني الصدق , ولما وصلنا أرض ( همدان ) , خرج علينا عرب , فأخذوا القافله , فمر واحد منهم ,
وقال : مامعك ؟
قلت : أربعون دينارآ . فظن أني أهزأ به , فتركني , فرأني رجل أخر , فقال : ما معك ؟
فأخبرته , فأخذني الى اميرهم , فسألني فأخبرته ,
فقال : ما حملك على الصدق ؟
قلت : عاهدتني أمي على الصدق , فأخاف ان اخون عهدها.
فصاح باكيآ وقال : أنت تخاف أن تخون عهد أمك , وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله
ثم أمر برد ما أخذوه من القافله ,
وقال : أنا تائب لله على يديك .
فقال من معه : أنت كبيرنا في قطع الطريق , وأنت اليوم كبيرنا في التوبه , فتابوا جميعآ ببركة الصدق
التواضع : فالدعاة أحوج الناس للتخلق بهذا الخلق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في التواضع.
* فمن ذلك ما يرويه عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: «رحلت إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيته، فو الله إنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ، إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ، فَاسْتَوْقَفتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلاً تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاَللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكِ. قَالَ: ثُمَّ مَضَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةٍ لِيفاً، فَقَذَفَهَا إلَيَّ، فَقَالَ: اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ. قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا. فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ. فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاَللَّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ!… وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَأَسْلَمْتُ»[الروض الأنف]. فانبهر عدي بتواضعه صلى الله عليه وسلم وتبيّن منه صدق نبوته وأنه ليس بملك، إذ طال وقوفه مع امرأة لا يأبه بها الملوك، ثم أكد النبيُّ صلى الله عليه وسلم تواضعه بجلوسه على الأرض وإعطائه الوسادة لعدي، وكان انبهاره بتواضعه صلى الله عليه وسلم سبباً في إسلامه.
الرحمة : الرحمة من صفات الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، وجعل الله الرحمة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29]. قال ابن كثير: “يخبر الله تعالى عن محمد صلوات الله عليه أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب، وهو مشتمل على كل وصف جميل ثم ثنّى بالثناء على أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار، حيما براً بالأخيار، غضوباً في وجه الكافر ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن”.
وقد دلت أحاديث السُّنة النبوية على رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته صغيرها وكبيرها. فعن قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فاسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه» ( سنن أبي داود [4942]). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال”: “إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا”، قال: “فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أشد غضباً في موعظة منه يومئذ”. قال: فقال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة». إن غضب النبي صلى الله عليه وسلم وإنكاره الإطالة في الصلاة وإلحاق المشقة بالمصلين دليل على رحمته صلى الله عليه وسلم بالمدعوين؛ حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤكد للدعاة من بعده تأكيداً عملياً على أهمية الرحمة وأثرها على المدعوين، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم للصلاة يريد إطالتها، ولكنه يتجوز فيها لسماعه بكاء صبي، وكذلك غضبه لإطالة الصلاة مما يؤدي إلى التنفير، حتى إن بعض الناس يصر على الإطالة في الصلاة ويعد ذلك أمراً لا بد منه، متغافلاً عن ظروف الناس وحاجاتهم وأحوالهم الصحية، إن السماحة والرحمة لها أثر عظيم في الدعوة إلى الله تعالى.
ومما يدل على سماحة أخلاقه صلى الله عليه وسلم ما جاء في هذا الحديث، فعن أُسامة بن زيد رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثم يضمهما ثم يقول: «اللهم أرحمهما فإني أرحمهما»”.
بعض الناس تجده قبل الالتزام مرحـًا وخفيفـًا وبشوشـًا يجلس مع والديه وإخوانه يمازحهم ويضاحكهم ، فإذا ما من الله عليه بالالتزام قطب جبينه وعبس وكشَّر ، وخاصمت البسمة وجهه ، وأخذ ركنـًا وحده ، واعتزل أهل البيت ، إذا خرج أحس أهل البيت براحة كبيرة وبهم قد انزاح عن قلوبهم ، وإذا دخل سكت المتكلم ، وأمسك المبتسم ، وانكمش الأولاد في زاوية البيت ، كلامه أوامر ، وخطابه شديد ..، ..
هذا النوع من الملتزمين يتمنى أهله ألو بقي طيلة عمره بعيدًا عن الالتزام ، وعن هؤلاء المتشددين الذين خربوا عليهم الولد أو الرجل ، ومثل هذا يضر أكثر مما ينفع لجهله بالدين ، وأخلاقيات المسلمين ، وبكيفية الدعوة إلى رب العالمين .
اسمع إلى الله تعالى يقول لنبيه – صلى الله عليه وسلم – : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )(آل عمران/159) ، وقال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة)(النحل/125) ، وقال تعالى : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت/46) .
وانظر إلى إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – يقول لأبيه وهو يدعوه : ( يَا أَبَتِ.. يَا أَبَتِ .. يَا أَبَتِ ) .. ونوح – عليه السلام – يقول لابنه : (يَا بُنَيَّ) .. وكل نبي يقول لقومه ( يَا قَوْمِ ).
فهي نداءات تحمل معنى الحب والقرب والصلة بين الداعي والمدعوين ، ففيها إشارة لمدى الرحمة بهم والخوف على المخالف والشفقة على المعارض ، فليس مقصد الداعي الاستعلاء بدعوته ، وإنما المقصد استنقاذ أكبرِ قدرٍ من الناس من الهلاك .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال : ” إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا ، فجعل الجنادب والفراشات يقعن فيها وهو يَذُبَّهنَّ عنها ، وأنا آخذ بِحُجَزكم ، وأنتم تفلتون مني ، تقحمون فيها ” .
ولما رجع – صلى الله عليه وسلم – من ثقيف وجاءه ملك الجبال فقال له : إن شئت أن أُطْبقَ عليهم الأخشبين ؟ فقال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئـًا .(متفق عليه) .
وهكذا كان سبيله في دعوته – صلى الله عليه وسلم – اللين والرفق بالمدعوين . كما روى مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عليه – قال : ” بينما نحن في المسجد مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مه مه ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : لا تزرموه – لا تقطعوا عليه بوله فتضروه – دعوه ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعاه فقال له : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر ، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ، قال : وأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماءٍ فسنَّه عليه – أي صبَّه عليه – ” .
وروى مسلم عن معاوية بن الحكم السُلمي قال : ” بينما أن أصلي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أماه ، ما شأنكم تنظرون إليَّ ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فبأبي وأمي ما رأيت معلمـًا قبله ولا بعده أحسن تعليمـًا منه ، فوالله ما نهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني ، ثم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، وإنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ” .
وجاء رجل إلى هارون الرشيد فقال : إني ناصحك بمغلظ لك في النصيحة ؟ قال : لا ، إن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني ، فقال له : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(طـه/44) .
فباللين تستلين قلوب الناس ، وبالرفق تجتذبهم إلى طريق الحق .
هذا وصلوا على سيدنا محمد