خطبة بعنوان : في رحاب الاسراء والمعراج دروس وعبر ( فرج بعد كرب) لفضيلة الشيخ ثروت سويف

جمع وترتيب فضيلة الشيخ :  ثروت علي سويف 
امام وخطيب بالأوقاف المصرية

 

اقرأ في هذه الخطبة

أولا: ما الإسراء والمعراج ؟

ثانياً : ما الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج ؟

ثالثاً: فضل ومكانة سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم في تلك الرحلة :

رابعاً: ما الدروس المستفادة من الرحلتين وما المشاهد التي راها ؟

الخطبة

الحمدُ للهِ الذي أسرَى بعبدِهِ ورسولِه المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، وأراهُ مِنْ آياتِه ما يزدادُ به الإيمانُ ويقوَى به اليقين

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المبينُ، الذي فضَّلَ نبيَّنا محمدا ًعلى جميعِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وجعلَ دينَه ظاهِراً علَى كلِّ دينٍ

وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً سيد المرسلين وحبيب رب العالمين ارسله ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً

واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، والهادي النبيل، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

اما بعد

فقد اقتضت حكمة الله سبحانه إرسال الأنبياء مؤيَّدين بمعجزات لتكون تصديقًا لهم فيما يبلغون من رسالاته، فأعطي سيدنا محمد صاحب المعجزات الخالدات، ‏وكرمه سبحانه برحلة لم يسبق لبشرٍ أن قام بها وقد ذكرهما الله في كتابه

فقال في شأن الإسراء : بسم الله الرحمن الرحيم (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه [الإسراء:1]

روى الإمام مسلم بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ»، قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ»، قَالَ: «فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ»، قَالَ ” ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ )

أما المعراج فهو ثابت بنص الأحاديث الصحيحة ، أما القرءان فلم ينص عليه نصاً صريحا

لكن ذكر في سورة النجم قال تعالي ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:1-18].

في حديث أبي سعيد : « ثم جيء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم ، فإذا هو أحسن ما رأيت ، ألم تر إلى الميت كيف يحد بصره إليه ؟ فعرج بنا فيه حتى انتهينا إلى باب السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل ، فقيل له : من هذا ؟ فقال : جبريل : قال : ومن معه ؟ قال : محمد ، قال : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، ففتحوا وسلموا علي ، وإذا ملك موكل يحرس السماء يقال له إسماعيل ، معه سبعون ألف ملك ، مع كل ملك منهم مائة ألف ، ثم قرأ : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) الشريعة للآجُرِّيّ

فما الإسراء والمعراج ؟

أما الإسراء: فهي رحلة أرضية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس.

أما المعراج: فهي رحلة سماوية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من بيت المقدس إلى السماوات العلا ثم إلى سدرة المنتهى ثم اللقاء

يقول الامام البوصيري في البردة

مـولاي صلـي وسلـم دائـمـاً أبــدا علـى حبيبـك خـيـر الخـلـق كلـهـم

يا خير مـن يمـم العافـون ساحتـه سعياً وفوق متـون الأينـق الرسـم

ومـن هـو الآيـة الكبـرى لمعتـبـرٍ ومن هـو النعمـةُ العظمـى لمغتنـم

سريت مـن حـرمٍ ليـلاً إلـى حـرمٍ كما سرى البدر في داجٍ من الظلم

وبـت ترقـى إلـى أن نلـت منـزلـةًمن قاب قوسين لم تدرك ولم ترم

وقدمـتـك جـمـيـع الأنـبـيـاء بـهــاوالرسل تقديـم مخـدومٍ علـى خـدم

وأنت تخترق السبـع الطبـاق بهـم في مركب كنت فيه صاحب العلم

ما الحكمة من الاسراء والمعراج ؟

الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج منها

‏أولاً: توالت على رسول الله قبيل حادثة الإسراء والمعراج الحوادث والأزمات الكثيرة، فإلى جانب ما كان يلاقيه من عنتٍ وعذاب الكفار له وتصديهم لدعوته وإنزال الأذى والضرر به وبمن تبعوه، فَقَد نصيرًا وظهيرًا له هو عمه أبو طالب، وكذلك فَقَد شريكة حياته وحامية ظهره السيدة خديجة التي كانت له السند والعون على تحمُّل الصعاب والمشقات في سبيل تبليغ دعوته السامية، فكلاهما مات قبيل حادثة الإسراء والمعراج؛ ولذا سمي هذا العام “عام الحزن” ومن هنا كان إنعام الله على عبده ورسوله محمد ﷺ بهذه المعجزة العظيمة؛ تطييبًا لخاطره وتسرية له عن أحزانه وآلامه… ثم ليشهد فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المشاهد وكان لابد من تهيئته لتلك الرحلة فجاءه الملك ليشق صدره، ويخرج قلبه ، وغسل القلب الطاهر الشريف في طست من ذهب، بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، وقدم له البراق ينتهي حافره حيث ينتهي طرفه، وكان معه جبريل، وقد ارتحل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكل ذلك كان في برهة من الليل.

وفي ليلة الإسراء والمعراج ثم ذلك الربط بين أفراد الأمة المسلمة كلها عبر الرباط ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وثاني المسجدين ومسرى رسول الله .

‏ثانيًا: ولما كان الإسراء وكذلك المعراج خرقًا لأمور طبيعيَّة ألفها الناس، فقد كانوا يذهبون من مكة إلى الشام في شهر ويعودون في شهر، لكنه -أي: رسول الله ذهب وعاد وعرج به إلى السموات العلا، وكل هذا وذاك في جزء… فكان هذا شيئًا مذهلاً، أي أنه كان امتحانًا واختبارًا للناس جميعًا، وخاصة الذين آمنوا بالرسالة الجديدة، فصدَّق أقوياء الإيمان وكذَّب ضعاف الإيمان. وهكذا تكون صفوف المسلمين نظيفة، ويكون المسلمون الذين يُعِدُّهم الله للهجرة أشخاصًا أتقياء أقوياء، لهم عزائم متينة وإرادة صلبة؛ لأن الهجرة تحتاج لأناس ‏تتوفر لديهم هذه الصفات.

ففي الإسراء والمعراج رأى النبي ورأى المؤمنين طرفا من آيات الله الكبرى في ملكوت السماوات والأرض جعلهم يؤمنون بقدرة الله تعالى ، وبذلك تبين إيمان الصادقين وغير الصادقين ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

روي البخارى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قَالَ: «هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ»، قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} [الإسراء: 60]، قَالَ: «هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ»

‏ثالثًا: لقد كان الصعود من بيت المقدس ولم يكن من مكة، ذا دلالات، إحداها الأمر بنشر الإسلام وتوسعة إطاره؛ وذلك لأنه الدين الخاتم الشامل الجامع الذي ارتضاه الله للناس كافة على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وشعوبهم، ولغاتهم وان هذه الامه هى الامة الخاتمه وان الحق معها .

‏ ‏ونشير إلى أنه لا نستطيع إحصاء ما للإسراء والمعراج من حكم وفضائل، وإنما سقنا ما أفاء الله به علينا، وعرضناه بإيجاز.

فضل ومكانة سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم في تلك الرحلة :

‏حيث صعد به رب العزة والجلالة إلى مكان عظيم لم يبلغه أحد من البشر قبله ، حيث عرج به إلى السموات السبع، وتخطاهن إلى البيت المعمور حتى وصل إلى سدرة المنتهى، ثم عرج إلى الجبار جل جلاله, وكلَّمه رب العزة والجلالة فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى

فلما ركب البراق تشبث جبريل بركابه وأخذ ميكائيل بزمام براقه فلم يزل يخترق الملكوت إلى أن وصل إلى سرادقات الجبروت فاخترق حجب النور وجاوز الستور وصار العرش عن يمينه والكرسي عن شماله واللوح

والقلم خلف ظهره ووصل إلى مقام لم يصل إليه أحد سواه وأقرب إلى محل لم يقربه عبد إلا إياه فقيل له تقدم يا خاتم النبيين فقال تقدمت يا رب العالمين فقال وعزتي وجلالي لأنشرن ذكرك لأشرحن صدرك ولأرفعنك قدرك ولأشفعنك في العصاة المذنبين ولأصلين على من صلى عليك من المؤمنين

قال البغوي ألم نشرح لك صدرك أي ألم نفتح ونوسع ونلين قلبك للإيمان والنبوة والحكمة والعلم صلى الله عليه وسلم ووضعنا عنك وزرك أي وزر أمتك لاشتغال قلبه بذنوب أمته جزاه الله أفضل ما جازى نبيا عن أمته صلى الله عليه وسلم.

فوصوله إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام :انفرد رسول الله عن جبريل بعد سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام التي تنسخ بها الملائكة في صحفها من اللوح المحفوظ .

سماعه كلام الله تعالى الذاتي الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر

فرؤيته لله عزّ وجلّ بفؤاده لا بعينه : مما أكرم الله به نبيه في المعراج أن أزال عن قلبه الحجاب المعنوي ،فرأى الله بفؤاده ، أي جعل الله له قوة الرؤية في قلبه لا بعينه ، لأن الله لا يرى بالعين الفانية في الدنيا ، فقد قال الرسول صلي الله عليه وسلم واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا.

لقد كرم الله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء والمعراج تكريماً ما أكرم به نبياً من الأنبياء، ولا رسولاً من الرسل.

فقد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة، وابن كثير في تفسيره وفي البداية والنهاية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لربنا وفي رواية البزار قوله: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} ، فقال تبارك وتعالى له: سل : يا رب! ما من نبي إلا وقد كرمته، فقد اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، وسبحت الجبال مع داود، وسخرت الجن والطير والريح لسليمان، وخلقت عيسى من روحك، ففيم فضلتني بين هؤلاء وبم كرمتني بين هؤلاء؟ فقال له ربنا: يا محمد! إن كنت كرمت هؤلاء فقد كرمتك تكريماً ما كرمته لنبي من قبلك، فقال: ما هو يارب؟ فقال ربنا سبحانه وتعالى: يا محمد! لقد رفعت ذكرك، وأعليت شأنك، فلا أذكر حتى تذكر معي، يا محمد! المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: وأشهد أن محمداً رسول الله.

هل هناك تكريم أعظم من هذا التكريم؟! يذكر اسم الله فيذكر بعده اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أذكر حتى تذكر معي يا محمد! لقد قرنت اسمك باسمي فلا أذكر حتى تذكر.

يقول حسان بن ثابت:

أغر عليه للنبوة خاتم من نور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي مسألة وددت أني ما سألته إياها، قلت: يا رب لقد اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، واصطفيت نوحاً على البشر، وجعلت عيسى يحيي الموتى فما أعطيتني؟ قال الله عز وجل له: يا محمد! ألم أجدك يتيماً فآويتك، ووجدتك ضالاً فهديتك، ووجدتك عائلاً فأغنيتك، ألم أشرح لك صدرك، وأضع عنك وزرك، وأرفع لك ذكرك، قلت: بلى يا رب! قال: (وللآخرة خير لك من الأولى)، أعطيتك الكوثر ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، وعدد آنيته بعدد نجوم السماء).

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي :

أَســــرَى بــــك اللهُ لــيــلاً, إِذ مـلائـكُــه. والرُّسْلُ في المسجد الأَقصى على قدَمِ

لـمــا خـطــرتَ بـــه الـتـفُّــوا بـسـيـدِهـم كالشُّـهْـبِ بـالـبـدرِ, أَو كالـجُـنـد بالـعَـلـمِ

صـلـى وراءَك منـهـم كـــلُّ ذي خـطــرٍ ومـــــن يــفُـــز بـحـبــيــبِ الله يــأْتــمــمِ

جُـبْـتَ السـمـواتِ أَو مــا فـوقـهـن بـهــم عـــلـــى مـــنـــوّرةٍ دُرِّيَّـــــــةِ الــلُّــجُـــمِ

رَكـوبـة لــك مــن عــزٍّ ومــن شـــرفٍ لا فـي الجيـادِ, ولا فـي الأَيْـنُـق الـرسُـمِ

مَشِـيـئـةُ الـخـالـق الـبــاري, وصَنـعـتُـه وقــــدرةُ الله فــــوق الــشـــك والـتُّــهَــم

حَـتّــى بَـلَـغـتَ سَـمــاءً لا يُـطــارُ لَــهــاَلـــى جَـنــاحٍ وَلا يُـسـعـى عَــلــى قَــــدَمِ

وَقــيــلَ كُـــــلُّ نَــبِـــيٍّ عِــنـــدَ رُتـبَــتِــهِ وَيـــا مُـحَـمَّـدُ هَـــذا الــعَــرشُ فَـاِسـتَـلِـمِ

خَـطَـطـتَ لِـلـديـنِ وَالـدُنـيــا عُلـومَـهُـمـا يـا قـارِئَ الـلَـوحِ بَــل يــا لامِــسَ القَـلَـمِ

أَحَـطــتَ بَينَـهُـمـا بِـالـسِــرِّ وَاِنـكَـشَـفَـت لَــكَ الخَـزائِـنُ مِــن عِـلــمٍ وَمِـــن حِـكَــمِ

هو المصطفى وهو المجتبى فلقد اصطفى الله من البشرية الأنبياء واصطفى من الأنبياء الرسل واصطفى من الرسل أولى العزم واصطفى من أولى العزم الخمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد واصطفى محمد ففضله على جميع خلقه. شرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وزكاه فى كل شىء :

زكاه فى عقله فقال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [ النجم: 2].

زكاه فى صدقه فقال سبحانه: وَمَا يَنطِقُ عَن الهوىَ [ النجم: 3].

زكاه فى صدره فقال سبحانه: أَلم نَشْرح لَكَ صَدْرَكَ [ الشرح: 1].

زكاه فى فؤاده فقال سبحانه: مَاكَذَبَ الفُؤادُ مَارَأىَ [ النجم: 11].

زكاه فى ذكره فقال سبحانه: وَرَفعنَا لَكَ ذكْرَكَ [ الشرح: 4].

زكاه فى طهره فقال سبحانه: وَوَضعنَا عَنكَ وزْرَكَ [ الشرح :2 ].

زكاه فى علمه فقال سبحانه: عَلَّمَهُ شَديدٌ القُوىَ [ النجم: 5 ].

زكاه فى حلمه فقال سبحانه: بِالمؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ التوبة :128].

زكاه كله فقال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلقٍ عَظِيمٍ [ القلم: 4 ].

بأبى هو وأمى . .. هو رجل الساعة، نبى الملحمة، صاحب المقام المحمود – الذى يغبطه عليه كل نبى فى أرض المحشر – الذى وعد الله به نبينا فى قوله :

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء-79].

‏ومن فضله في تلك الليلة شجاعتة صلى الله عليه وسلم ويتضح ذلك عندما أخبر قريشا أنه أُسري به إلى بيت المقدس وعاد في نفس الليلة، ولم يتأخر ولم يتردد مع علمه بعناد كفار قريش، وعدم تصديقه في هذا الأمر العظيم حيث لا يمكن تخيل أن يتمكن بشر من الذهاب إلى بيت المقدس والعودة في نفس الليلة فيما كانوا يستغرقون في هذه الرحلة شهرين؛ شهرًا في الذهاب وشهرًا للعودة.

‏ومن فضله عموم رسالته صلى الله عليه وسلم:

‏لقد ثبت في الروايات المتعددة أن رسول الله صلى بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودليل على عالمية الإسلام، وعموم رسالة محمد ، وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا، تحمَّلها سيدنا رسول الله بأمانة وقوة، وقام بحقها على خير وجه، ثم ورَّثها لأمته من بعده، وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس، ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]

والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي، إلا دخل النار)) وذالكم لعموم رسالته -عليه الصلاة والسلام- إلى الثقلين، بخلاف غيرهم من الأنبياء، فقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بعث إلى الناس عامة، كما في حديث الخصائص المشهور, وفي الحديث الصحيح: ((لو كان موسى حياً ما وسعه إلا إتباعي)) وجاء ما يدل على أن عيسى -عليه السلام- إذا نزل في آخر الزمان إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

‏( من دروس الاسراء والمعراج )

والإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي جرت في الإسلام، ولنا نحن المسلمين دروس وعبر نستنبطها من تلك المعجزة العظيمة أهمها :

‏الدرس الأول: الاطلاع على قدرة الله تعالى وبدائع صنعه :

‏إن القدرة الإلهية التي خلقت هذا الكون الكبير، لن تعجز عن حمل بشر إلى عالم السماء، وإعادته إلى الأرض، في رحلة ربانية معجزة لا يدري كيفيتها بشر؛ فالإسراء: آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر؛ ولهذا ‏فقد أثار كفار قريش حوله جدلاً طويلاً، وتساؤلات كثيرة. ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن الله تعالى واضع نظام هذا الكون وقوانينه، وأن من وضع قوانين التنفس والجاذبية والحركة والانتقال والسرعة وغير ذلك، قادر على استبدالها بغيرها عندما يريد ذلك.

و‏عندما يطلع الإنسان على عظمة الله سبحانه، ويدرك بديع صنعه، وعظيم قدرته، يثق بنفسه ودينه ويطمئن إلى أنه بإيمانه يكون قد لجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلا الأصلح، ولا يريد له إلا الخير، قادر على كل شيء، ومحيط بكل الموجودات

‏الدرس الثاني : الإسراء والمعراج معجزة عظيمة من معجزات النبي والتأييد الإلهي:

‏لقد أكرم الله نبيه محمدًا برحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، فقد شاهد من آيات ربه ما لا يمكن لبشر أن يراه إلا عن طريق العون الإلهي، ووصل إلى مستوى يسمع فيه كلام الله تعالى الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر، فقد منحه الله في هذه الرحلة عطاءً روحيًّا عظيمًا؛ تثبيتًا لفؤاده، ليتمكن من إتمام مسيرته في دعوة الناس إلى طريق الحق والهداية.

‏في صباح تلك الليلة المباركة أخبر الرسول أم هانئ بما حدث له في هذه الليلة، فتوجهت إليه بالرجاء أن لا ‏يحدِّث بذلك أحدًا؛ حرصًا عليه أن تناله ألسنة أهل مكة بسوء، وهي تعلم عنادهم، وأنهم لن يتركوا فرصة للتشهير به إلا انتهزوها. ولكن رسول الله أَبَى إلا أن يصدع بالحق؛ لأنه صاحب دعوة ومأمور بالتبليغ، وليس من طبيعة دعوة الحق أن ترضى بالحصار أو تستكين للتعتيم عليها.

ولما أخبر الرسول قومه بخبر الإسراء، كذَّبوه وشككوا في قوله، وتحدوه أن يثبت صدقه إن كان صادقًا، وراحوا يسألونه: صِفْ لنا بيت المقدس. قال : “دخلت فيه ليلاً وخرجت منه ليلاً”. وحينئذٍ أتاه جبريل بصورته، فجعل ينظر إليه ويخبرهم؛ روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول: “لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ” صحيح البخاري

وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه، فقد أُحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أُحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز او نقلت صورته وهذا من الاعجاز في ذلك الزمان

‏الدرس الثالث : فضل وأهمية الصلاة وكيف التقي بموسي و الاستفادة من الخبرات السابقة:

‏لقد فرضت الصلاة من بين أركان الإسلام في السماء السابعة، فأصبحت الركن الثاني من أركان الإسلام، وفي هذا دليل على أهمية هذه الرحلة العظيمة وأهمية الصلاة، وعظمها في الإسلام؛ ولذلك شدّد الإسلام عليها كل التشديد، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض، وأصبحت قُرَّة عين النبي ؛ روي الامام احمد في مسنده عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ “. وكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة، قَالَ حُذَيْفَةُ: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى ” مسند الإمام أحمد بن حنبل

‏وكتب عمر بن الخطاب إلى عُمَّاله فقال: “إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع”. ‏وفي هذا حض على الاهتمام بأمر الصلاة وتخصيصها بمزية من المراعاة؛ لأنها إن قُبلت منه نُظر في سائر أعماله ونفعه ما عمل من غير ذلك من أعمال البر، وإن لم تُقبل لم ينفعه شيء من عمله ولم يُنظر له فيه.

يعتبر فرض الصلاة بهيئتها ‏المعروفة وعددها وأوقاتها اليوميَّة المعروفة على المسلمين في رحلة المعراج دليلاً على أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي معراجه الذي يعرج عليه إلى الله بروحه، وأنها الوقت الذي يناجي العبد فيه ربه، ويبث إليه ما يرنو إليه. فالصلاة إذن عماد الدين؛ من تركها وأهملها فكأنه هدم دينه وأضاعه ويتضح لنا ذلك من خلال استجابة سيدنا رسول الله لنبي الله موسى بالمراجعة في أمر الصلوات وكيغف استفاد منخبرة سيدنا موسي عليه السلام

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: ” ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسِينَ صَلَاةً فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى قَالَ: فَبِمَا أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَمَا زِلْتُ أَخْتَلِفُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى يَحُطُّ عَنِّي خَمْسًا وَيَقُولُ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ هَذِهِ حَتَّى رَجَعْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: فَنُودِيتُ أَنِّي قَدْ أَجَزْتُ – أَوْ أَمْضَيْتُ – فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، وَجَعَلْتُ كُلَّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا ” مستخرج أبي عوانة

‏الدرس الرابع : تعليم سيدنا محمد بالمشاهدة والنظر:

‏وذلك ليكون درسًا عمليًّا يتعلم فيه الرسول بالمشاهدة والنظر، ولقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها إلا بضرب من التخيُّل، فأنَّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حُبس عنا الكثير من العلم، وما أوتينا منه إلا قليلاً، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]. والله قد أعطى كل نوع من مخلوقاته علومًا تتوافق مع استعداده وفطرته، ‏ومهمته في هذا الكون.

‏إن أنبياء الله ورسله بعثهم الله إلى خلقه ليعرفوهم بالله، وكيف يعبدونه؛ ‏ليُعلموهم أن الله وحدح هو المستحق للعبادة، قال تعالى: {‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وهذا يعني أن رسالة الأنبياء واحدة، وأنهم جميعًا إخوة، وقد أكَّد رسول الله هذه الحقيقة في مناسبات عدة، منها: قوله عن نبي الله يونس “أخي كان نبيًّا، وأنا نبي”[11].

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : “أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”. والعَلات بفتح المهملة: الضرائر. وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه عَلَّ منها. والعلل: الشُّرب بعد الشرب. وأ‏ولاد العلات: الإخوة من الأب أي أن شرائعهم متعددة، وأصل الدين واحد هو التوحيد. وجاءت ليلة الإسراء والمعراج تؤكد المعنى السابق، فوجدنا أن العبارة التي رددها الأنبياء عليهم السلام ترحيبًا بسيدنا محمد حين استقبلوه في السموات العُلا هي: “مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ”

من عجائب ما رأى الرسول في الإسراء والمعراج :

الدنيا : رءاها بصورة عجوز .

روى البيهقيُّ وغيره من حديث أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى في مَسراه عجوزًا على جانب الطريق، فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) فقال: ((أمَّا العجوز التي قد رأيتَ على جانب الطريق فلم يبقَ مِن عمر الدنيا إلا كما بَقي من عُمرِ تلك العجوز)).

وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيدٍ أنه رأى امرأةً حاسرةً عن ذِراعيها عليها مِن كل زينةٍ خَلقها الله، تقول: يا محمَّد انظرني أسألك، فلم يُجِبها ولم يقم عليها. ويقول جبريل: ((تلك الدنيا، أمَا إنَّك لو أجبتَها وأقمتَ عليها لاختارَت أمَّتُك الدنيا على الآخرة)).

إبليس : رءاه متنحياً عن الطريق .

جاء في رواية ابن جَرير عن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ ليلة أُسري به بشيءٍ يَدعوه مُتنحِّيًا عن الطريق يقول: هَلمَّ يا محمد! فلما سأل جبريلَ عنه قال: ((وأما الذي أراد أن تَميل إليه فذاك عدوُّ الله إبليس؛ أراد أن تَميل إليه)).

وجاء في رواية ابن ماجَهْ وأحمدَ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أسفلَ منه – وهو في السماء الدنيا – رَهَجًا ودُخانًا وأصواتًا، فقال: ((من هؤلاء يا جبريل؟)) قال: ((هذه الشياطين يَحومون على أعيُنِ بني آدم؛ لا يتفكَّرون في خلق السموات والأرض، ولولا ذلك لرأَوُا العجائب)).

قبر ماشطة بنت فرعون وشمَّ منه رائحة طيبة .

روي الطبراني في معجمه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا وَجَدْتُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا فَقُلْتُ: مَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تَمْشُطُ بِنْتَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ، فَقَالَتْ بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أَبِي فَقَالَتْ: لَا وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّكِ وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ، قَالَتْ: وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرَ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَأُعْلِمُهُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَعْلَمَتْهُ فَدَعَا بِهَا، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ، أَلَكِ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَخَذَ أَوْلَادُهَا يُلْقُونَ فِيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا هِيَ؟، قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَتَدْفِنَّا جَمِيعًا، قَالَ: وَذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا فَلَمْ يَزَلْ أَوْلَادُهَا يُلْقُونَ فِي الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ابْنٍ لَهَا رَضِيعٍ فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجَلِهِ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهِ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ “. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ.

داعي اليهود وداعي النصارى :

روى البيهقيُّ في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا أسيرُ إذ دَعاني داعٍ عن يميني: يا محمد، انظرني أسألك، فلم أُجِبه ولم أَقُم عليه. قال جبريل: فذاك داعي اليهود، أمَا إنك لو أجبتَه وأوقفت عليه لتهوَّدَت أمتُك))…

قال: فقلت: ((فبينما أنا أسير إذ دعاني داعٍ عن يساري قال: يا محمد، انظرني أسالك، فلم ألتَفِت إليه ولم أقم عليه. قال جبريل: ذاك داعي النَّصارى، أمَا إنك لو أجبتَه لتنصَّرَت أمتُك)).

اللَّبن والخمر :

روى الإمام أحمدُ ومسلمٌ وغيرهما عن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريلُ عليه السلام بإناءٍ من خمر، وإناء من لبن، فاخترتُ اللبن، فقال جبريل: أصبتَ الفطرة))

فمن أحداث تلك الليلة المباركة أن رسول الله قد اختار إناء اللبن وشرب منه، جاء في الحديث أن جبريل قال له عندما أخذ اللبن: “هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ”

قال ‏القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة

وفي رواية: “هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ”

‏إن سلامة الفطرة هي لب الإسلام؛ لأن عقيدته وشريعته وأحكامه كلها تتناسب مع مقتضيات الفطرة التي خلق الله الناس عليها، قبل أن تدنسها الشهوات والأطماع والأغراض الذاتية، وقد وصف الله هذا الدين بأنه دين الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

وتوالت المرائي لرسول الله فراي النبين ثم راي الجنة والنار وما فيهما وإذا ما عرَضْنا لهذه المَرائي التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاوَلنا تصنيفها حسب برنامج الدعوة الإسلامية؛ نجدها تتصدَّى أولَ ما تتصدى لطبيعة تلك الدعوة، وأنها دعوةٌ سهلة سمحة يسيرة، لا رهَق فيها ولا إعنات؛ فهي دعوة الفطرة السليمة، والعقل الرشيد وسنذكر بعضا منها

المجاهدون في سبيل الله:

روى ابن جرير وغيرُه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قوم يَزرعون في يومٍ ويحصدون في يوم، كلَّما حصَدوا عاد كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا جبريل ما هذا؟)) قال: ((هؤلاء المجاهدون في سبيل الله؛ تُضاعَف لهم الحسَنةُ بسَبعِمائة ضعف))؛ ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39].

خطباء الفتنة:

رَوى ابن جَرير في تفسيره والبيهقيُّ والحاكمُ من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ تُقْرَض ألسنتُهم وشِفاههم بمقاريضَ مِن حديد؛ كلَّما قُرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال: ((ما هذا يا جبريل؟))، فقال: ((هؤلاء هم خُطباء الفتنة؛ يقولون ما لا يَفعلون)).

وهذه المرئية تتعلق بسُلوك الدعاة، وأنهم لا بد أن تتوافق أفعالهم مع أقوالهم، وأنه إذا انفصلت الكلمة عن السلوك وتباينَت عنه كان ذلك وحدَه كافيًا للإعراض عن دعوتهم، وعدَم الالتفات إلى أقوالهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]

عَقبة على الطريق:

جاء في حديث أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى على خَشبة على الطريق لا يَمرُّ بها ثوبٌ إلا شقَّته، ولا شيءٌ إلا خَرقَته، قال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال: ((هذا مَثل أقوامٍ مِن أمتك يقعدون على الطريق فيَقطعونه))، ثم تلا: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ… ﴾ [الأعراف: 86].

صورة تاركي الصلاة :

جاء في رواية البيهقيِّ وابن جرير عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ تُرضَخ رؤوسُهم بالصخرة كلما رُضِخت عادت كما كانت، ولا يُفتَّر عنهم من ذلك شيء، فقال: ((ما هؤلاء يا جبريل؟)) قال: ((هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسُهم عن الصلاة المكتوبة)).

يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].

ويقول لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].

صورة مانعي الزكاة:

جاء في رواية البيهقيِّ وابن جَرير عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قومٍ على أقبالهم رِقاع وعلى أدبارهم رِقاع، يَسرَحون كما تسرح الإبلُ والغنم، ويأكلون الضَّريع والزقُّوم، ورَضْفَ جهنَّم وحجارتَها! قال: ((فما هؤلاء يا جبريل؟)) قال: ((هؤلاء الذي لا يؤدُّون صدَقات أموالهم، وما ظلَمَهم الله تعالى شيئًا، وما الله بظَلاَّم للعبيد)).

الزناة :

رءاهم بصورة أناس يتنافسون على اللحم المنتن ويتركون الجيد . ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام رجالا يأكلون لحما نتنا خبيثا وبين أيديهم اللحم الطيب النضج قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء رجال من أمتك تكون عند أحدهم المرأة بالحلال فيدعها ويبيت عند امرأة خبيثة حتى يصبح))( البيهقي

((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام نساءا معلقات من أثدائهن قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللواتي يدخلن على أزواجهن من ليس من أولادهن))( البيهقي

صورة حمل الأمانة :

جاء في رواية البهيقيِّ وابن جَرير عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل قد جمَع حُزمة عظيمة لا يَستطيع حملها، وهو يَزيد عليها فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال: ((هذا الرجل مِن أمتك، يَكون عليه أماناتُ الناس لا يَقدر على أدائها، وهو يَزيد عليها ويُريد أن يحمل عليها، فلا يستطيع ذلك)).

يقول ربُّ العزة جلَّ علاه: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72].

شاربو الخمر:

رءاهم بصورة أناس يشربون من الصديد الخارج من الزناة .

الذين يمشون بالغيبة :

رءاهم بصورة قوم يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية .

الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما

راهم لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار ، يخرج من أسافلهم ، قلت يا جبريل : » من هؤلاء ؟ « ، قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا

الهمازون اللمازون

راي قوم يحذى من جلودهم ويرد في أفواههم ، ويقال : كلوا كما أكلتم ، فإذا أكره ما خلق الله لهم ذلك ، قلت : » من هؤلاء يا جبريل ؟ « ، قال : هؤلاء الهمازون اللمازون الذين يأكلون من لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بالسب

أكلة الربا

راي قوم لهم بطون كأنها البيوت ، وهي على سابلة آل فرعون ، فإذا مر بهم آل فرعون ثاروا ، فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطؤهم آل فرعون بأرجلهم ، وهم يعرضون على النار غدوا وعشيا ، قلت : » من هؤلاء يا جبريل ؟ « ، قال : هؤلاء أكلة الربا ، ربا في بطونهم ، فمثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس

مالك خازن النار:

ولم يضحك في وجه رسول الله .فسأل جبريل لماذا لم يرهُ ضاحكاً إليه كغيره . فقال: إن مالكاً لم يضحك منذ خلقه الله تعالى ، ولو ضحك لأحد لضحك إليك.

البيت المعمور :

وهو بيت مشرف في السماء السابعة وهو لأهل السماء كالكعبة لأهل الأرض ، كل يوم يدخُلُهُ سبعون ألف ملكٍ يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون أبداً .

سدرة المنتهى :

وهي شجرة عظيمة بها من الحسن ما لا يصفه أحد من خلق الله ، يغشاها فَراشٌ من ذهب ، وأصلها في السماء السادسة وتصل إلى السابعة ، ورءاها رسول الله في السماء السابعة .

روي البخاري عن انس (ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ )

الجنة :

وهي فوق السموات السبع فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر مما أعدّه الله للمسلمين الأتقياء خاصة ، ولغيرهم ممن يدخل الجنة نعيم يشتركون فيه معهم .

العرش :

وهو أعظم المخلوقات ، وحوله ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله . وله قوائم كقوائم السرير يحمله أربعة من أعظم الملائكة او اربعة صفوف، ويوم القيامة يكونون ثمانية .

اقول قولي هذا واستفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

وبعد:

فيرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية؛ لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة، من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم.

قال ابن القيم: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبا على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام

اقول قولي هذا واقم الصلاة

اترك تعليقاً