خطبة بعنوان ( خطورة التكفير وضوابطه ) لفضيلة الدكتور محمد سالم الشافعى
16 يناير، 2025
خطب منبرية

جمع وترتيب : د . محمد سالم الصعيدي الشافعي الأزهري
الأستاذ المساعد بجامعة الأزهر الأنور
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله وصحبه ومن والاه وبعد؛؛
فالحق سبحانه خلق الناس جميعا من نفس واحدة, كما قال جل جلاله فمنهم مؤمن ومنهم كافر, ومنهم من اهتدى ومنهم من حقت عليه الضلالة, وأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين, فمن أمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقرر سبحانه أن الاختلاف سنة كونية, آية ربانيه فقال جل جلاله (وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ 118 إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ ) (هود)
فالناس على أديان شتى, ومذاهب جمة, ونحل وملل متعددة, ومشارب مختلفة, لا يزالون على هذا الحال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
وفي هذا أقوى دليل على أن أفعال العباد مخلوقة, ويرد على المعتزلة, فأخبر تعالى أن منهم من رحمه وأراد رحمته دون غيره، وأنه لا يجري في ملكه إلا ما أراده وقضاه وقدره. وأن الهداية محض اصطفاء واجتباء, بعد تعب العبد, وإلحاحه على مولاه, ألم تقرأ قول الله:
{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]
فنصّ تعالى على أن الهدى بإرادته، والضلال بإرادته، وهذا نص واضح لا إشكال فيه. فتلك إرادة الله سبحانه, أن يكون الناس في تباين وتمايز, ليس في أمر الدين وحسب, بل في كل مناحي الحياة, فمن عصمه الله وسبق في حكمه سبحانه, أنه ناج منهما فقد فاز فوزا عظيما.
ولعل من حكم الخلاف, معرفة الحق من الباطل, والصالح من الطالح, والضار من النافع, والخبيث من الطيب.
إذا أراد الله نشر فضيلة … طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت … ما كان يعرف طيب عرف العود
وليكون الإنسان شاهدا على نفسه, حاكما عليها أمام ربه ومولاه, كما حكى الحق سبحانه: (بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ * وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ * ) ( القيامة) ، وقوله جل جلاله (وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا * ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا * مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ) ( الإسراء)
التكفير من الكفر, والكفر ستر الحق بالباطل, فالكافر يظهر الكفر ويعتقده, ويخالف ما عليه جموع الأمة وجموع الصالحين, من إثبات كل كمال لله رب العالمين, إظهار الاحترام والتوقير للأنبياء والمرسلين, وحب أهل العلم والصالحين, ولزوم درب العارفين المخلصين.
وأقر إن شئت قول الله تعالى: ( قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ * فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ * صِبۡغَةَ ٱللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبۡغَةٗۖ وَنَحۡنُ لَهُۥ عَٰبِدُونَ )
وقوله جل جلاله وتقدست أسمائه ( ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ )
فهذا هو الإيمان الكامل, وما ضده كمن يفرق بين الله ورسله, ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض, أو الذين يتهمون أنبياء الله بما لا يليق أو ينسبون لله ما لا يليق, كلها أمور تناقض الإيمان, وتخالف العقيدة الصحيحة.
لكن تبقي إشكالية من له الحكم في التمييز والفصل في تلك القضايا؟
وما حكم من قال لأخيه يا كافر من أمة المسلمين, لخلاف في الرأي أو المذهب أو المعتقد؟
والإشكالية الثالثة: نظرتي كمسلم لمن يخالفني في العقيدة والمذهب والملة والدين, كيف تكون!
أولا: قضية حق التكفير, هي حق أصيل لولاة الأمور وفي اطار نظم وضوابط معينة حددتها الشريعة الإسلامية, فالكفر الكفر حكم شرعي: كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار.
ومن جميل ما نقلته دار الإفتاء في تأصيل تلك المسألة قولها:
على الرغم من أن قضية إنزال حكم الكفر خاصة بالمفتين والقضاة إلا أن العلماء لم يفُتهم أن ينبهوا على الاحتياط في هذا الشأن؛ لذلك تضافرت أدلة الشرع الشريف على وجوب الاحتياط في تكفير المسلم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94]، فحذرهم من التسرع في التكفير، وأمرهم بالتثبت في حق من ظهرت منه علامات الإسلام في موطن ليس أهله بمسلمين.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «..ومَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ -رجعت عليه- عَلَيْهِ» (مسلم )
وعليه: فلا ينبغي التسرع في تكفير المسلم متى أمكن حمل كلامه على محمل حسن، وما يشك في أنه كفر لا يحكم به، فإن المسلم لا يخرجه عن الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه؛ إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك، وقد تتابعت كلمات العلماء على تقرير هذا الأمر، نذكر منها ما يلي:
قال الإمام الغزالي في “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” [ولا ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعًا في كل مقام، بل التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية فتارة يدرك بيقين، وتارة بظن غالب، وتارة يتردد فيه. ومهما حصل تردد، فالوقف فيه عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل]
وقال أيضًا في “الاقتصاد في الاعتقاد” [والذي ينبغي أن يميل المحصِّلُ إليه الاحترازُ من التكفير ما وجد إليه سبيلًا، فإن استباحة الأموال والدماء من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، خطأ، والخطأ في ترك تكفير ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»] ـ. أخرجه البخاري في “صحيحه” (كتاب الإيمان) حديث رقم (25)، ومسلم في “صحيحه” (كتاب الإيمان) حديث رقم (134).
وقال العلامة ابن عابدين في “رد المحتار على الدر المختار” (4/ 229-230): [لَا يُفْتَى بِكُفْرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ خِلَافٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ رِوَايَةً ضَعِيفَةً]
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي في “تحفة المحتاج” (9/ 88): [ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظيم خطره وغلبة عدم قصده سيما من العوام]
ومما ذكر يتبين لنا حقيقة التكفير، وحكمه، وضوابطه، وتبين لنا أنه وظيفة القاضي والمفتي، ولا يجوز لغيرهما التجرؤ والافتيات عليهما فيه، لما في ذلك السلوك من المخاطر الشديدة، على الفرد والمجتمع.
وعليه فإن المسألة لها ضوابط وفي حدود, وليست مطلقة بل مقيدة, ولها أسباب وشروط, منها مثلا: ما نراه الآن من ظهور بعض الجمعات التكفيرية على الساحة العربية والإسلامية, التي تستلزم بيانا شافيا من ولاة الأمور ومن العلماء الراسخين, أولا للرد على فساد منهجهم, ثانيا لبيان أمرهم للشباب, خصوصا وأن جمعا كبير من الشباب ربما ينخدع بكلامهم, وينساق خلفهم, ويفتن بهم, فكان لزاما على علماء الأمة, وعلى ولاة أمرها بيان خطر تلك الجماعات, وفضح مناهجهم, وبيان اعوجاج منطقهم.
الحق أن قضية التكفير من القضايا الشائكة, يقول شيخنا الإمام ابن حجر العسقلاني – رحمه الله ورضي عنه وباب التكفير باب عظيم.
فالمعتمد وما عليه أهل السنة والجماعة ومنهج جمهرة علماء الأزهر مذ أن أعيد بعثه في عصر دولة سلاطين المماليك, الاحتراز من تكفير أهل القبلة, والتماس العذر, وحمل المخالفين على التأويل, فإنّ استباحة دماء المصلين (الموحّدين) الصائمين العاكفين القارئين للكتاب التابعين للسنة في جميع الأبواب خطر عظيم, وباب شر جسيم
وقد قال علماؤنا إذا وجد تسعة وتسعون وجها تشير إلى تكفير مسلم ووجه واحد إلى إبقائه على إسلامه فينبغي للمفتي والقاضي أن يعملا بذلك الوجه وهو مستفاد من قوله عليه السلام ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله ( رواه الترمذي وقال أهل العلم ضعيف ومنهم من حسنه, وله شواهد من الصحيح)
والحق أن بعض الجماعات, وثلة آثمة دأبت منذ القديم على مخالفة العرف والشرع, والخروج عن كل مألوف ومجمع عليه, يقدمون الأدلة والبراهين, على كفر وبغض مخالفيهم, وهي هي نفس الأدلة يسوقونها للدفاع عن أحبابهم!!
ينزلون الأدلة في غير موضعها, ويحرفونها عن غير أماكنها, يخلطون بين المطلق والمقيد, ويجعلون العام مكان الخاص والخاص مكان العام, ويجعلون الناسخ منسوخا والمنسوخ ناسخا, تجرى على ألسنتهم ألفاظ الكفر كما يجري الماء العذب الزلال!!
يحاولون أن يتهموا كل من لم يتفق معهم ولو في أي مفردة دينية كانت، حتى لو كانت تلك المفردة من المفردات الثانوية والفرعية ولم تكن من المفردات الأساسية نجد أنه تبدأ الاتهامات بمختلف العناوين، من الكفر والفسق والبدعة والزندقة والشرك.
وما أراه أن هذا بضاعة المفلس, البليد, الذي لا يقلب النص, ولا يدور معه, ولا يفهم باطنه, ولا يحلل ولا يستنبط, ولا يعرف كيف يستقرأ, بل يقف عند ظاهر النص, ناهيك عن ضعف مشايخه, وضعف منهجه.
وكم من دماء سفكت, ورقاب قصفت, وبيوت خربت, بسبب وشاية رخيصة, وكلمة قالها موتور, لا يستطيع رد الكلمة بالكلمة, ولا قرع الحجة بالحجة, والبرهان بالبرهان,
ولعل تاريخنا وتراثنا الفكري يعج بالعديد من النماذج والأمثلة التي تبين بشاعة وجرم هذا الأمر من ذلك, مسألة الفتوى بتحريم القهوة باعتبار أن تلك التسمية تندرج تحت اسم من أسماء الخمر عند العرب, وقيام قضايا جدلية وخلافية كبيرة جدا لهذا السبب,
وكم تلاسن العديد بسبب بعض التأويلات في بعض صفات الله, ومزقوا الأمة, وقالوا ببدعية وضلال السادة الأشاعرة في أمور خلافية فرعية, لو دققت فيها النظر لو وجدت
خطورة التكفير وأثاره المدمرة
أولا: أسباب التكفير:
الافتقار إلى الفقه والعلم, والقدرة على الاستنباط, فالنص لا يقرأ أبدا كوحدة مستقلة, لا بد أن يقرأ من خلال عالم راسخ أولا, ثم في ضوء الدراسات والعلوم الأخرى, فالفقيه يحتاج إلى معرفة اللغة, والأسلوب, وفقه اللغة, والحديث, والعلوم, والمصطلح, والتاريخ, وغيرها من العلوم في الفروع والأصول.
التعصب لجماعة أو مذهب أو فرقة, فالأصل أن المسلم الفقيه يقبل الجميع, ويتعامل مع الجميع, والأصل أن العالم يقرع الحجة بالحجة بالحكمة والموعظة والحسنة, كما قال الحق سبحانه ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾
ضعف الثقافة المعرفية مع حداثة السن, والجرأة على الفتيا, وأهل العلم, مع حب الظهور والتصدر, وكما قيل حب الظهور يقصم الظهور, اضف لذلك أن بعض هؤلاء الغلمان, يقدمون كبالون اختبار, لتجربة الواقع, ولتقديم أسماء أخرى تتخفى خلف الستار, فإن كان الجو العام مناسبا, ظهرت تلك الشرذمة, وإن وجدوا أن الرياح عاتية, توارا عن الأنظار, وقدموا هؤلاء الشباب المغرر بهم لحتفهم, ولمصير مجهول!
التلفيق, وهي قضية وإشكالية كبرى, فالأصل في الفقه ثلاثة طرق, الاجتهاد وهو معروف وله ضوابطه, والتقليد كأن يقلد مذهبا, والتلفيق وفيه تأصيل وتفصيل, وتجويز بضوابط وشروط, لكن التلفيق المقصود هنا المراد به التلبيس, بأن يؤلف الناقل في المسألة التي لا تحتمل إلا قولين مثلا قولا ثالثا!! يريد من خلاله أن ينزل المستمع إلى فتواه وإلى رأيه
هناك أمور أخرى كثيرة كالتعصب, وعدم قبول رأي المخالف, والحكم بظاهر الأمر, وأخذ فكرة مسبقة وصورة نمطية عن المتحدث فلا يقبل منه أي رأي ولو كان صوابا!
ولعل من أثار التكفير المدمرة:
سفك الدماء واستحقاق غضب الرب سبحانه, فالحق سبحانه يحذر من سفك الدم بغير حق, ويقرر أنها من أكبر الكبائر يقول جل جلاله (وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا *يُضَٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَيَخۡلُدۡ فِيهِۦ مُهَانًا ) ويقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ. قيل: يا رَسولَ اللهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتْلُ النَّفسِ التي حرَّم اللهُ إلَّا بالحَقِّ ( الشيخان) فزوال الدنيا كما قال ابن عمر أهون على الله من قتل أو سفك دم بغير حق وحرمة الدم من أعظم الحرمات عند الله
تشوية صورة الإسلام وإعطاء نموذج سيء عن المسلم وفكره ومحدوديته, فالإسلام دين رحب واسع يرحب بالجميع, ويتعامل مع جميع الشرائع, ورأينا كيف أسس النبي صلى الله عليه وسلم متمع المدينة, على الود والحب والمواطنة والمشاركة وقبول الأخر
يقول الإمام تقي الدين السبكي وهو من أعلام القرن الثامن للهجرة في إجابة له على سؤال عن حكم تكفير المبتدعة وأهل الأهواء: “اعلم أيها السائل أنّ كل من خاف الله عزَّ وجلَّ استعظم القول بالتكفير لمن يقول: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، إذ التكفير هائل عظيم الخطر، لأنّ من كفَّر شخصاً بعينه فكأنّما أخبر أنّ مصيره في الآخرة جهنم خالداً فيها أبد الآبدين، وأنّه في الدنيا مباح الدم والمال، لا يمكَّن من نكاح مسلمة ولا يجري عليه أحكام المسلمين لا في حياته ولا بعد مماته، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطر في سفك محجمة من دم امرئ مسلم، وفي الحديث: “لأن يخطئ الإمام في العفو أحب إليّ من أن يخطئ في العقوبة”
نشر الكراهية والعنف والتفكك المجتمعي
من عواقبه المدمرة كذلك, نشر الرعب, والخوف, والأصل في الشريعة الأمن, والأمان, وشيوع السلام, وكم رأينا من أصحاب أفكار دفعوا ثمن أفكارهم, من ذلك اغتيال العالم الرباني الدكتور محمد حسين الذهبي رحمه الله علي يد ثلة من المتطرفين, وقتله بدم بارد بسبب رده على أفكارهم ومعتقداتهم, والقائمة تطول جدا قديما وحديثا.
إن مجابهة الفكر بالدم, والحجة بالسيف, والبرهان بالرصاص, يدل عن جهل وفقر فكري, وسطحية شديدة, وتعصب أعمى, وكل هذا أبعد ما يكون عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج الشريعة.
والحق سبحانه يرسم المنهج حيث يقول: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا* فكل من ألقى السلام وكل أهل القبلة من أهل التوحيد يحرم دمهم, ويحرم تكفيرهم.
فقد مَلَك النبي صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه, شغافَ قلوب أعدائه؛ ، حتى دعاهم هذا الخُلقُ العظيم إلى قبول الحق، والدخول في الإسلام، أو كف الشر عن المسلمين في كثير من الأحيان، وهذه مقاصدُ عظيمةٌ للشارع؛ فعن جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – قال: قاتَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُحَارِبَ خَصَفَةَ (أي غزوة ذَاتِ الرِّقَاعِ) بنخل، فرأَوْا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غَوْرَث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال: مَن يمنعك مني؟ قال: ((الله))، قال: فسقط السيف مِن يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((مَن يمنعك؟))، قال: كن خيرَ آخذٍ، قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟))، قال: أعاهدك على ألاَّ أقاتلَك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلَه، فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس”؛ رواه الحاكم والأمر يطول كموقفه مع من اتهم امنا عائشة, ومع زيد بن سعنه, ومع عبد الله بن أبي وغيرهم.
يقول العلامة الشوكاني: “اعلم أنّ الحكم على رجل مسلم بخروجه عن دين الإسلام ودخوله في دين الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه، إلاّ ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنّه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما
نسأل الله أن يحفظنا وأن يؤلف بين القلوب وأن يحفظ بلادنا.