خطبة بعنوان ( ظاهرة التكفير وكيف حذر منها الإسلام ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف
15 يناير، 2025
خطب منبرية

خطبة الجمعة القادمة ( ظاهرة التكفير وكيف حذر منها الإسلام )
للدكتور: محمد جاد قحيف
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ..
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رضي لنا دين الإسلام دينا
وأكرمنا بخير كتاب أنزل على خير نبي أرسل ، على خير أمة أخرجت للناس ..
ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ومصطفاه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ، وبعد:
فإن قضية التكفير من أخطر القضايا التي ابتليت بها أمتنا في عصرنا خاصة بعض الشباب الذين تخوضوا في التكفير بغير حق، واستحلوا الدماء بغير حق ، وبغوا على من يخالفهم في فكرهم ومنهجهم من أهل العلم بتكفيرهم أو تبديعهم أو تفسقهم ..
وإن مسألة الإيمان والكفر مسألة كبيرة، أخطأت فيها أفهام، وزلَّت فيها أقدام، وتجاذب خطأها فرقتان: فرقة أدخلت في المسلمين مَن ليس منهم، وفرقة أخرجت المسلمين من إسلامهم، وضاع كثير من المسلمين بين هاتين الفرقتين قديماً وحديثاً ..
العنصر الأول : التعريف بالتكفير وحكمه :
تعريف الكفر: الكُفْرُ لغة: نقيض الإيمان، وللكفر معانٍ أخرى كجحود النعمة، وغير ذلك..
يقال: كَفَرَ بالله (من باب نصر) يَكْفُر كُفْرًا وكُفُورًا وكُفْرانًا، فهو كَافِر، والجمع: كُفَّارٌ، وكَفَرةٌ. وهو: كَفَّارٌ أيضًا، وهو: كَفُور، والجمع: كُفُرٌ. وهي: كافرة، والجمع: كَوَافِر. “لسان العرب” ..
قال الراغب الأصفهاني : [يقال: (كفر فلان) إذا اعتقد الكفر، ويقال ذلك: إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد؛ ولذلك قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: 106] اهـ. مفردات الألفاظ..
والكُفْر شرعًا: [إنكار ما علم ضرورةً أنَّه من دين سيدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم كإنكار وجود الصَّانع، ونبوَّته صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة الزِّنا ونحو ذلك] اهـ. “المنثور في القواعد الفقهية” ..
و لا تكفير في الفروع ، إلا إنكار ما علم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتواتر ..
وقال الإمام القرافي :
[وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العلية، أو جحد ما علم من الدين بالضرورة] اهـ.
حكم التكفير:
الوصف بالكفر دائر بين حكمين؛ أحدهما: التحريم، يحرم وصف المسلم أخاه بالكفر أو النفاق ..
وذلك إذا كان من يوصف بالكفر مسلمًا باقيًا على إسلامه، ولم يقم الدليل على كفره؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللهَ فِي ذِمَّتِهِ» أخرجه الإمام البخاري ..
وقوله: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ» (متفق عليه).
ثانيهما: الوجوب، إذا كان وصف الكفر صادرًا ممن هو أهل له من لجان الإفتاء والقضاء العدول ، وكان من وصف به مستحقًّا له ممن توافر فيه شروط الكفر وضوابطه وأحكامه ..
التكفير مسألة فقهية من اختصاص أهل الفتوى والقضاء:
قال الإمام النووي في “شرح صحيح مسلم”:
[اعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع -الخوارج، المعتزلة، الرافضة، وغيرهم-، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه، فيعرف ذلك، فإن استمرَّ حكم بكفره، وكذا حكم من استحلَّ الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة] اهـ.
[ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ به، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، وقد ثبت في “الصحيح” أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم] اهـ..“مجموع الفتاوى”..
وقال الطحاوي – رحمه الله – عند حديثه عن أهل القبلة وتقريره لعقيدة السلف الصالح: “لا نشهَد عليهم بالكفر ولا بشِرك ولا بنفاق، ما لم يظهر شيءٌ من ذلك، ونذَر سرائرهم إلى الله تعالى”؛ (العقيدة الطحاوية)..
وقال الإمام السبكي : [التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية أو الوحدانية أو الرسالة أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحدًا] اهـ. (الفتاوي)..
وعلى الرغم من أن الشرع أعطى أهل الفتوى والتخصص والقضاء الشرعي العادل الحكم بالكفر من عدمه على الأفراد والمجموعات ، إلا أن أدلة الشرع الشريف نبهت على وجوب الاحتياط في تكفير المسلم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94]، فحذرهم من التسرع في التكفير، وأمرهم بالتثبت في حق من ظهرت منه علامات الإسلام في موطن ليس أهله بمسلمين ..
ومن أصول عقيدة المسلمين أنهم لا يكفرون أحدًا من المسلمين بذنب، ولو كان من كبائر الذنوب -في ما دون الشرك- قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]، فإنهم لا يحكمون على مرتكبها بالكفر، وإنما يحكمون عليه بالفسق ونقص الإيمان ما لم يستحله؛ لأن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد، وشرح الصدر له، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه. قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106].
العنصر الثاني : نشأة فتنة تكفير المسلمين:
إن أصل فتنة تكفير المسلمين ونشأتها وبداية ظهورها يرجع إلى الخوارج، الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكفَّروه هو ومن معه من الصحابة والتابعين، وذلك بعد حادثة التحكيم التي كانت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين.
قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): الخوارج: هم جمع خارجةٍ، أي طائفةٍ، وهم قومٌ مبتدعون، سُمُّوا بذلك لخروجهم عن الدِّين، وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه؛ حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه، ويقدر عليهم ولا يقتص منهم؛ لرضاه بقتله، أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار؛ فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرؤون منه، وأصل ذلك: أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان، فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم: القراء؛ لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدُّون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك
..وفارقه الخوارج وهم ثمانية آلافٍ، وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلافٍ، وقيل: ستة آلافٍ، ونزلوا مكانًا يقال له: حَرُوراء ..
ومع تكفيرهم لسيدنا الإمام علي بن طالب رضي الله عنه ، إلا أنه لما سئل عنهم : أكفارٌ هم؟ فقال: من الكفر فروا !!.
فقيل: أمنافقون؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً .
قيل: ماذا نقول فيهم؟
قال: (هم إخواننا بالأمس بغوا علينا) فأطلق عليهم اسم البغاة، وهذا هو القول الصحيح، أنهم بغاة، وأنهم يقاتلون لكف شرهم (المكتبة الشاملة)..
وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم ، في حديث الإمام البخاري عن سيدنا علي رضي الله عنه أنهم “أحداثُ الأسْنانِ، سُفَهاءُ الأحْلامِ، يقولونَ مِن خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهُمْ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فأيْنَما لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ، فإنَّ في قَتْلِهِمْ أجْرًا لِمَن قَتَلَهُمْ يَومَ القِيامَةِ”..
«حُدَثاءُ الأَسْنانِ»، أي: صِغارٌ في السِّنِّ والعُمُرِ، «سُفَهاءُ الأَحْلامِ»، أي: ضُعَفاءُ العُقولِ، «يَقولونَ مِن خَيرِ قَولِ البَريَّةِ»، أي: النَّاسِ، ومن خيرِ الكلامِ الذي يقرؤونه، وهو القُرآنُ، ولكِنْ لا يُجاوِزُ إيمانُهم حَناجِرَهم، وهو مُنتَهى الحُلقومِ، أي أنَّ الإيمانَ لم يَرسَخْ في قلوبِهم؛ لأنَّ ما وقف عند الحُلقومِ فلم يتجاوَزْه، لم يَصِلْ إلى القَلبِ. «يَمرُقونَ مِن الدِّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِن الرَّمِيَّةِ»، أي: يَخْرُجونَ مِن مِلَّةِ الإسلامِ سَريعًا، ولا يَتعَلَّقونَ مِنْه بشَيءٍ، مِثْلَ السَّهْمِ القويِّ السَّريعِ الَّذي يَنْفُذُ في الصَّيدِ، ومِن قُوَّتِه وسُرْعتِه لا يكونُ فيه أثَرٌ مِن دَمٍ أو لَحْمٍ، وهذا نَعْتُ الخَوارِج الَّذين لا يَدينون للأئمَّةِ ويَخرُجون عليهم. (الدرر السنية)..
العنصر الثالث :أنواع وشروط التكفير:
ينقسم التكفير إلى نوعين، هما: التكفير المطلَق، والتكفير المعيَّن، وسوف نتحدث عن الفرق بينهما بإيجاز:
أولًا: التكفير المطلق:
هو الحُكم بالكفر على القول أو الفعل أو الاعتقاد، الذي ينافي أصل الإسلام ويناقضه، وعلى فاعليها على سبيل الإطلاق، بدون تحديد أحد بعينه.
ثانيًا: التكفير المعيَّن:
هو الحكم على شخص معيَّن بالكفر؛ لإتيانه بأمر يناقض الإسلام بعد استيفاء شروط التكفير فيه، وانتفاء موانعه.
اعلَمْ – أخي الكريم – أن إطلاق حكم التكفير على الفعل شيء، وإطلاقه على الأشخاص المعينين شيء آخر؛ فقد يكون الفعل كفرًا، ولا يكون صاحبه كافرًا؛ لانتفاء أحد شروط التكفير؛ كقيام الحجة مثلًا، أو لوجود شيء من موانع التكفير، كالجهل مثلًا.
مثال ذلك :
روى الإمام البخاري عن سيدنا عمر بن الخطاب: أنَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وكانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكانَ يُضْحِكُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ به يَوْمًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:(( لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ)). (أخرجه الإمام البخاري).
في هذا الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لعن هذا الرجل، الذي جلده، مع إصراره على شرب الخمر؛ لكونه يحب الله ورسوله، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جِبْرِيلُ عليه السلامُ فقال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ لعَنَ الخمرَ، وعاصِرَها، ومعتصِرَها، وشاربَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وبائعَها، ومبتاعَها، وساقيَها، ومستقاها))؛ أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح ..
ولكن لعن المطلق (كما في هذا الحديث) لا يستلزم لعن المعين، (كما في حديث جلد شارب الخمر الذي أخرجه البخاري) الذي قام به ما يمنع لحوقَ اللعنة له،وكذلك “التكفير المطلَق” و”الوعيد المطلق”؛ولهذا كان الوعيدُ المطلَق في الكتاب والسنَّة مشروطًا بثبوت شروطٍ وانتفاء موانعَ؛ (مجموع الفتاوى )..
التحذير من تكفير المسلمين:
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيُّما رَجُلٍ قالَ لأخِيهِ: يا كافِرُ، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما))..
والإقدامُ على تَكفيرِ النَّاسِ أو تَفسيقِهم دُونَ بيِّنةٍ أمرٌ عظيمٌ؛ ليس بمَتروكٍ لآحادِ النَّاسِ، بلْ على المسلمِ التَّأنِّي وعدَمُ إصدارِ الأحكامِ، والْتِماسُ العُذرِ وحُسنُ الظنِّ بغيرهِ.(الدرر السنية)..
روى الإمام البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بالفُسُوقِ، ولا يَرْمِيهِ بالكُفْرِ؛ إلَّا ارْتَدَّتْ عليه إنْ لَمْ يَكُنْ صاحِبُهُ كَذلكَ ))..
شروط تكفير المعيَّن:
إن إطلاق كلمة الكفر على شخص بعينه مسألة خطيرة؛ ولذا يجب على أهل العلم التأكد أولًا من كفر الشخص كفرًا صريحًا يخرجه عن دائرة الإسلام، وذلك قبل إطلاق لفظ الكفر عليه، ويشترط لتكفير شخص بعينه شرطان، وسوف نتحدث عنهما بإيجاز شديد:
الشرط الأول: أن يقصد الشخص بقوله الكفرَ صراحة:
من المعلوم عند أهل العلم باللغة العربية: أن بعض الألفاظ لها معانٍ متعددة، فربما قال الإنسان كلمة وقصد معنى غير المعنى الكفري لها، أو قال قولًا يستلزم أمورًا مكفِّرة لم يقصدها ولم يلتزمها، فمثل هذا الشخص لا يجوز إطلاق كلمة الكفر عليه؛فالنيةُ لها أثر كبير في مسألة تكفير شخص بعينه.
روى الإمام البخاريُّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى ..))..
قال الإمام ابن تيمية: ليس كل من تكلم بالكفر يكفُرُ، حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره، فإذا قامت عليه الحجة كفَر حينئذٍ..
الشرط الثاني: قيام الحجة الواضحة:
المقصود بقيام الحجة على الشخص المسلم المراد تكفيره: هو إخباره بما جاء في القرآن الكريم، وبما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في سنَّته الشريفة، بفهم سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
ويجب أن نراعيَ اختلاف أحوال الناس، من حيث قُربُ عهدهم بالإسلام أو قِدَمهم فيه، ومن حيث انتشارُ العلم في الأماكن التي يسكنون فيها، أو قصوره عنها، كما يجب أن نراعيَ كذلك حال السنَّة التي جحدها الجاحد من حيث ظهورُها وخَفاؤها،فإن كانت السنَّة خافية، أو كان المكان الذي يسكنون فيه ينتشر فيه الجهل، أو كان الشخص قريبَ عهدٍ بإسلام أو لم يبلغه العلمُ بالسنَّة – اشترط قيام الحجة، في هذه الحالة.
ويشترط في قيام الحجة أن توضَّح إيضاحًا تامًّا؛ حتى تظهر معاندةُ مَن خالفها بعد ذلك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا تكون لهذا الشخص الذي قامت عليه الحجةُ حجَّةٌ بعد ذلك.
والخطأ في ترك تكفير ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»] اهـ متفق عليه
لأن التكفير حكم شرعي كالتحليل والتحريم, فالكافر من كفّره الله ورسوله كما في الحديث: “إلَّا أنْ تَرَوْا كُفْرًا بَواحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فيه بُرْهانٌ “. فلا بد من الدليل على التكفير من كتاب الله أو من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..
والتكفير حكم شرعي مَرَدُّه إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.
ولما كان مَرَدُّ حكم التكفير إلى الله ورسوله؛ لم يجز أن يُكَفَّرَ إلا مَن دَّل الكتاب والسنة على كفره دلالة صريحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة؛ وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات -مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير- فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات…
العنصر الرابع : مخاطر ظاهرة التكفير :
إن للتكفير أخطاراً عظيمة، وتترتَّبُ عليه أمورٌ عظيمة، أيها المسلم! ولا تحكم إلا بحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فإنَّ أثرَ التكفير يضر بالفرد، والجماعة المسلمة، وبالإسلام عموماً..
أولا : مخاطر ظاهرة التكفير على الأفراد والأسر ..
ضرر التكفير على الفرد إذا حكمت عليه بالكفر فمعناه أنك حكمت برِدَّتِه، وحكمتَ عليه بالخلود في النار، وفرَّقْتَ بينه وبين امرأته، ولم تجعل له ولاية على أولاده؛ ولا ميراثَ له، ولا صلاةَ عليه، ولا تدفنه في مقابر المسلمين، ولا يجوز التوارث بينه وبين أبنائه وزوجته؛ لأنك حكمت عليه بالكفر، فيترتب على هذا الحكم أمور كثيرة، فكيف ترضاها أيها المسلم بلا دليل ولا روية؟ إن ذلك خطر عظيم؛ ثم إنك إذا واجهته بالكفر من قبل أن تدعوه إلى الله تقنطه من رحمة الله، وتجعله يصر ويعاند ولا يقبل منك ما تدعوه إليه..
ثانيا: مخاطر ظاهرة التكفير على الجماعة المسلمة..
أما ضرره على الجماعة المسلمة..
الافتراق ، والاختلاف ، والتنازع والتقاطع .
وهذا من أهم أسباب الاقتتال بين المسلمين، وسفك الدماء بغير حق. فإنه يشتت، الكلمة ويفرق الصف، ويغرس العداوة والبغضاء في النفوس، ويخالف ما دعت الشريعة إليه من التعاون والتآلف والتناصر، وإصلاح الأخطاء، وتقويم ما اعوجَّ من السلوك؛ ويُغلق باب التناصح والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، إذ الداعي إلى الله لا يهمه التكفير، وإنما مبدأه الإصلاح والتأصيل، والترغيب في الإسلام، وبيان محاسنه وفضائله، ودعوة الناس إليه هذا، هو المطلوب منه أولا، أما أن يواجه الناس بالتكفير من قبل أن يبلِّغ حجة الله ويقيم عليهم الحجة فهذا أمر خطير تترتب عليه مفاسد عظيمة..
ولعل واقع المسلمين المرير في العصور المتأخرة ، الغلو والتنطع والتعصب للآراء والأفكار، واتهام كل طرف للآخر بالكفر أو الفسق والابتداع من أهم أسباب تفرق الكلمة والفشل والهزيمة، وتمكين الأعداء ..
ثالثاً: مخاطر ظاهرة التكفير على الدين الإسلامي ..
وأما ضرره على دين الإسلام عموما فإن هؤلاء الذي يكفِّرون الناس بلا حجة يشوِّهون سمعة الإسلام، ويُظهرون أن دين الإسلام دين الإرهاب، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، ونهب الأموال، ويشوهون صورة الإسلام ، فرتبوا على هذا الكفر ما يقصدون وما يريدون، وهذا أمر خطير؛ بل هذا مذهب الخوارج الذين حذرنا منهم نبينا -صلى الله عليه وسلم- إذ أخبرنا أننا نحقر صلاتنا عند صلاتهم، وقراءتنا عند قراءتهم، ولكنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..
من هنا إشمات الأعداء بأهل هذه الملة الزكية، وتمكينهم بذلك من القدح في المسلمين، واستضعافهم لشرائع هذا الدين ..
وختاماً: لقد عالج دين الإسلام ظاهرة التكفير ، وحذر منها ، وبين علماء المسلمين أحكامها وشروطها وضوابطها ومضارها وآثارها التي تعود على المسلمين ، وعلى أسرهم وبلادهم من تنازع وشقاق وخلاف واقتتال وسفك للدماء المعصومة بغير حق .. وأن الله سبحانه وتعالى وحده هو المطلع على ما في القلوب من كفر أو إيمان ، ولعل غضب النبي صلى الله عليه وسلم
من سيدنا أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- كان بسبب قتله لرجل في معركة من المعارك بعد قوله لا إله إلا الله ، كما يحكي سيدنا أسامة رضي الله عنه : “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ, فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ فَطَعَنْتُهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ, فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟” قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِن السِّلاحِ, قَالَ: “أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا” فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ” [رواه الإمام مسلم]..
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه واجعلنا من عبادك الصالحين واحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين وكن لعبادك المستضعفين عونا و سندا يارب العالمين ..