الدكتور: الشاذلى أحمد عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف
من الأحاديث المنتشرة على أفواه الناس عموما والعمدة في ذلك الشأن، قوله : “كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ”، وهو من الأحاديث التي انتشرت واشتهرت وأثارت الكثير من الجدل بين العلماء والعوام سواء بسواء،
وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: من جهة التعارض، فلا ريب أن هناك نصوصا أخرى تعارض ظاهر هذا الحديث.
الجهة الثانية: جهة التأويل، فلا ريب أن حَمْل هذا الحديث على عمومه يعني أن المحدثات كلها ضلالة، سواء كانت في الأقوال أم في الأفعال، وهذا غريب مشكلٌ.
أما الأحاديث المعارضة: لحديث ” كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ”، فكثيرة، منها على سبيل المثال :
1- قوله : “مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها ، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها ، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها ، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا”.
وهذا الحديث يقسم السنة المُحْدَثة إلى سنة حسنة وسنة سيئة وهذه السنة الحسنة المُحدثة تتعارض مع ظاهر النهي عن عموم قوله : “إيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ”.
2- قوله : “عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ”.
وهذا الحديث يعتبر محدثات الخلفاء الراشدين سنة يقتدى بها، وهو يتعارض مع ظاهر الحديث السابق “كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ”.
إلى غير ذلك من الآثار المروية عن بعض الصحابة تتعارض أيضا مع ظاهر حديث “كل محدثة بدعة”، منها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في صلاة التراويح جماعةً في المسجد بعد أن كان تركها : “نِعمَ البدعةُ هيَ”. فجعل من أقسام البدعة ما يسمى بالبدعة الحسنة.
وهذا يؤكد أن الفاروق عمر –رصي الله عنه- كان يرى أن البدعة مفهومٌ وصفي استقرائي وليس حكما معياريا يتبع القاعدة فقط. وذلك على خلاف ما قاله الإمام الزرقاني –رحمه الله- حين قال: “إذا أجمع الصحابة على ذلك مع الفاروق عمر زال عنه اسم البدعة”؛ فالبدعة عند الفاروق عمر ليست اسما لازما للذم حتى يقال: “زال عنه اسم البدعة”.
ومنها أيضا قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر في صلاة الضحى جماعة في المسجد: “بدعة، ما أحدث الناسُ شيئاً أحبَّ إليَّ منها”، ولا ريب أن هذا يفتح الباب على كثير من المحدثات “الحسنة”.
أما بخصوص التأويل: فإن حمل “البدعة” هنا على المعنى المذموم فقط، وأن كل محدثة هي ضلالة كما هو ظاهر الحديث، فإن ذلك يعني تضليل سائر الناس، لأن المحدثات لا تنتهي؛ فأفعال البشر متجددة ومتنوعة حسب الإمكان والحاجات.
والتمسك بظاهر اللفظ في قوله: “كل محدثة بدعة” يقود إلى إشكالات لا حصر لها، فلو حملنا “البدعة” على أنها حكم معياري يقصد به الذم فقط، وأن “كل” بدعة هي ضلالة بالضرورة، لأنها مذمومة لذاتها، لوقعنا في تضليل عامة أفعال العباد المحدثة التي لم تكن على مثال سابق مع تراخي الأزمنة والتحولات الجذرية التي حصلت في واقع الناس، وخاصة في أزمنة الحداثة والدول القومية ومؤسساتها.
وظاهر النص هذا لا يُطيقه أحد؛ ولهذا جاء قول أهل العلم أن حديث “كل محدثة بدعة” ليس على ظاهره، بل هو مؤوّل، ومعناه: كل بدعة لم توافق خطاب الشارع ولم تكن على منواله ولم تحافظ على مصالحه المعتبرة من جلب المصالح ودفع المفاسد تعتبر ضلالة، وما وافق ذلك يكون حسنا لا مرية فيه، وهو معنى قوله : “مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ”، وهذا يعني بمفهومه أن من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه، معتبرا في ذلك مصالح الشرع وقواعده، لم يكن ردا.
وهذا التأويل يجعل الأحاديث والآثار المذكورة -جميعًا- في انسجام؛ بحيث لا يعارض بعضها بعضًا. ولا شك أن التعارض الموهوم بين الأحاديث والآثار ناتج عن التمسك بحديث “مفرد” فهمًا وتنزيلاً. وفقه الحديث لا يتأتى إلا بالانتقال من مستوى “الحديث المفرد” إلى مستوى “الخطاب النبوي”.
وأن حديث “كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ” هو من باب “العموم المخصوص”، وللعموم المخصوص نظائرُ في القرآن الكريم كقوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ واستثنى من التدمير مساكنهم فقال جل شأنه: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)، فهو عام مخصوص بالاستثناء، والأمثلة في ذلك كثيرة. ثم إن أحد أنواع البيان “العام المخصوص”، وهي طريقة سائغة في كلام العرب ونصوص القرآن والحديث.
والاحتجاج بعدم فعل النبي أو السلف الصالح لهذا الفعل بعينه لتأكيد ذمه وأنه بدعة؛ بحجة أن هذا الفعل المحدث استدراكٌ على الشارع أو السلف الصالح، أو مخالفةٌ لسنتهم، احتجاج خال عن الدليل أن مجرد الترك من النبي ليس دليلاً على شيء عند عامة العلماء، فمن المعلوم أن الترك نوعان:
1- ترك مقصود: وهو ما يسمى بالترك الوجودي، وهو: ما تركه النبي بعد إقباله عليه، أو تركه بعد وقوعه، كتركه صلاة التراويح في جماعة. -ولا كلام فيه-.
2- ترك غير مقصود: وهو المسمى بالترك العدمي، وهو ما أغفل النبي فعله ولم يتعرض له بالمرة كالحوادث والنوازل التي حدثت بعد وفاته .
والترك غير المقصود لو وزن بميزان الشرع لاتضح لنا أنه لا يصلح أن يكون دليلا قال ” سُئل رسولُ الله – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – عن السمنِ والجبنِ والفراءِ ؟ فقال : الحلالُ ما أحل اللهُ في كتابهِ، والحرامُ ما حرم اللهُ في كتابهِ، وما سكت عنهُ ؛ فهو مما عفا عنهُ”.
وقوله “دعوني ما تركتُكم فإنَّما أهلك من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتُم”، إلى غير ذلك من النصوص التي تشير إلى أن الترك العدمي غير معتبر.
ثم إن مجرد إحداث فعل على غير مثال سبق لا يعني الاستدراك أو التنقيص ممن لم يفعله، لأن أبواب الخير -كأبواب الشر- لا حصر لها، ولا يمكن تحنيط أفعال البشر في صورة أو صور محدودة، كما أن الخطاب النبوي يردنا إلى أصول ومبادئ كلية لا تنحصر تطبيقاتها فتكون كثير من المحدثات داخلة في عموم أو مندرجة تحت مبدأ كلي.
لكن مجرد الإحداث لا يدل على حكمٍ أو تقويم لا سلبي ولا إيجابي، بل يتطلب هذا الفعل المُحدث تقويمًا، وفق منهجية محددة هي التي يجب أن تكون محل النقاش بين المتنازعين في هذه المسألة.
وقد جرى على هذا المعنى الواسع للبدعة – بالإضافة إلى بعض الصحابة – عدد من العلماء، ويظهر ذلك من تقسيماتهم للبدعة إلى بدعة هدى وبدعة ضلالة، أو بدعة محمودة وبدعة ضلالة، أو بدعة حسنة وبدعة سيئة، على اختلاف تعبيراتهم عنها. وعلى رأس هؤلاء الإمام الشافعي؛ فقد روى عنه أبو نعيم والبيهقي، ونقل عنه عدد من العلماء أنه قال: “البدعة بدعتان: بدعة محمودةٌ وبدعة مذمومةٌ”.