ولا تتبع الهوى

بقلم الشيخ : أحمد السيد السعيد السيد
واعظ عام بمنطقة وعظ الدقهلية

الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم العبد في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمَّدٍ المفضل على الإطلاق، وعلى آله وصحبه ومَن والاه إلى يوم التلاق، وبعد؛

فقد أخرج البيهقي في «المدخل» (474)، وابن المظفر في «غرائب مالك بن أنس» (140)، وابن شاهين في «شرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن» (63)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (9/ 119)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (118) أن الربيع بن سليمان المرادي (رحمه الله) قال: سمعت الشافعي (رحمه الله) يقول: «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة».

وقد طارت هذه الكلمة (مع جلالتها وجلالة قائلها) كل مطار، وصارت شعارًا من شعارات كثير من المنتسبين إلى طلب العلم، وأرى حسب رؤيتي المتواضعة أن الإمام الشافعي (رحمة الله تعالى عليه ورضوانه) ما أراد أن تكون كلمته هذه ذريعةً لترك النوافل من العبادات، ولو كان يعلم ذلك؛ ما تفوَّه بها، ولَظلَّتْ حبيسة صدره.

وأقول لهؤلاء: هل كان الشافعي -الذي كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة- يقصد ما فهمه البائسون؟!

هل الشافعي – الذي كان أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام وبما يجده- يقصد ما فهمتموه؟!

هل كان الشافعي -الذي تصدق مرة بألف دينار، وثانية بعشرة آلاف دينار، وفي ثالثة بخمسين ألف درهم، وفي أخرى بكلِّ ما معه- يقصد ما تلوكونه بألسنتكم؟!

أرى أنكم لا تعرفون الشافعي، وما سمعتم عن عبادة الشافعي، وإليكم طرفًا من عبادته:

قال الربيع بن سليمان: “كان الشَّافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاءٍ؛ الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام”. «حلية الأولياء» لأبي نعيم الأصفهاني (9/ 135).

وقال حسينٌ الكرابيسي: بتُّ مع الشَّافعي ليلةً، فكان يصلي نحو ثُلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آيةً، فإذا أكثر فمائة آيةٍ، وكان لا يمر بآية رحمةٍ إلا سأل الله، ولا بآية عذابٍ إلا تعوَّذ، وكأنما جُمع له الرجاء والرهبة جميعًا”. «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 35).

أرأيت كيف كان يتنفَّل الإمام الشافعي؟

وقال إبراهيم بن محمَّد: “ما رأيت أحدًا أحسنَ صلاةً من محمَّد بن إدريس الشَّافعي؛ وذلك أنه أخذ من مسلم بن خالدٍ الزنجي، وأخذ مسلمٌ من ابن جريج، وأخذ ابن جريجٍ من عطاءٍ، وأخذ عطاءٌ من عبد الله بن الزبير، وأخذ ابن الزبير من أبي بكرٍ الصديق، وأخذ أبو بكرٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مِن جبريل عليه السلام”. «حلية الأولياء» (9/ 135).

وأزيدك من البيت شعرًا؛ حيث ضرب أروع الأمثلة في الجود والكرم والعطاء والسخاء؛ فعن إسماعيل بن يحيى المزني: “ما رأيت رجلًا أكرم من الشَّافعي، خرجت معه ليلةَ عيدٍ من المسجد وأنا أذاكره في مسألةٍ، حتى أتيت باب داره، فأتاه غلامٌ بكيسٍ، فقال: مولاي يُقرئك السلام، ويقول لك: خذ هذا الكيس، فأخذه منه وأدخله في كمِّه، فأتاه رجلٌ من الحلقة، فقال: يا أبا عبد الله، ولدت امرأتي الساعة، ولا شيء عندي! فدفع إليه الكيس، وصعِد وليس معه شيءٌ”. المصدر السابق (9/ 132).

وعن محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: “كان الشَّافعي أسخى الناس بما يجده، فكان يمر بنا، فإن وجدني، وإلا قال: قولي لمحمَّد إذا جاء يأتي المنزل؛ فإني لست أتغدى حتى يجيء، فربما جئته، فإذا قعدت معه على الغداء قال: يا جارية، اضربي لنا فالوذجًا! فلا تزال المائدة بين يديه حتى تفرغ منه ويتغدى”. نفس المصدر السابق.

وعن عمرو بن سوادٍ السرجي: “كان الشَّافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام”. نفس المصدر السابق.

ناهيك عن علمه، ومكانته بين العلماء؛ فما جاد الزمان بمثله، ولقد عقمت أرحام الناس أن يلدن مثله، كيف لا، وهو شيخ الفقهاء، وأفضل أهل زمانه، وكامل الخصال؛ كما قال الخليفة المأمون، ففي سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 17) أن معمر بن شبيبٍ قال: سمعت الخليفة المأمون يقول: قد امتحنت محمَّد بن إدريس في كل شيءٍ؛ فوجدته كاملًا.

أرأيت كيف كان أبو عبد الله الشافعي؟

فإذا كنت تعلم من نفسك أنك ستبلغ عُشرَ عُشرِ معشار ما بلغه الشافعي من: العلم، والتُّقى والورع؛ فاترك جميع النوافل من: صلاة، وصدقة، وصيام، وغيرها، واترك كل أبواب الخير، وانقطع للعلم، لا يمنعك عنها إلا السويعات التي تنامها، وسندعو لك بالتوفيق، ولكن أين نحن من شعرة في جنب الشافعي (دينا، وعقلا، وعلما وورعًا، وزهدًا، وحرصًا)؟

وإن تعجب فعجبٌ جلوسُ أحدهم على أريكته يغتاب الناس، وإن كان مُظهرًا التقى، فيتحايل؛ ليُطمْئنَ نفسه ولِيُريح باله بأن غيبته في سبيل الله بحجة العلم وتبيين حال الناس، وهو لا يعرف رتبة نفسه، فكيف يحكم على غيره وهي في سبيل هواه لا في سبيل الله، ويمشي بالنّميمة بين النّاس يُوقع بين الأسنان والضروس في فمٍ واحد، ويُخبِّب أو تُخبُّب المرأةَ على زوجها؛ بحجة “لا تسمعي كلامه، لكِ ذاتك وكيانك، ولا بد أن تعملي لنفسك كاريزما، وما شأنه بصلاتك؟! ألأنه زوجكِ يُرغمكِ على الصلاة؟! هذا بينك وبين ربّنا، ما له دخل فيها، وإن هددك بالطلاق (وإن كنتِ مُخطئة) فاطلبي منه الطلاق، وغدًا تتزوّجي سيِّدَ سيِّدِه!”.

قطع الله دابرهم، وقلل عددهم.

والثلاثة أمثلة من كبائر الذنوب.

وإذا قلت له اتقِ الله، وقم صلِّ ركعتين، أو حتى سبِّح ربَّك، أو اقرأ ورقتين أو أكثر من مصحفك، أو حديثين من البخاري، قام وأمسك كتابًا لأحد المغمورين والمُخَذِّلين، وقال لك: قال الإمام الشافعي “طلب العلم …”إلخ.

لا يعرف من الأقوال المشهورة والنقول المتواترة عن الأئمة في الحث على العبادة، والتقلل من الدنيا، وتقوية العلاقة بالمصحف، والإخبار عن بعضهم أنه كان يصلي يوميا ثلاثمائة ركعة وهو إمام مبجّل، ناصر للسنة، وبعضهم كان يسبح أربعة عشر ألف تسبيحه، وهو صحابي مرضي عنه، إلا ما أُشرب من هواه.

أين أنت أيها البائس؟!

لا يعرف غير جملة الإمام الشافعي (رحمة الله تعالى عليه ورضوانه).

ثم هل الشافعي -المُجمع على إمامته وفضله، الذي كان كالشمس للدنيا، والعافية للناس- ترك نوافل العبادات ليطلب العلم؟

ائتني بأثرٍ واحد في ذلك!

والحاصل أن المسكين ما طلب علمًا (على الحقيقة)، ولا صلى نافلة!

فيا لبؤسه، وتعاسته!

إذا كان الله يريد بك خيرًا؛ فإنك كلما ازددت علمًا؛ ازددت قربًا؛ هذه قاعدة مطّردة لمن أراد بعلمه وجه الله.

أخي الكريم، المقصود: ألَّا تكون عاطلًا؛ فأنت إما في طلب العلم، وإما في صلاة، أو قراءة قرآن، أو ذِكْرٍ واستغفار، ثم إنْ ضاق عليك الوقت، وكثُرت مشاغلك، وتزاحمت عليه الوظائف؛ فلتُقدِّم طلب العلم؛ فإنه لا يعدله شيء (لمن صحَّت نيَّتُه).

وينبغي لطالب العلم (السائرِ إلى الله) أن يجعل لنفسه حظًّا ونصيبًا من كل عبادةٍ وطاعةٍ وقربةٍ إلى الله؛ من: قيامٍ، ودعاء وتضرع، وتلاوة، وذِكْر، وبِرٍّ، وصِلَة، وشهود جنائز، وإصلاح بين الناس، وصفاء سريرة، وسلامة صدر، ونحو ذلك؛ خاصة في هذا الأشهر الكريمة المباركة التي كان يجتهد فيها الزهاد والعباد.

أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يهبَ لنا عملًا صالحًا يُقرِّبنا إليه؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

تعليق واحد

  1. اللهم أعنا على حسن عبادتك
    بارك الله فيكم فضيلة الشيخ وبالتوفيق دايما يارب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *