خطبة بعنوان ( بين منابر اليأس وينابيع ‌الأمل ) للشيخ ثروت سويف

جمع وترتيب الشيخ / ثروت علي سويف – امام وخطيب بالأوقاف المصرية

خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 3 يناير 2025 الموافق 3 من رجب المعظم 1446هـ تحت عنوان صناعة الأمل

اقرأ في هذه الخطبة

اولاً : احذوروا منابر اليأس

ثانياً : الزموا ينابيع ‌الأمل

ثالثاً : فما ظنكم برب العالمين

رابعا : مواقف يتاكد فيها حسن الظن بالله

الخطبة الأولي

الحمد لله فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين، وبسط يده للسائلين، قصَدَتْه الخلائق بحاجاتها فقضاها، وتوجهت له القلوب بلهفاتها فهداها، وضجت إليه أصوات ذوي الحاجات فسمعها، ووثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعها، وطمعت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها، بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار ، لا ملجأ للعباد إلا إليه ولا معتمد إلا عليه فتح لعباده باب الأمل ، اذا اشدت الضغوط، وحذرهم من اليأس والقنوط ، فقال ( إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف33

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا مفرّج للكربات إلا هو، ولا مقيل للعثرات إلا هو، ولا مدبر للملكوت إلا هو، ولا سامع للأصوات إلا هو، ما نزل غيث إلا بمداد حكمته، وما انتصر دين إلا بمداد عزته، وما اقشعرت القلوب إلا مِن عظمته، وما سقط حجرٌ من جبل إلا من خشيته .

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أوذي في سبيل الله كثيرا ، وحوصر بكرة وأصيلا فتمسك بالأمل ، وهاجر في سبيل الله من مكة إلى المدينة فكانت الهجرة المباركة طريق الأمل، وبها ساد المسلمون .

صلى الله وسلم على كاشف الغمة، وهادي الأمة، ما تألقت عين لنظرٍ، وما اتصلت أذن بخبر، وما هتف حمام على شجر، وعلى آله بدور الدجى، وليوث الردى، وغيوث الندى، وسلم تسليماً كثيراً

اما بعد

‌فإن الأمل رحمة للأمة ولولا ‌الأمل ما أرضعت أمّ ولدا ولا غرس غارس شجرا.

قال الحسين رضي الله تعالى عنه: لو عقل الناس وتصوروا الموت بصورته لخربت الدنيا.

ولذلك كله فإننا نرى أن ‌الأمل موجود، ولكن تحقيقه معقود ببذل الجهد والإخلاص من كل مسلم فحين ننظر إلى حالنا ونقيم أوضاعنا نرى أن في الأمة أمراضاً وانحرافات ومنكرات تجب معالجتها والسعي في إزالتها، غير أن الإفراط في الحديث جوانب القصور والتفريط ربما يتحول إلى خطر إذا صاحبه الرضى بالضياع والقنوط من الإصلاح، ذلك أنه لا يزيد المجتمع إلا وهناً، ولا يجرعه إلا غصصاً

ولا يَعِده إلا يأساً، فلا يقدم له علاجاً ولا يمنحه دواء

ولذا كان المغرقون في الحديث عن مظاهر الفساد على هذا النحو يشكِّلون أحد عناصر الفساد والهلاك؛ إذ هم معاول هدم للهمم، وزرّاعون لليأس

روي الإمام احمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا سَمِعْتُمْ رَجُلًا يَقُولُ: قَدْ ‌هَلَكَ ‌النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ “

يَقُولُ فهو (أهلكَهم) بفعله حيث نشر اليأس بينهم، وهو (أهلكُهم) وأشدهم هلاكاً، حيث اقترف هذا الإثم، وزها بنفسه، واغتر بحاله

ألا قاتل الله اليأس كيف يصنع بأهله وبالناس، إنه داء جديد يزرعه العاجزون عن الإصلاح بين أفراد الأمة، خدمة مجانية لأعدائها

اولاً : احذوروا منابر اليأس

إن من المنابر الإعلامية ما يزرع اليأس؛ حين تلبس لباس الطبيب لتشخيص الداء، وتطرح تفاصيل صريحة تجذب المستمع والمشاهد؛ بانتقاء أمراض في الأمة، وتسلِّط الضوء على بعض الجروح بطريقة يخرج المتابع منها بجملة من الأدواء التي تزرع اليأس أو تمهد له، والتي منها

الأول: تفريغ شحنة النقد والتوهم بمعالجة قضية واقعية؛ مما يعدّ عند كثير من الناس سبباً كافياً لعدم إثارتها مرة أخري

ثانياً: خلل واضح في انتقاء المشكلات وتشكيل أولوياتها في عقل المتابع، وتضليل فكره عن أصولها ومصادرها، وتشتيته عن مشكلاته الحقيقية

ثالثاً: نشر ثقافة الوهن وحب الدنيا، والتصالح مع الضعف، واعتبار الحل الذكي هو القدرة على التعايش مع المصالح على حساب المبادئ استجابة للضغوط المادية؛ عند بروز حاجة أو طمع في متع الحياة وما تهوى النفوس.

وعند اختيار قضية ذات أهمية فإن العلاج لا يخلو من انتقائية وتضليل، وبُعد عن مسلَّمات وحقائق مهمة ليست ضمن قناعات تلك المنابر

الا فبشروا ولا تنفروا واذكركم بقول الحبيب المصطفي فيما روي الإمام مسلم بن الحجاج عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: « كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ‌بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ))

قال ابن رجب رحمه الله: «من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال، فليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على متابعة السنة، وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعلم، وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى؛ فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً

بالجوارح» [المحجة في سير الدلجة]

ومن أعظم التوفيق أن يكون المؤمن مباركاً أين ما حلّ وارتحل، يتقرب إلى الله بعبادة تناسب الوقت أو المكان أو الحال بقول أو فعل أو احتساب أو ترك أو دعوة أو أمر.

وأعظم التوفيق أن يموت المؤمن وقد ختم حياته بخير أعماله مسلماً لله ظاهراً وباطناً عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ ‌خَيْرًا، ‌اسْتَعْمَلَهُ ” قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: ” يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ مَوْتِهِ » مسند احمد

ولهذا كان من دعاء يوسف عليه السلام ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101)

وأرجى ما يكون ذلك إذا علق العبد قلبه بالله، واتخذ لنفسه مشروعاً إصلاحياً يتقرب به إلى الله وينفع به المسلمين، يعيش معه، فيغلب على اهتمامه، ويسيطر على تفكيره، ويسعى جاداً إلى نجاحه؛ صابراً على الطريق وإن طال، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران 200):

ثانياً : ينابيع ‌الأمل

ما أحوجنا في هذا الزمان إلى فن صناعة الأمل : إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم قال سبحانه ” وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ” يوسف 86

قال ابن مسعود رضي الله عنه ” أكبر الكبائر الإشراك بالله, والأمن من مكر الله, والقنوط من رحمة الله, واليأس من روح الله“

عباد الله : إن رصيد الأمة العقدي والفكري والتاريخي مليء بينابيع ‌الأمل التي لا تنضب لا تجف، وكلما ارتوى منها الناهلون فجَّرت فيهم ‌الأمل والنور واليقين والثقة بالله، إن من أعظم منابع ‌الأمل التي ينهل منها العلماء المصلحون ورواد الأمة؛ المنابع التالية حيث نستحضرها أشد ما تكون الحاجة إليها

أولاً : عقيدة القضاء والقدر

فالله سبحانه خلق الخلق وكتب المقادير، بيده الملك، يدبر الأمر، لا معقِّب لحكمه، ولا راد لقضائه، أحاط بكل شيء علماً، قال سبحانه: قال تعالي ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (الأنعام: 59)

وقال: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] (البقرة: 253)

روي الإمام احمد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ ” قَالَ: قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا. قَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ ” قَالَ: قُلْنَا: قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: ” كَانَ اللهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ ” قَالَ: وَأَتَانِي آتٍ، فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ، انْحَلَّتْ نَاقَتُكَ مِنْ عِقَالِهَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِهَا، فَلَا أَدْرِي مَا كَانَ بَعْدِي “

وروي الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ‌بِخَمْسِينَ ‌أَلْفَ ‌سَنَةٍ قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ . الجامع الصحيح «صحيح مسلم»

إن هذه العقيدة فجَّرت في نفوس الصحابة آمالاً فسعوا إلى تحقيقها، وجدُّوا في بلوغها، لم يثنهم عائقٌ، ولم يصدهم وهمٌ، ولم يرهبهم تهديدٌ، فغيَّروا الدنيا وسادوا بهذه العقيدة، وكانوا لمن بعدهم مصدر إلهام وعز يزرع ‌الأمل، وينشر النور، ويبدد ركام اليأس

ثانياً: حقيقة الحياة

خلق الله الدنيا مرحلة بعدها مراحل، فليست نهاية المطاف، وليست محلاً لمقارنة المكاسب والخسائر، وليست الميدان الأخير، إنما هي اختبار وعمل، وكل ما فيها يؤول يوم القيامة إلى حساب؛ فجنة أو نار، قال سبحانه: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ

وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الغُرُورِ] (الحديد:20).

وحينما يشتد الكرب ويخير المؤمن بين دينه ودنياه؛ فإن الأمر عنده لا يقبل الجدل، فحياته رخيصة في سبيل الله، وهذا ما أعلنه السحرة : يوم أن آمنوا بموسى فقابلوا تهديد فرعون بقوة الواثق وحسم الجازم، حيث قالوا ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] (طه: 72)

ثالثاً: انتصار المبدأ

للمؤمنين مفهوم خاص للنصر، فانتصارهم مرتبطٌ بدينهم، فالمؤمن لا يقاتل حمية ولا عصبية، ولا ليقال شجاع، ولا لأرض ولا لقبيلة ولا لحزب، إنما يقاتل لتكون كلمة الله العليا، إن انتصار المؤمن انتصار دينه، وانتصار دينه انتصاره، إنه لا معنى عند المؤمنين لنصر لا يعز الله فيه الدين، وإنه لمعنى جلي للنصر ذلك اليوم الذي يدخل الناس فيه في دين الله أفواجاً

فحين ذكر الله أصحاب الأخدود الذين أحرقوا كل المؤمنين قال الله عن نهاية الطائفة المؤمنة: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ] (البروج 11 )

فسمى نهايتهم فوزاً ووصف هذا الفوز بأنه كبير. أي تميز للمؤمن بهذ المعنى العزيز المتفرد؟!

إن البشرية لتقف صاغرةً أمام هذا المعنى الضخم الكبير، إنه معنى لا يزعزعه التهديد ولا الترغيب، إنه معنى يوجه المؤمن نحو إيمانه وعمله الصالح، وأن يكون ذلك محط نظره الأول، وأن تكون أولويات حياته منطلقة من هذا الهدف من أجل تحقيق الفوز الكبير، وهذا حرام بن ملحان – رضي الله عنه غلب عليه هذا المعنى، فلم يجد ما يفوه به بعد أن طُعن إلا أن يقول فزت ورب الكعبة والحديث رواه البخاري عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ ، يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا، فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: ‌فُزْتُ ‌وَرَبِّ الْكَعْبَةِ »

رابعاً: بشائر الصبر

إن صبر المؤمنين ينبوع يحفظ لهم ثباتهم على الدين حتى ينجلي الكرب،وهم لم يتركوا من دينهم ما يلامون عليه، ومن أروع الأمثلة على ذلك

حصار الشِّعب الذي دام ثلاث سنين والرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل شدته ويشاركه في ذلك من معه من قومه، وينتهي الحصار ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابرٌ ثابتٌ لم يترك شيئاً من دعوته، ولم يغير حرفاً من منهجه، ولم يحذف كلمة واحدة كانت تُغضب الكفار

إن الصبر بالثبات على المبدأ ثمرة عظيمة للصبر، ونصرٌ يسبق النصر قال تعالي [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ] (الروم: 60) حتي قيل : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أسري به ليلة أسري به من مكة من ‌شعب ‌أبي ‌طالب.

ولذلك فإن المؤمن يسعد بصبره على مبدئه، وتطمئن نفسه بما جرى وبما يجري، حيث يستلهم فيضاً إلهياً يتنزل عليه بالسكينة والرحمة والبشرى، فما أعمقها من معاني تفجر في النفس ينابيع ‌الأمل تحت مطارق المحن والبلوى، قال تعالي [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ] (البقرة: 156-157 )

خامساً: النصر القادم

إن ترقب النصر القادم الذي وعد الله عباده وعداً لا يخلفه في قوله: [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم: 47) ؛ من أجلى ينابيع ‌الأمل وأقواها، حيث تدفعه نحو العمل لدينه المنصور ومبدئه الظافر، وقوله: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا

يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: 55)

لقد أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الشدة لتشد أنظار المؤمنين إلى المستقبل المحتوم؛ مهما كان الواقع يفرض على الناس أقسى الظنون

روي الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب قال أمرَنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق. قال: وعَرَض لنا صخرةٌ في مكان من الخندق لا تأخذُ فيها المعاوِلُ، فشكَونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال عوف: فأحْسِبُه قال: وضعَ ثوبَه ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المِعْوَل وقال: “بسم اللَّه” وضرب ضربةً فكسرَ ثُلُثَ الحجر وقال: “اللَّهُ أكبرُ، أعْطِيتُ مفاتيحَ الشّام، واللَّه إنّي لأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ من مكاني هذا” ثم قال: “بسم اللَّه” وضربَ أُخرى فكسر ثُلُثَ الحجر، وقال: “اللَّه أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ فارسَ، واللَّه إنّي لأنظرُ المدائن وأُبْصِرُ قُصورها البيضَ من مكاني هذا” ثم قال: “بسم اللَّه” وضربَ ضربةً أخرى فانقطع بقيّة الحجر، ‌فقال: “‌اللَّه ‌أكبر، ‌أعْطِيتُ مفاتيحَ اليمن، واللَّه إنّي لأبصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا”

سادساً: التفاؤل والأمل ببلوغ المراد

وهذا يتجلي في درس سراقة في هجرة الحبيب وان الحق لابد ان ينتصر

قال ابن القيم رحمه الله

والحق منصورٌ وممتحنٌ فلا … تعجب فهذي سنة الرحمن

عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابٍ رضي الله عنه أُتِيَ بِفَرْوَةِ ‌كِسْرَى ‌فَوُضِعَتْ ‌بَيْنَ ‌يَدَيْهِ وَفِي الْقَوْمِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: فَأَلْقَى إِلَيْهِ سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فَجَعَلَهُمَا فِي يَدَيْهِ فَبَلَغَا مَنْكِبَيْهِ فَلَمَّا رَآهُمَا فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ قَالَ

الْحَمْدُ لِلَّهِ- سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فِي يَدِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله: وَإِنَّمَا أَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِسُرَاقَةَ. وَنَظَرَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ: كَأَنِّي بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سِوَارَيْ كسرى

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه حِينَ أَعْطَاهُ سِوَارَيْ كِسْرَى الْبَسْهُمَا فَفَعَلَ فَقَالَ: قُلِ: اللهُ أَكْبَرُ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ قَالَ: قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ ) دلائل النبوة للبيهقي

واسال سراقة كم له من حادث وهو الشجاع الفرس المغوار

متتبعا اثر النبى وصحبه فالمجد يغرى والجزاء نضار

فاذاه مطروح تشتت شمله والهول بحر عاصف دوار

مهلا رسول الله انى راجع عن ذلتى ماعاد لى اسرار

قد تبت فامنحنى الامان سماحة ان الاله لواحد غفار

ويعود معمور الفؤاد ووعده من قصر كسرى مغنم وسوار

وإن التاريخ لينادي اليائسين لينظروا في أحقابه.. كم دولة قويت بعد ضعف وكم من أخرى ضعفت بعد قوة! قال تعالى: [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الروم 15

وأما بخصوص وعد النبي صلى الله عليه وسلم له بلبس السوارين، فقد ذكر ابن حجر في الإصابة خبر الوعد الكريم عن الحسن مرسلا، فقال: وقال ابن عيينة عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ » قال: فلما أتي عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة فألبسه، وكان رجلا أزبّ كثير شعر السّاعدين، فقال له: ارفع يديك، وقل: الحمد للَّه الّذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة الأعرابيّ. وروى ذلك عنه ابن أخيه عبد الرّحمن بن مالك بن جعشم. انتهى.

رابعاً : فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ

إنَّ أعظم ما ينفعُ العبدَ في دينه ودنياه أن يعلم أصولَ الخير وجوامعه ويُوفقَ للقيام بها وتطبيقها، ومن هذه الأصول النافعة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، حسنُ الظن بالله، فمَنْ أَحسَنَ الظنَّ بالله أعانَه وأعطاه مُرادَه وبلَّغَه مُنَاهُ، ومَن أساءَ الظن بالله لن يعطيه تعالى إلا ما ظنه بمولاه، فحسن الظن فرقانٌ بين البرِّ والفاجر والمؤمن والكافر، فأحسنُ الناس ظنًا بربه أطوعُهم له، وأسوأ الناس ظنا بالله أبعدُهم عن طاعته.

يقول ابن القيم: فبالله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم.. فسبحان الله، ما يبلغ الغرور بالعبد، وقد قال إبراهيم لقومه: {أَئِفكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} [الصافات:87،86] أي ما ظنكم به أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.

كما قال الحسن البصري: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل.

وإذا أحبَّ العبدُ أن يَعلمَ مَنزلَته عندَ اللَّهِ عز وجلَّ فلْينظُر كيفَ منزلةُ اللَّهِ تعالَى عنده، فإنَّ اللَّهَ عز وجل يُنزِلُ العبدَ منهُ حيثُ أنْزلَهُ مِنْ نفسهِ.

تعريف حسن الظن

حسن الظن هو: اعتقاد ما يليقُ بالله تعالى وما تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا من جلال وكمال، مما يُؤثِّر في حياة المؤمن على الوجه الذي يُرضي الله تعالى.

قال القرطبي في معنى حسن الظن: أن يظنَّ العبدُ الإجابةَ عند الدعاء والقبول عند التوبة والمغفرة عند الاستغفار والمجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعد الله.

وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: حسن الظن بالله أن لا ترجو إلاّ الله، ولا تخاف إلاّ ذنبك.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ، يُعْرَضُونَ عَلَى اللهِ، فَيَأْمُرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا، فَيَقُولُ: فَلَا تَعُودُ فِيهَا) [أحمد ومسلم بنحوه]

فمن الناس من لا ينقطع رجاؤه بربه بعد دخوله النار ويسوق حسن الظن به فلعله ينجى به دون غيره.

استشعر معنى الانكسار والعوز دائما فبه تنال ما ليس عند غيره وتفوق أقرانك -حتى من أهل البلاء- في النجاة.

ذكر من الأربعة واحدا، وحكم عليه بالنجاة وترك الثلاثة اعتمادا على المذكور، ولأن الكافر لا خروج له البتة فيدخل مرة أخرى.

أخي الحبيب

إن لم نحسن الظن بالله تعالى، فبمن نحسن الظن؟!

قالوا في الحكم: إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك، فهل عودك إلا حسناً، وهل أسدى إليك إلا منناً.

حسن الظن به تعالى من ركائز الإيمان، وتاج عبادة القلب، ومفتاح متانة العقيدة، وسر من أسرار السعادة في الدنيا والآخرة.

روي الطبراني في المعجم الأوسط عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى] : «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، ‌وَإِنْ ‌شَرًّا ‌فَشَرٌّ»

أي أنا عند يقينه بي، فالاعتماد عليّ والوثوق بوعدي، والرهبة من وعيدي، والرغبة فيما عندي، أعطيه إذا سألني، وأستجيب له إذا دعاني، كل ذلك على حسب ظنه وقوة يقينه .. والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف، والظن الحسن على بابه.

قال ابن القيم: فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحقِّ ناقصُ الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول: (ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه!)، ونفسُه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتَّش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك، فمستقلٌ ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالمٌ من ذلك؟وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين”.

كما قال الحسن ئالبصري: ” إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل”.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ ‌يُحْسِنُ ‌الظَّنَّ ‌بِاللهِ عز وجل» مسلم

قال المناوي: “أي لا يموتن أحدكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة، وهي حسن الظن باللّه تعالى بأن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه لأنه إذا حضر أجله وأتت رحلته لم يبق لخوفه معنى بل يؤدي إلى القنوط وهو تضييق لمجاري الرحمة والإفضال، ومن ثم كان من الكبائر القلبية، فحسن الظن وعظم الرجاء أحسن ما تزوده المؤمن لقدومه على ربه

وهذا الحديث أصل عظيم في حسن الرجاء في اللّه وجميل الظن به، وليس لنا وسيلة إليه إلا ذلك، قالوا: والأفضل للمريض أن يكون رجاؤه أغلب، قال القرطبي: وقد كانوا يستحبون تلقين المحتضر محاسن عمله ليحسن ظنه بربه.

قال سليمان بن علي أمير البصرة لعمرو بن عبيد: ما تقول في أموالنا التي تعرفها في سبيل الخير؟ فأبطأ في الجواب، يريد به وقار العلم، ثم قال: من نعمة اللّه على الأمير أنه أصبح لا يجهل أن من أخذ الشيء من حقه ووضعه في وجهه فلا تبعة عليه غداً.

قال الأمير: نحن أحسن ظناً باللّه منكم. فقال: أقسم على الأمير باللّه، هل تعلم أحداً أحسن ظناً باللّه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فهل علمت أنه أخذ شيئاً قط من غير حله ووضعه في غير حقه؟ قال: اللّهم لا. قال: حسن الظن باللّه أن تفعل ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

** يقول ابن القيم: وأعظم الذنوب عند اللّه تعالى إساءة الظن به، فإن من أساء الظن به ظن به خلاف كماله الأقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعد عليه بما توعد به غيره فقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [الفتح:6] وقال: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:22-23].

** قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل”.

والإنسان كلما ازداد جهلا بربه ازداد سوء طن به جل وعلا، وكلما ازداد علما ويقينا بالله ازداد حسن ظنه بالله عز وجل، قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]

عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” يَقُولُ اللهُ: ‌أَنَا ‌عِنْدَ ‌ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي ” مسند احمد

ولذلك قال في شأن المؤمنين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِين} [الأحزاب:22-24]

قال أحد الصالحين: رأيتُ مالك بن دينار بعد موته في منامي، فقلت: يا أبا يحيى! ليت شعري ما قدمْتَ به؟ قال: قدمْتُ بذنوب كثيرة محاها عني حسن الظن بالله تبارك وتعالى.

يحيى بن معاذ: أوثق الرجاء رجاء العبد ربه وأصدق الظنون حسن الظن بالله.

عن حاتم بن سليمان قال: دخلنا على عبد العزيز بن سليمان وهو يجود بنفسه، فقلت: كيف تجدك؟ قال: أجدني أموت. فقال له بعض إخوانه: على أيةِ حال رحمك الله؟ فبكى، ثم قال: ما نُعوِّل إلا على حسن الظن بالله

إذا اشتملت على اليأس القلوب

وضاق لما به الصدر الرحيب

ولم تر لانكشاف الضر وجها ولا أغنى بحيلته الأريب

أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب

وكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها الفرج القريب

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم, ادعوا الله وأنتم موقنون بالاجابه

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، اصطفَى من عبادِهِ الموَحِّدِينَ، وَوَعَدَهُمْ بالنَّصرِ والعِزَّةِ والتَّمْكِينِ، فأحسنُوا به الظنَّ، وأخلصُوا له الدِّين، سبحانَه الهادي لمن استهداهُ والكافي لمن تولاهُ، اهتَدَى بفضلِهِ المهتدونَ، وفازَ بِرَحْمَتِهِ الْمُحْسِنُونَ، سبحانَهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا،

أمّا بعدُ:

ما أحوجنا ونحن في هذا الزمان زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل فمن يدري ربما كانت هذه المصائب بابا إلى خير مجهول ورب محنة في طيها منحة أو ليس قد قال الله ” وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ” البقرة: 216

إن هذه الشمس التي تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب من مغربها تحمل أعظم الاعتبار ، فطلوعها ثم غيابها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما طلوع وزوال.

تتجدد الأعوام عاما بعد عام فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعا فينصرم العام كلمح البصر فإذا هو في آخر العام وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد, فإذا به قد هجم عليه الموت يؤمل الإنسان بطول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأماني قد انصرم وبناء الأماني قد انهدم.

إننا في هذه الأيام نودع عاما ماضيا شهيدا ،ونستقبل عاما مقبلا جديدا، فليت شعري ماذا أودعنا في عامنا؟ الماضي وماذا نستقبل به العام الجديد؟.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه ” يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب منك يوم ذهب بعضك” أخرجه البيهقي في الشعب 381- 81 عن قتادة

وقال أبو حازم رحمه الله ” عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة ويدعون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة ” صفة الصفوة 165

وهذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا، ويقرب من الآخرة يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ” أقبلت الدنيا مدبرة , وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل ” أخرجه البخاري

نسير إلى الآجال في كل لحظة وأعمالنا تطوى وهن مراحل

ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل

رابعا : مواقف يتاكد فيها حسن الظن بالله

أولًا: عند الموت؛ لحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: (لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أخرجه مسلم (٢٨٧٧).

ودخل النبيُّ ﷺ على شابٍ وَهوَ في الموتِ فقالَ: (كيفَ تجدُكَ)؟ قالَ: واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أرجو اللَّهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي، فقالَ ﷺ: (لا يَجْتَمِعانِ فِي قَلْبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطِنِ إلّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ) أخرجه الترمذي (983)

ثانيًا: في المصائِب والْمُلِمَّاتِ، قالَ تعالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة: [214].

ثالثًا: عند التوبة، فيُوقنُ التَّائِبُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقبَلُ توبَتَهُ، ويغفِرُ ذَنْبَهُ، متى صَدَقَ في تَوْبَتِهِ، قال ﷺ: (أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ) أخرجه مسلم (2758).

رابعًا: عند ضيق الرزقِ، وكدر ِالعيشِ، قال ﷺ: (من نزَلَت بهِ فاقَةٌ فأَنزَلَها بالناسِ لم تُسَدَّ فاقَتُهُ. ومَن نزَلتْ به فاقَةٌ فأنزَلَها باللهِ فيوشِكُ اللهُ لهُ برزْقٍ عاجِلٍ أو آجِلٍ) أخرجه أبو داود (١٦٤٥)، والترمذي (٢٣٢٦) وأحمد (٣٦٩٦)

خامسًا: إحسانُ الظنِّ باللهِ عندَ الدُّعَاءِ وهو من أهمِّ أسبابِ الإجابةِ قال ﷺ: (ادعوا اللَّهَ وأنتُم موقِنونَ بالإجابَةِ..) أخرجه الترمذي

أسأل الله أن يرزقَنا حُسْنَ الإيمانِ بِهِ، وصِدْقَ التَوَكُّلِ عليهِ، وأن يُوَفِّقَنَا لحُسْنِ الظَّنِّ، وحُسْنِ العمل.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *