خطبة بعنوان( “فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ” صناعة الأمل ) (٢) للشيخ عادل عبدالكريم تونى

بتاريخ ٣ من رجب ١٤٤٦ هجري – الموافق ٣ من يناير ٢٠٢٥ ميلادي .

إعداد الشيخ / عادل عبدالكريم توني إبراهيم

إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف

عناصر الخطبة

١- الدعوة إلى حسن الظن بالله تعالى .

٢- حسن الظن بالله في حياة الأنبياء عليهم السلام.

٣- التحذير من سوء الظن بالله جل جلاله..

٤- ثمرات حسن الظن بالله وأهميته.

***

(١)- يقول الله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (83) :(87) الصافات

﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ في الآية الكريمة دعوة إلى حسن الظن بالله تعالى، وحسن الظن بالله هو: رجاء كل خير من قِبله سبحانه وبحمده، وهو أن يؤمل العبد من ربه كل بر، وكل إحسان، فهو رب كل نعمة، وهو صاحب كل إحسان، وهو صاحب كل سعة؛ كما قال سبحانه: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ النحل :53 ، وهو سبحانه وتعالى المؤمل في تحصيل المطالب، وهو المؤمل في كشف كل كربةٍ وكل خوفٍ. وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ « لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

قال المناوي: “ أي لا يموتن أحدكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة، وهي حسن الظن باللّه تعالى، بأن يظن أنه يرحمه، ويعفو عنه، لأنه إذا حضر أجله، وأتت رحلته، لم يبق لخوفه معنى، بل يؤدي إلى القنوط، وهو تضييق لمجاري الرحمة والإفضال، ومن ثم، كان من الكبائر القلبية، فحسن الظن، وعظم الرجاء، أحسن ما تزوده المؤمن لقدومه على ربه “

وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»،

وقال رب الأرض والسماء: “أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء”. وفي لفظ: “أنا عند ظن عبدي بي، إنْ ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله”، والمعنى: “أعاملُه على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر”.

إنه الله الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ورحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه وهو يغفر الذنوب جميعاً. هل وجدتم أرحم من خالقكم وأكرم وأحلم؟!

يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله -عز وجل-، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله -عز وجل- الظن إلا أعطاه الله -عز وجل- ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده”.

***

(٢)- أيها المسلمون : أحسنوا الظن بربكم ولكم في أنبياء الله ورسله الأسوة في ذلك …

هذا نبي الله موسي – عليه السلام – أحسن الظن بربه عز وجل لما قال له أصحابه :﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الصافات:61]، فالبحر من أمامه والعدو خلفه، لكن منطق اليقين والثقة بالله وحسن الظن به يرتفع عاليا ليصدح : ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات:62] فلا يخلف الله ظن عبده فيأتي الفرج (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ)[الشعراء:65-66].

ونبي الله أيوب -عليه السلام-المبتلى أحسن الظن بربه سبحانه وتعالي فناداه ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾[الأنبياء:83]؛ فجاء الفرج من القادر البارئ ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾[الأنبياء: 84].

وأحسن به الظن النبي المغموم يونس -عليه السلام- فنادى محسنًا الظن بفارج الهم وكاشف الغم قائلاً: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ فجاء الفرج من الرحيم الرحيم : ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء: 87-88].

وأحسن به الظن المحروم من الذرية نبي الله زكريا -عليه السلام- فنادى ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾[آل عمران:38]، فعلم الله صِدْقه في حُسن ظنه فجاءت الاستجابة :﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[آل عمران:39].

أحسن به الظن المظلوم المحارب نبي الله إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فحينما أوقد لإحراقه نار تلظى أوى إلى ركن شديد قائلاً: “حسبي الله ونعم الوكيل”؛ فاستجاب من يعامل بحسن الظن حسن الجزاء فقال تعالي :﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء:69].

ويضع إبراهيم -عليه السلام- زوجه هاجر وابنه إسماعيل في أرض بيداء لا ماء فيها ولا غذاء ولا أنيس ولا جليس، وحينما يهم بالانصراف تناديه: إلى مَن تتركنا؟ فلا يجيب، فتقول: آلله أمرك بهذا؟ قال نعم، فيعلو صوت اليقين وحسن الظن بالله قائلاً: “إذن لا يضيعنا”، فيأتي الفرج ممن يعامل العباد بمثل ظنهم.

أحسن به الظن خير البشرية سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو في الغار، وأقدام المشركين على فم الغار، وصاحبه الصديق يقول: لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيقول بحسن ظن ويقين بأن الله لن يتخلى عن أوليائه في شدتهم وكربتهم “لا تحزن إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما”، فيأتي التيسير من الخالق القدير : ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة:40].

وأحسن به الظن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب وقد جاءهم العدو من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، قال الله تعالي: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:22]، فجاء الفرج من القوة التي لا تُقهر والقدرة التي لا تكسر : ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾[الأحزاب:25].

ذلكم هو صنع الله بمن أحسن به الظن، وأيقن أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الله بعباده لطيف خبير، ذلكم الله ربي؛ فما ظنكم برب العالمين؟!

فما أروع حسن الظن بالله! حين يُوقن المؤمن أن بعد الكسر جبرًا، وأن بعد العسر يسرًا، وأن بعد التعب راحة ، وبعد المرض شفاء، وبعد الدنيا جنة عرضها السموات والأرض أُعِدّت للمتقين.

قل للذي ملأ التشاؤم قلبه ***

ومضى يضيّق حولنا الآفاقا

سر السعادة حسن ظنك بالذي ***

خلق الحياة وقسم الأرزاقا

***

(٣)- أيها المسلمون : إذا كان الاسلام قد رغبنا في حسن الظن بالله تعالى، فهو أيضا قد حذرنا من سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالله تعالى له صور متعددة ، ومنها:

– اليأس والقنوط: أن تيأس من رحمة الله ، وتظن إنه لن يغفر لك، وفي سنن الترمذي: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « قَالَ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً »،

– ومن صور سوء الظن بالله تعالى : الاعتقاد بأن الله لن يثيب المحسن ويُعاقب العاصي: قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] .

ومنها أيضا: اعتقاد أن الله لا يقبل تضرع من دعاه، فالله تعالى يقبل دعاء كل داعي، ولكن القبول على مراتب؛ إما أن يعجل بالإجابة، أو يكفّر عنه بها سيئات، أو يدخرها له ليوم القيامة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

– ومن صور سوء الظن بالله تعالى: إن تظن أن الله لن ينصر دينه وأولياؤه، وأن أعداء الإسلام سيظلون يتسلطون علينا طوال العمر، وأن المسلمين لن يروا العزّ والتمكين بعد اليوم أبدًا، وفي مسند أحمد: (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ».

وفيه أيضا: (قَالَ حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ».

يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: “الجبن والبخل والحرص غرائز سوء، يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل”.

وقال جماعة من أهل العلم: (إن أعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به سبحانه وتعالى) .

والإنسان كلما ازداد جهلا بربه، ازداد سوء ظنه به جل وعلا، وكلما ازداد علما ويقينا بالله، ازداد حسن ظنه بالله عز وجل، قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]،

ولذلك قال الله تعالي في شأن المؤمنين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِين} [الأحزاب:22-24]

أقول قولي هذا استغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المؤمنين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد ، عباد الله :لحسن الظن بالله تعالى فوائد وثمرات يجنيها العبد في الدنيا والآخرة :

– حسن الظن بالله تعالى ينجي صاحبه في الدنيا والآخرة، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ «كَيْفَ تَجِدُكَ». قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ»، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَخْرُجُ أَرْبَعَةٌ مِنَ النَّارِ – قَالَ أَبُو عِمْرَانَ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ ثَابِتٌ رَجُلاَنِ – فَيُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. قَالَ فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ قَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أنْ لاَ تُعِيدَنِي فِيهَا. فَيُنَجِّيهِ اللَّهُ مِنْهَا عَزَّ وَجَلَّ ».

– وحسن الظن بالله تعالى يثمرُ في قلب العبد تعظيم الرب جل وعلا، فمن أحسن الظن بالله تعالى سعى جهده في تعظيم ربه، وانفرد في قلبه محبة الله تعالى، فليس لله في قلبه مزاحم، بل ربه قد ملأ قلبه، وليس في قلبه إلا الله محبةً وتعظيمًا، خوفًا ورجاءً، إجلالاً وإنابةً، توكلًا واعتصامًا، كل هذه المعاني يمتلئ بها قلب العبد عندما يحسن الظن بربه، وعندما يتعرف على هذا الرب الذي له الأولى والآخرة، ولذلك لما امتلأ قلب إبراهيم عليه السلام بتعظيم الله تعالى قال تلك الكلمات النيرة: ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (85) :(87) الصافات.

– ومن ثمرات حسن الظن بالله تعالى: أن يحفظ العبد ربه جل وعلا في الغيب والشهادة، وأن يحفظه في المنشط والمكره، وأن يحفظه بين الناس وفي الخلوات، هكذا يكون حسن الظن بالله تعالى، ولذلك قال الله تعالى معقبًا على ظن هؤلاء الذين أساءوا الظن به: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فصلت (23). وذكر الله تعالى قومًا في كتابه العزيز: أنهم أسرفوا على أنفسهم بتكذيب الرسل، وأسرفوا على أنفسهم بألوان المعاصي، ثم إنهم مع هذه الإساءة، ظنوا أن الله لا يعلم ما يعملون، وأنه لا يعاقبهم على ما يكون منهم، فقال الله تعالى: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (22) ،(23) فصلت، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ الحشر (2). أي: ظنوا أن هذه الحصون ستعصمهم من عقوبة الله تعالى ومن أخذه، وحسن الظن بالله تعالى يثمر صلاح العمل، وحسن الطاعة لله جل وعلا. قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ آل عمران (133) . فحسن الظن بالله تعالى يحمل العبد على مزيد عمل؛ لأنه يحسن الظن بربه أنه لا يضيع عمله، وأنه جل وعلا لا يخلف الميعاد، فيقوى طمعه فيما عند ربه، ويعلم أنه ما يسجد لله سجدة إلا وسيجد ثمرتها، وما يقوم لله قومة إلا وسيجد نتاجها، وما يعبد الله تعالى في عبادة ولا يتقدم بحسنة إلا وسيجدها عند ربه.

إذا ضاقت فباب الله رحب **

وما خاب الذي لله آبا

متى ما استحكمت قل يا رحيما **

يفرجها ويمنحك الثوابا

وأحسن بالكريم الظنَّ دوما **

تجد من لطفه العجب العجابا

(٥)- عباد الله، ونحن نستقبل عاماً جديدا ، ونحن في شهر من الأشهر الحرم ، شهر رجب ( الأصب) ، نسأل الله تعالي أن يصب علينا الخير صبا ..

أحسنوا الظن بربكم عند الشدائد والأزمات ، وكثرة الفتن، وتقلب الأمور، وغلبة الديون، وضيق العيش ومثل ذلك .

أحسنوا الظن بربكم عند دعائكم، وادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، وتذكروا أن قول الله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة:186]، هو حق وصدق لا ريب فيه، والله لا يخلف الميعاد.

أحسنوا الظن بربكم عند توبتكم، واعلموا أن الله يغفر الذنوب جميعًا، وأنه لا يتعاظمه ذنب؛ فتوبوا واستغفروا وأحسنوا الظن بمن وسع كل شيء رحمة وعلمًا.

أحسنوا الظن بربكم عند احتضاركم وقرب لقائكم بمن هو أرحم بكم من أنفسكم وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله -تعالى-“.

قال أعرابي لابن عباس: من يحاسب الناس يوم القيامة؟ قال: الله. قال نجوتُ ورب الكعبة؛ لأن الكريم إذا ملك رحم، وإذا قدر عفا.

أحسنوا الظن بربكم بأنه لن يترك دينه ولن يخذل أولياءه وقد حكم بأن العاقبة للمتقين. حينما ترون غربة الإسلام ومحنة المسلمين واشتداد البلاء على الصالحين وارتفاع راية المفسدين، فلا تظنوا بالله إلا خيرًا وثقوا أن وعده لن يتخلف وسنته لن تتبدل ولتعلمن صدقها بعد حين، وستأتي الأنباء في حياتنا، أو في حياة من بعدنا بنصرة الإسلام وأهله، ومن ظن أن الله متخلٍ عن أوليائه، ولن ينصر دينه فقد ظن بالله ظن السوء، كيف وقد حكم فقال :﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾[النساء:141]، وما يقع من ابتلاءات ومحن وتضييق وشدائد فهي كما قال الله تعالي:﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾[آل عمران: 140].

وختامًا فإن حسن الظن بالله يتطلب الإيمان بحكمة الله وتدبيره وعلمه وقدرته وأنّه لا ينقصه شيءٌ إن هو أعطى، ولن يزيده شيءٌ إن هو منع؛ وإنّما ذلك كلّه لحكمةٍ يعلمها، وقد يكون في بعض المنع نعمةٌ، وفي بعض العطاء نقمةٌ، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].

هذا ، وأكثروا من الصلاة والسلام في كل وقت وحال على نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- يعظم لكم بذلك الأجر ، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اللهم أنصر الإسلام وأعز المسلمين ، وكن لإخواننا في فلسطين وغزة ناصرا ومعينا ،

اللهم احفظ مصر واهلها من كل مكروه وسوء اللهم أجعل بلدنا مصر أمنا أمانا سخاء رخاء

وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين .

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *