بميلاد خير البريه سيدنا محمد رسول الله اهتدى البشر وزال الشرك وزلزل إيوان كسرى وخمدت نار فارس
23 نوفمبر، 2024
قبس من أنوار النبوة
بقلم / عبدالرحيم أبو هارون الشريف
كاتب ومؤرخ إسلامي
أن ميلاد سيد الخلق خير البشر صلى الله عليه وسلم أحدث تحولات كبيرة في الأرض وفي عالم الإنس والجن، وأنتشر نور الهداية ، فتوجه الناس لعبادة الخالق، وارتقت الغايات، وحسنت الأخلاق ، بعد أن كانت البشرية تُعاني صنوف الجهل والتخلف والانحطاط الخلقي والحضاري وكان العرب في الجزيرة العربية يعبدون الأصنام ويقتلون البنات ويتعيشون على الميسر والزنا .
أما الشعب الفارسي فقد أدمن عبادة النار كما أدمن عبادة الطاغية كسرى ، الذي كرث الطبقية والكراهية بين صفوف الشعب الفارسي .
وهذا هرقل أجج الخلاف الطائفي بين الرومان فأخذ يذّبح من يخالفه في المذهب ، فضلاً عن فساد السلطة الرومانية الحاكمة مالياً وإدارياً وسياسياً ، حتى وصل بهم الحد أن فرضوا ضريبة على الشعوب ضريبة الرأس يدفعها المواطن نظير ترك رأسه دون ذبح!
وفي زمن كانت مكة تعيش في حالة تشبة الانعزال الحضاري، ويتقاتل العرب لأتفه الأسباب ، فمن الله تعالى علي البشرية بميلاد خير مخلوق، فكانت رسالة الإسلام.
مولد الهدي سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانت “مكة” على موعد مع حدث عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية وحياة البشر إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
كان ميلاد النبي “محمد” صلى الله عليه وسلم أهم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ أن خلق الله الكون، وسخر كل ما فيه لخدمة الإنسان، وكأن هذا الكون كان يرتقب قدومه منذ أمد بعيد.
وفي 12 ربيع الأول من عام الفيل (وقيل غير ذلك) شرف الكون بميلاد سيد الخلق وخاتم المرسلين “محمد” صلى الله عليه وسلم.
نسب النبي الشريف
هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة، ويمتد نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة.
ورُوي في سبب تسميته أن جده عبد المطلب رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب.
ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذ بأهل المشرق والمغرب يتعلقون بها؛ فتأولها بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء فسماه “محمد”.
ابن الذبيحين
ويعرف النبي صلى الله عليه وسلم بابن الذبيحين، فأبوه “عبد الله” هو الذبيح الذي نذر “عبد المطلب” ذبحه ثم فداه بمائة من الإبل، وجده “إسماعيل” عليه السلام هو الذبيح الذي فداه ربه بذبح عظيم.
وقد اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الشرف والكمال ما يوقع في نفوس الناس استعظامه، ويسهل عليهم قبول ما يخبر به، فجمع شرف النسب إلى الدين، وإلى العظماء من الأنبياء.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مجوسيًا، وإنما كان حنيفًا مسلمًا على مله آبائه: “إبراهيم” و”إسماعيل” عليهما السلام.
المولد إيذان بزوال الشرك
كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم نذيرا بزوال دولة الشرك، ونشر الحق والخير والعدل بين الناس، ورفع الظلم والبغي والعدوان.
وكانت الدنيا تموج بألوان الشرك والوثنية وتمتلئ بطواغيت الكفر والطغيان، وعندما أشرق مولد سيد الخلق كانت له إرهاصات عجيبة، وصاحبته ظواهر غريبة وأحداث فريدة.
ففي يوم مولده زلزل إيوان “كسرى” فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار “فارس” ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة “ساوة”.
وروى عن أمه أنها قالت: “رأيت لما وضعته نورًا بدا مني ساطعًا حتى أفزعني، ولم أر شيئًا مما يراه النساء”.
وذكرت “فاطمة بنت عبد الله” أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: “فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن عليَّ”.
سيدنا محمد اليتيم
فقد محمد صلى الله عليه وسلم أباه قبل مولده، وكانت وفاة أبيه بالمدينة عند أخوال أبيه من “بني النجار”.
وعلى عادة العرب فقد أرسله جدُّه إلى البادية ليسترضع في “بني سعد”، وكانت حاضنته “حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي”.
فلم يزل مقيمًا في “بني سعد” يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم حتى كانت حادثة شق الصدر، فخافوا عليه وردوه إلى جده “عبد المطلب” وهو في نحو الخامسة من عمره.
لم تلبث أمه “آمنة” أن توفيت في “الأبواء” بين “مكة” و “المدينة” وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد تجاوز السادسة بثلاثة أشهر.
وكأنما كان على “محمد” صلى الله عليه وسلم أن يتجرع مرارة اليتم في طفولته، ليكون أبًا لليتامى والمساكين بعد نبوته.
سيدنا محمد في كفالة جده وعمه
عاش “محمد” صلى الله عليه وسلم في كنف جده “عبد المطلب” وكان يحبه ويعطف عليه.
فلما مات “عبد المطلب” وكان “محمد” في الثامنة من عمره، كفله عمه “أبو طالب”، فكان خير عون له في الحياة بعد موت جده.
وكان أبو طالب سيدًا شريفًا مطاعًا مهيبًا، مع ما كان عليه من الفقر، وكان “أبو طالب” يحب محمدًا ويؤثره على أبنائه ليعوضه ما فقده من حنان وعطف.
وحينما خرج “أبو طالب” في تجارة إلى “الشام” تعلق به “محمد” فرقّ له “أبو طالب” وأخذه معه.
فلما نزل الركب “بصرى” -من أرض “الشام”- وكان بها راهب اسمه “بحيرى” في صومعة له، فلما رآه “بحيرى” جعل يلحظه لحظًا شديدًا، ويتفحصه مليًا، ثم أقبل على عمه “أبي طالب” فأخذ يوصيه به، ويدعوه إلى الرجوع به إلى بلده، ويحذره من اليهود.
سيدنا محمد في مكة
وشهد “محمد” صلى الله عليه وسلم حرب الفجار – الذين فجّروا القتال في شهر الله الحرام رجب- وكان في السابعة عشرة من عمره.
وحضر “حلف الفضول” وقد جاوز العشرين من عمره، وقد قال فيه بعد بعثته: “حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما يسرني به حمر النعم، ولو دُعيت إليه اليوم لأجبت”.
وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم – منذ حداثة سنه – بالصادق الأمين، وكان موضع احترام وتقدير “قريش” في صباه وشبابه.
حتى إنهم احتكموا إليه عندما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة، حينما أعادوا بناءها بعدما تهدّمت بسبب سيل أصابها.
وأرادت كل قبيلة أن تحظى بهذا الشرف حتى طار الشرُّ بينهم، وكادوا يقتتلون، فلما رأوه مقبلاً قالوا: قد رضينا بحكم “محمد بن عبد الله”.
فبسط رداءه، ثم وضع الحجر وسطه، وطلب أن تحمل كل قبيلة جانبًا من جوانب الرداء، فلما رفعوه جميعًا حتى بلغ الموضع، أخذه بيده الشريفة ووضعه مكانه.
وعندما بلغ “محمد” صلى الله عليه وسلم الخامسة والعشرين تزوج السيدة “خديجة بنت خويلد”، قبل أن يُبعث، فولدت له “القاسم” و”رقية” و”زينب” و”أم كلثوم”، وولدت له بعد البعثة “عبد الله”.
من البعثة إلى الوفاة
ولما استكمل النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة كانت بعثته ، وكانت “خديجة” أول من آمن به من النساء، وكان “أبو بكر الصديق” أول من آمن به من الرجال، و”علي بن أبي طالب” أول من آمن من الصبيان.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين يكتم أمره، ويدعو الناس سرًا إلى الإسلام، فآمن به عدد قليل.
ولما أمر بإبلاغ دعوته إلى الناس والجهر بها، بدأت قريش في إيذائه وتعرضت له ولأصحابه، ونال المؤمنون بدعوته صنوف الاضطهاد والتنكيل.
وظل المسلمون يقاسون التعذيب والاضطهاد حتى اضطروا إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى “الحبشة” ثم إلى المدينة.
ومرّت الأعوام حتى عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا –في العام العاشر من الهجرة- ونصر الله المسلمين بعد أن خرجوا منها مقهورين.
ومكّن لهم في الأرض بعد أن كانوا مستذلّين مستضعفين، وأظهر الله دينه وأعز نبيه ودحر الشرك وهزم المشركين.
وفي العام التالي توفي النبي صلى الله عليه وسلم في (12 من ربيع الأول 11هـ = 7 من يونيو 632م) عن عمر بلغ (63) عامًا.
وسيدنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم هو رسول الله إلى الإنس والجن في الإسلام ، أُرسِل ليُعيد العالَمين إلى توحيد الله وعبادته شأنه شأن كل الأنبياء والمُرسَلين، وهو خاتمهم، وأُرسِل للنَّاس كافَّة، ويؤمن المسلمون بأنّه أشرف المخلوقات وسيّد البشر وأمام المتقين ويعتقدون فيه العِصمة عند ذكر اسمه، يُلحِق المسلمون عبارة «صلى الله عليه وسلم» مع إضافة «وآله» و«وصحبه» في بعض الأحيان، لِمَا جاء في القرآن والسنة النبوية مما يحثهم المولى عز وجل على الصلاة عليه قال تعالى أن الله وملائكته يصلون على النبي أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
لقد ترك النبي محمد صلى الله عليه وسلم أثرا كبيراً في نفوس المسلمين، وكثرت مظاهر محبّتهم وتعظيمهم له باتباعهم لأمره وأسلوب حياته وتعبده لله، وقيامهم بحفظ أقواله وأفعاله وصفاته وجمع ذلك في كتب عُرفت بكتب السّيرة والحديث النبوي، واحتفالهم بمولده في شهر ربيع الأول في كل عام.
وحد النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الجزيرة العربية في نظام حكم إسلامي واحد، حيث شكل القرآن وتعاليمه وممارساته أساس حكم الدولة ، لذا اعتبره الكاتب اليهودي مايكل هارت أعظم الشخصيّات أثرًا في تاريخ الإنسانية كلّها باعتباره «الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي .
وكنى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أبو القاسم، أبو الطّيّب ، وأطلق عليه العديد من الأسماء والالقاب منها أَحْمَدُ، نَبِيُ التَّوْبة، نَبِيُّ الرَّحْمَة، نَبِيُّ المَرْحَمَة، نَبِيُ المَلْحَمَة، الرَّحْمَة المهداة، سَيِّدُ وَلدِ آدَمَ، حَبِيبُ الرَّحْمَن، المُخْتَار، المُصْطَفَى، المُجْتَبَى، الصَّادِق، المَصْدوق، الأمِين، صَاحِبُ الشَّفَاعَة والمَقَامُ المَحْمُود، صَاحِبُ الوَسِيلَة والفَضِيلَة والدَّرَجَةُ الرَّفِيعَة، صَاحِبُ التَّاج والمِعْرَاج، إِمَامُ المُتَّقِين، سَيِّدُ المُرْسَلِين، قَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلِين، النَّبِيُّ الأُمِّي، رَسُولُ اللَّه، خَاتَمُ الأنْبِيَاء، الرَّسُولُ الأعْظَم، السِرَاجُ المُنِير، النُّور، الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ بالمُؤمِنِين، العُرْوَةُ الْوُثْقَى»
وينسب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أكبر قبائل العرب إلى قبيلة قريش من كنانه من ولد إسماعيل بن إبراهيم وأمّه السيدة آمنة بنت وهب وابوه عبد الله بن عبد المطلب ، أما أمّهاته بالرضاعة حليمة السعدية، وثويبة
أبوه بالرضاعة (أي زوج مرضعته حليمة السعديّة) الحارث بن عبد العزى ، وأما أخوانه بالرضاعة حمزة (عمّه)، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وأبو سفيان بن الحارث (ابن عمّه)، وعبد الله بن الحارث، والشيماء بنت الحارث، وأنيسة بنت الحارث
زوجات سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وشفيعنا وقائدنا وقدوتنا واسوتنا وجدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم هم السيدة خديجة بنت خويلد ، والسيدة سودة بنت زمعة، والسيدة عائشة بنت أبي بكر، والسيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب، والسيدة زينب بنت خزيمة، والسيدة أم سلمة، والسيدة زينب بنت جحش، والسيدة جويرية بنت الحارث، والسيدة أم حبيبة، والسيدة صفية بنت حيي، والسيدة ميمونة بنت الحارث
وأولاده البنون هم سيدي القاسم، وعبد الله ، وإبراهيم
أما أولاده البنات هما السيدات زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة الزهراء البتول زوجه الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه وام السبطين الامامان الحسن والحسين وكذا السيدة زينب عقيله بني هاشم والسيدة أم كلثوم عليهما جميعا السلام رضي الله عنهما وارضاهما.
وُلد في مكة في شهر ربيع الأول من عام الفيل الموافق 22 أبريل ، قبل ثلاث وخمسين سنة من الهجرة (هجرته من مكة إلى المدينة)، ما يوافق سنة 570 أو 571 ميلادياً و52 ق هـ.
لما بلغ والده سيدنا عبد الله بن عبد المطلب ثماني عشرة أو خمساً وعشرين سنة، زوّجه أبوه من السيدة آمنة بنت وهب من عمّها «وهيب بن عبد مناف» وقد كانت تعيش عنده. فبنى بها عبد الله في مكة فحملت بسيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد عليه افضل الصلاه واتم التسليم، وكانت آمنة تحدّث أنّها حين حملت به أُتِيَت فقيل لها «إنّك قد حملت بسيّد هذه الأمّة، فإذا وقعَ على الأرض فقولي “أعيذه بالواحد من شرِّ كل حاسد”، ثم سمّيه “محمدًا”». ثم لم يلبث أبوه عبد الله حتى خرج إلى الشام للتجارة، فمرّ بالمدينة فأقام عندهم مريضًا شهرًا ثم تُوفي عن عمر خمسة وعشرين عامًا، ودُفن والده في «دار النابغة» (وهو رجل من بني عدي بن النجار)، وكانت أمه السيدة آمنة يومئذٍ حامل بمحمد لشهرين (رأي الجمهور) تاركًا وراءه خمسة جمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها «بركة» وكنيتها أم أيمن وبعد أن بقي محمد في بطن أمه تسعة أشهر كملّاً، وُلد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم في مكة في شعب أبي طالب، في الدار التي صارت تُعرف بدار «ابن يوسف». وتولّت ولادته «الشِّفاء» أم عبد الرحمن بن عوف.
أي أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب، وفقد أمه في سنّ مبكرة فتربى في كنف جده عبد المطلب، ثم من بعده عمه أبي طالب حيث ترعرع، وكان في تلك الفترة يعمل بالرعي ثم بالتجارة. وتزوج في سنِّ الخامسة والعشرين من السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها وأنجب منها كل أولاده باستثناء إبراهيم. كان قبل الإسلام يرفض عبادة الأوثان والممارسات الوثنية التي كانت منتشرة في مكة، وكان ينعزل ويتعبد في غار حراء لعدة ليالٍ ، وعندما كان محمد في الأربعين من عمره، حوالي عام 610م، تم زيارته من قبل جبريل في الغار، وتلقى أول وحي من الله. وفي عام 613م، نزل عليه جبريل وكُلّف بالرسالة وهو ذو أربعين سنة، أمر بالدعوة سرًا لثلاث سنوات، قضى بعدهنّ عشر سنوات أُخَر في مكة مجاهرًا بدعوة أهلها، وكل من يرد إليها من التجار والحجيج وغيرهم، مُعلنًا أن “الله واحد” ، وأن “الخضوع” الكامل (الإسلام) لله هو الطريق الصحيح، وأنه كان نبيًا ورسولًا لله على غرار الأنبياء الآخرين في الإسلام. هاجر إلى المدينة المنورة والمسماة يثرب آنذاك عام 622م بعد وفاة عمه أبي طالب عليه السلام وزوجته السيدة خديجة عليها السلام وسمى عام وفاتهم عام الحزن هاجر إلى يثرب وهو في الثالثة والخمسين من عمره بعد أن تآمر عليه سادات قريش ممن عارضوا دعوته وسعوا إلى قتله، فعاش فيها عشر سنين أُخَر داعيًا إلى الإسلام، وأسس بها نواة الحضارة الإسلامية، التي توسعت لاحقًا وشملت مكة وكل المدن والقبائل العربية، حيث وحَّد العرب لأول مرة على ديانة توحيدية ودولة موحدة، ودعا لنبذ العنصرية والعصبية القبلية فكان سيد العرب والعجم سيد الخلق والعالمين.
وقد كان مولده يوم الإثنين، 8 ربيع الأول، أو 9 ربيع الأول أو 12 ربيع الأول (المشهور عند أهل السنة)، أو 17 ربيع الأول (المشهور عند الشيعة)، من عام الفيل، بعدما حاول أبرهة الأشرم غزو مكة وهدم الكعبة، قيل بعده بشهر، وقيل بأربعين يومًا، وقيل بخمسين يومًا.
ويُروى بأن محمدًا قد وُلد مختونًا مسرورًا (مقطوع السرّة)، بينما هناك روايات أخرى تؤيد أن عبد المطلب ختنه يوم سابعه وجعل له مأدبة.
وكانت أمّه تحدّث أنّها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل ولا وحم، ولمّا وضعته وقع إلى الأرض مستقبل القبلة رافعًا رأسه إلى السماء،مقبوضة أصابع يديه مشيرًا بالسبابة كالمسبّح بها.
مِن قَبلها طِبتَ في الظِّلال وفي مستودِع حيث يُخصَف الوَرَق
ثُم هبطتَ البلاَد لا بشرٌ أنت ولا مضغةٌ ولا علق
بل نُطفةٌ تركب السَّفينَ وقد ألجَم نسرًا وأهله الغرق
تُنقَل من صالب إلى رَحم إذا مضى عالم بدا طَبَق
ثم احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء تحتها النطق
وأنتَ لمَّا وُلدتَ أشرقت الـ أرضُ وضاءت بنورك الأفُق
فنحن في ذلك الضِّياء وفي النُّور وسبل الرشاد نخترق
— العباس بن عبد المطلب
أنّ أمه السيدة آمنه رأت حين ولدته كأنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام. قالت أمّ عثمان بن أبي العاص «حضرتُ ولادة رسول الله ﷺ، فرأيت البيتَ حين وضع قد امتلأ نورًا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننتُ أنها ستقعَ عليّ».وبعدما ولدته أرسلت إلى عبد المطلب تبشّره بحفيده، ففرح به فرحًا شديدًا، ودخل به الكعبة شاكرًا الله، وقال «ليكوننّ لابني هذا شأن»، واختار له اسم «محمّد» ولم تكن العرب تسمي به آنذاك، إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد وبقرب زمانه وأنه يُبعث في تهامة فيكون ولدًا لهم.
وقد علمت اليهود آنذاك بولادة محمد، يقول حسان بن ثابت «والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك ما لك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به»
نشأته صلى الله عليه وسلم
كان أوّل من أرضعته بعد رضاعه من أمّه بأسبوع ثويبة مولاة أبي لهب، كان قد أعتقها، فأرضعت محمدًا لأيام بلبن ابن لها يُقال له «مسروح»، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة المخزومي،وقيل بل أرضعتهما معه.
ويروي البخاري أنه «لما مات أبو لهب رآه بعض أهله بمنامه، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم (أي لم ألقَ بعدكم خيرًا) غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثويبة» وكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، وكان يقول لها «يا أُمّه»، وكان إذا نظر إليها قال «هذه بقية أهل بيتي».
كان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي، فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبنَ أطفالًا يرضعنهم فكان محمد من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب لتُرضعه مع ابنها «عبد الله» في بادية بني سعد، وزوجها هو «الحارث بن عبد العزى»، وكان لهما ابنتان «أنيسة» و«حذافة» ولقبها الشيماء والتي كانت تحضن محمدًا مع أمّها إذا كان عندهم
وأجمع رواة السِّير أنَّ بادية بني سعد كانت تعاني إذ ذاك سنةً مجدبةً، فلما جاء محمد إلى باديتهم عادت منازل حليمة مخضرّة وأغنامها ممتلئة الضرع.
عاش محمد معها سنتين حتى الفطام وقد كانت حليمة تذهب به لأمه كل بضعة أشهر لزيارتها، فلما انتهت السنتين عادت به حليمة إلى أمّه لتقنعها بتمديد حضانته خوفًا من وباء بمكة وقتها ولبركة رأتها من محمد، فوافقت آمنة وعندما بلغ سن الرابعة، وقيل الخامسة، حدثت له حادثة شق الصدر والتي قد ورد في كتب السير تكرار مثيلها أكثر من مرة، والتي أنكرها الشيعة،وبعض المستشرقين أمثال نيكلسون، فأعادته حليمة إلى أمه. رَوى مسلم تلك الحادثة فقال:
محمد أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه (جمعه وضم بعضه إلى بعض) ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (مرضعته) فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره. محمد
تُوفيت أمّه، وهو ابن ست سنوات أثناء عودتهم من زيارة لأخواله من بني عدي بن النجار، بمكان يسمى الأبواء، فحضنته أم أيمن، وحملته إلى جدّه عبد المطلب ليكفله بعد ذلك ليعيش معه بين أولاده وفي السنة الثامنة من عمره، توفي جده عبد المطلب، بعد أن اختار له أبا طالب ليكفله، ويقوم بشؤونه.
لم يكن عمّه أبو طالب ذا مال وفير، فاشتغل محمد برعي الغنم وكان يأخذ عليه أجرًا مساعدةً منه لعمّه، قال «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط (أجزاء من الدراهم والدنانير) لأهل مكة».بينما أنكر الشيعة خبر رعيه الغنم
وفي الثانية عشر من عمره، سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام للتجارة، فلما نزلوا «بصرى» في الشام مرّوا على راهب اسمه «بحيرى»، وكان عالمًا بالإنجيل، فجعل ينظر إلى محمد ويتأمّله، ثم قال لأبي طالب «ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود فوالله إن رأوه أو عرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتًا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا وما ورثنا من آبائنا».
لُقّب سيدنا محمد عليه السلام في مكة «بالأمين»، فكان الناس يودعون أماناتهم عنده. كما عُرف عنه أنه لم يسجد لصنم قطّ، رغم أنتشار ذلك في قريش، ولم يشارك شبابهم في لهوهم ولعبهم، وإنما كان يشارك كبرائهم في حربهم ومساعدتهم بعضًا بعضًا، ففي الرابعة عشر من عمره، وقيل في العشرين من عمره، حدثت حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان، وشارك محمد مع قريش ضمن بني كنانة لأن قريش من كنانة، وأما خصومهم قيس وعيلان فكان منهم قبائل هوازن وغطفان وسليم وعدوان وفهم وغيرهم من القبائل القيسية ، فشارك محمد فيها ، وقال النبي محمد عن حرب الفجار:«قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت»، وقال عن حرب الفجار كذلك:«كنت أنبل على أعمامي»، وقال عنها أيضا :« ما سرني أني لم أشهده إنهم تعدوا على قومي عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا».
كما شارك قريشًا في «حلف الفضول» وهو ميثاق عقدته قريش في دار عبد الله بن جدعان بمكة، وتعاهدت فيه أن تحمي الضعفاء والمظلومين، قال محمد «لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا، لو دُعيت به في الإسلام لأجبتُ».
ولمّا أصاب الكعبة سيل أدّى إلى تصدّع جدرانها، قرر أهل مكة تجديد بنائها، وفي أثناء ذلك اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه، فاتفقوا على أن يضعه أول شخص يدخل عليهم، فلما دخل عليهم محمد وكان عمره خمسًا وثلاثين سنة، قالوا «هذا الأمينُ، قد رَضينا بما يقضي بيننا»، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه.
كانت السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام امرأةً تاجرةً ذات شرف ومال، فبلغها عن محمد ما بلغها من أمانته، فعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام متاجرًا وتعطيه أفضلَ ما كانت تعطي غيره من التجّار، فقبل وخرج ومعه غلامها «ميسرة»، فقدما الشام فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يُقال له «نسطور»، فاطلع الراهب إلى ميسرة وقال له «ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلا نبيّ»، وكان ميسرة إذا اشتد الحرّ يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره.
فلما أقبل عائدًا إلى مكة قدم على خديجة بمالها وقد ربحت ضعف ما كانت تربح. بعد ذلك عرضت خديجة عليه الزواج بواسطة صديقتها «نفيسة بنت منيّة»، فرضى بذلك، وعرض ذلك على أعمامه، وتمت خطبتها من عمّها «عمرو بن أسد»، وخطبها له عمه أبو طالب . ثم تزوجها بعد أن أصدقها عشرين بكرة، وكان سنّه خمسًا وعشرين سنة وهي أربعين سنة، وقيل بل كانت خمسًا وعشرين سنة، أو ثمانية وعشرين سنة. وكانت خديجة أول امرأة تزوجها محمد ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت بعد ما بقيت معه خمسًا وعشرين سنة، عشرًا بعد المبعث وخمس عشرة قبله. وبحسب أهل السنة فإنه قد تزوج خديجة قبل محمد وهي بِكر «عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم» (وولدت له هند) ثم مات عنها فتزوجها «أبو هالة النباش بن زرارة» (وولدت له هند وهالة). بينما رفض الشيعة ذلك، وقالوا إنَّ محمدًا تزوجها بكرًا.
أنجب سيدنا محمد عليه السلام من خديجة كل أولاده إلا إبراهيم. وحين تزوج خديجة، أعتق حاضنته أم أيمن فتزوجها «عبيد بن زيد من بني الحارث»، فولدت له أيمن، فصحب محمدًا حين بُعث وتوفي شهيدًا يوم حنين، وقيل يوم خيبر.
وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لمحمد، فأعتقه وزوجه أم أيمن بعد النبوة فولدت له أسامة، وتوفيت بعدما توفي محمّد بخمسة أشهر.
يؤمن المسلمون بأن الله لم يبعث نبيا إلا وأخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمدًا وهو حيّ ليؤمننّ به وينصرنّه، ويأمر قومه بذلك،وكان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يقول «أنا دعوة إبراهيم، وكان آخر من بشّر بي عيسى بن مريم».
وقد ورد في كتب السير بأن الأحبار من اليهود والكهّان من النصارى ومن العرب كانوا قد تحدّثوا بأمر النبي محمد قبل مبعثه لمّا تقارب زمانه،فأمّا الكهّان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع في السماء قبل أن تُحجَب عن ذلك برمي النجوم والشهب بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الأحبار من اليهود والرهبان من المسيحيين فلِما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم أن يتبعوه وينصروه إذا بعث فيهم.
قال ابن عباس «كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلمّا التقوا هُزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالت «اللهم إنا نسألك بحقّ محمد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم»، فكانوا إذا التَقَوا، دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبي ﷺ كفروا به فأنزل الله ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾».
ومما ورد في قصة إسلام سلمان الفارسي
أنه قال له أحد الرهبان «قد أظلّ زمان نبي، مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى الأرض بين حرّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهديّة ولا يأكل الصّدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل».
وعن عامر بن ربيعة أنه قال: «سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول أنا أنتظر نبيًا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب بن هاشم ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدّقه وأشهد أنه نبيّ، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السّلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك. قلت: هلمّ. قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليست تفارق عينيه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإيّاك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون «هذا الدين وراءك» وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون «لم يبق نبي غيره»».
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يرى قبل بعثته أمورًا، من ذلك ما قاله «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم علي قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن»، وكان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال «السلام عليك يا رسول الله» يمينه وعن شماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث كذلك يرى ويسمع، حتى جاءه جبريل في غار حراء.
لما بلغ سيدنا محمد سنَّ الأربعين، اعتاد أن يخرج إلى غار حراء (طوله 2.16 م، وعرضه 0.945 م) في جبل النور على بعد نحو ميلين من مكة، وذلك في كل عام، فيأخذ معه الطعام والماء ليقيم فيه شهرًا بأكمله ليتعبد ويتأمّل. ويعتقد المسلمون بأنه في يوم الاثنين، 17 رمضان أو 24 رمضان، أو 21 رمضان، الموافق 10 أغسطس سنة 610م، أو 27 رجب (المشهور عند الشيعة)، نزل الوحي لأول مرّة على محمد وهو في غار حراء، تروي عائشة بنت أبي بكر قصة بدء الوحي، والتي أنكر الشيعة معظمَ ما جاء فيها
سيدنا محمد أول ما بدأ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه المَلك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقاريء. قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زمّلوني زملّوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتُقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءًا تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًا إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: أوَمخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا محمد
وبعد تلك الحادثة، فَتر عنه الوحي مدة، قيل أنها أربعون ليلة وقيل أقلّ من ذلك، ورجّح البوطي ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستةَ أشهر، حتى انتهت بنزول أوائل سورة المدثر. ثم بدأ الوحي ينزل ويتتابع مدة ثلاثة وعشرين عامًا حتى وفاته.
كان أول ما نزل من القرآن بعد أول سورة العلق، أول سورة القلم، والمدثر والمزمل والضحى والليل.
وعن كيفية نزول الوحي عليه، كان يقول «أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، فهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول»، قالت عائشة: «ولقد رأيتُه ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد
البرد، فيفصِم عنه، وإنَّ جبينه ليتفصَّد عرقًا». وفي نفس تلك الفترة حدثت له حادثة شق الصدر للمرّة الثانية.
سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث للناس كافة، فقد قال عن نفسه «أنا رسولُ من أدركتُ حيًا، ومن يولد بعدي»، فبعد نزول آيات سورة المدثر، بدأ يدعو إلى الإسلام الكبيرَ والصغيرَ، والحر والعبد، والرجال والنساء، فكان أوّل النّاس إيمانًا به بحسب الرواية السنية زوجته خديجة بنت خويلد عليها السلام، ثمّ ابن عمّه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (وهو أول الناس إيمانًا من الشباب ) وكان صبيًا يعيش في كفالة محمد معاونةً لأبي طالب، وهو يومئذٍ ابن عشر سنين، وقيل ثمان سنين، وقيل غير ذلك ، ثم أسلم زيد بن حارثة مولى محمد ومتبنّاه قبل تحريم ذلك في الإسلام، فكان أول ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب، وفي رواية الزهري أن زيد بن حارثة كان أول الرجال إسلامًا ، ثم أسلم صديقه المقرّب أبو بكر بن أبي قحافة، وقيل بل أسلم قبل علي بن أبي طالب، قال أبو حنيفة «بل هو أول من أسلم من الرجال، وعليًا أول من أسلم من الصبيان» ولمّا أسلم أبو بكر أظهر إسلامه فكان أول من أظهر الإسلام في مكة، وجعل يدعو إلى الإسلام من وثِقَ به من قومه ممن يجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص.
ويُروى أنّ أبا بكر رأى رؤيا قبل إسلامه، ذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم رآه قد تفرّق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره، فقصّها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن «النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه وتكون أسعد الناس به».
وكان محمد في بداية أمره يدعو إلى الإسلام مستخفيًا حذرًا من قريش مدة ثلاث سنين.
وكان من أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، وكانت الصلاة ركعتين بالصباح وركعتين بالعشيّ، فكان محمد وأصحابه إذا حضرت الصّلاة ذهبوا في الشِّعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم.
وكان المسلمون الأوائل يلتقون بمحمد سرًا، ولما بلغوا ثلاثين رجلاً وامرأةً، اختار لهم محمد «دار الأرقم بن أبي الأرقم» عند جبل الصفا ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم وبقوا فيها شهرًا، لحين ما بلغوا ما يقارب أربعين رجلاً وامرأةً، فنزل الوحي يكلف الرسول بإعلان الدعوة والجهر بها
بعد مرور ثلاث سنوات من الدعوة سرًا، بدأ محمد بالدعوة جهرًا بعدما تلقّى أمرًا من الله بإظهار دينه، عن علي بن أبي طالب أنه قال: «لما نزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» جمع رسول الله ﷺ قرابته، فاجتمع له ثلاثون رجلاً، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ فقال علي: أنا». ويروي ابن عباس فيقول:
لمّا أنزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» صعد رسول الله ﷺ على الصّفا فقال: يا معشر قريش! فقالت قريش: مالك يا محمد؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متَّهم، وما جربنا عليك كذبًا قطّ. قال: فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ، يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني زهرة! إنّ الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، وإنّي لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبًا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله. فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى «تبت يدا أبي لهب وتب»
سلكت قريش طريق المفاوضات لثني محمد عن دعوته، فأرسلت عتبة بن ربيعة أحد ساداتهم يفاوضه، فلما سمع القرآن عاد لقريش وقال «أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه بنبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزّكم». ثم حاولوا مرات كثيرة بعرض المال عليه والزعامة، لكن محمدًا كان يرفض في كل مرة.
ولما كان سيدنا محمد عليه السلام في حصانة عمّه أبي طالب، أرسلوا وفودًا لعمّه يعاتبونه مرات عديدة، حتى صعُب على أبي طالب عليه السلام فراق قومه وعداوتهم له، فقال لمحمد «يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا كذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك»، فظنّ محمد أن قد بَدَا لعمّه فيه، وأنه خاذله ومُسْلمه، وضعف عن القيام معه. فقال محمد كلمته المشهورة «يا عمّ، لو وُضعت الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركتُ هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه». ثم بكى محمد، فقال له أبو طالب «يا ابن أخي، إمضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا»
ولم يلبث أبو طالب حتى توفي في رمضان أو شوال من السنة العاشرة للبعثة (3 ق هـ)، وهو يومئذٍ ابن بضع وثمانين سنة وقيل: كانت وفاته في رجب بعد ستة أشهر من خروجهم من الشعب، وذلك قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين.
وقد أجمع الشيعة على أنّه تُوفي مسلمًا مؤمنًا، وقد جاء ذلك أيضًا في رواية عند ابن إسحاق ما يفيد أنّه أسلم عند موته، ولكن أهل السنة يثبتون الرواية الأصحّ عندهم بأنه تُوفي ولم يُسلم.
ولم تكن قريش تستطيع النيل من محمد أو أذيته حتى توفي أبو طالب، فرُوي عنه أنه قال: «ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب».
وبعد وفاة أبو طالب بشهر وخمسة أيام، وقيل بشهرين، وقيل بثلاثة أيام، توفيت زوجته السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها في رمضان من السنة العاشرة للبعثة، ودفنت في مكة ولها من العمر65 سنة، وقيل: 50، والنبي محمد إذ ذاك في الخمسين من عمره، فحزن النبي محمد على فقدان عمه وزوجته حتى سمّى ذلك العام بـ عام الحزن. وبعد أيام من وفاتها، تزوج محمد من سودة بنت زمعة في رمضان وقيل في شوال.
الخروج إلى الطائف
بعدما اشتد الأذى من قريش على محمد وأصحابه بعد موت أبي طالب، قرر محمد الخروج إلى الطائف حيث تسكن قبيلة ثقيف يلتمس النصرة والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يسلموا، فخرج مشيًا على الأقدام ومعه زيد بن حارثة، وقيل بل خرج وحده،وذلك في ثلاث ليال بَقَيْن من شوال سنة عشر من البعثة (3 ق هـ)،الموافق أواخر مايو سنة 619م، فأقام بالطائف عشرة أيام لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فلم يجيبوه، وردّوا عليه ردًا شديدًا، وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أن رجلي محمد لتدميان وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى جُرح في رأسه. وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف، ورجع عنه سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فلما اطمأن محمد قال :
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني (يلقاني بالغلظة)، أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك. لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك محمد
فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي، بعثوا له بعنب مع غلام لهما نصرانيّ يقال له عداس، ففعل عداس، فلما سمع محمد يقول «باسم الله» ثم أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال «والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد» فقال له محمد «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟» قال «نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى» فقال «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» فقال له عداس «وما يدريك ما يونس بن متى؟» فقال «ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبي»، فأسلم عداس، وأكبّ على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه. وقد أنكر الشيعة قصة عداس في كتبهم.
فانصرف محمد من الطائف راجعًا إلى مكة وهو محزون لم يستجب له أحد من أهل البلد، فلما بلغ «قرن الثعالب» بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما الأخشبين، وهما جبلا مكة يحيطان بها، فرفض ذلك قائلاً: «بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيءًا». ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ «وادي نخلة»، وأقام فيه أيامًا، وخلال إقامته هناك استمع نفر من الجن إليه وهو يقرأ القرآن وهو يصلي بالليل، فنزلت ﴿وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن﴾.ثم تابع مسيره، فدخل مكة في جوار المطعم بن عدي، وهو ينادي «يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم»، حتى وصل محمد للكعبة وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محيطون به.
بعد رحلة الطائف، حدثت للنبي محمد رحلة الإسراء والمعراج بحسب التراث الإسلامي، وقد اختُلف في تحديدها على عشرة أقوال، فقيل أنها كانت ليلة 27 رجب بعد البعثة بعشر سنين (3 ق هـ)، وقيل بل كانت ليلة السبت 17 رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا (2 ق هـ)، وقيل في 17 ربيع الأول قبل الهجرة بسنة (1 ق هـ)، وقيل غير ذلك. وجمهور المسلمين من أهل السنة والشيعة يؤمنون بأن هذه الرحلة كانت بالروح والجسد معًا يقظةً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكانت قد حدثت له حادثة شق الصدر للمرة الثالثة قبل أن يركب البراق، بصحبة جبريل. فنزل في المسجد الأقصى وربط البراق بحلقة باب المسجد، وصلّى بجميع الأنبياء إمامًا، ثم عُرج به إلى فوق سبع سماوات مارًا بالأنبياء آدم، ويحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، ويوسف، وإدريس، وهارون وموسى وإبراهيم ، وانتهى إلى سدرة المنتهى ورأى الجنة والنار. ورأى ربّه بعيني رأسه (بحسب جمهور علماء أهل السنة)، وفُرض عليه الصلوات الخمس بعد أن كانت خمسين صلاة.
يقول البوصيري في قصيدة البردة:
سريتَ من حرمٍ ليلاً إلى حرمِ كما سرى البدرُ في داجٍ من الظلمِ
وَبِتَّ تَرْقَى إلَى أنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً من قابِ قوسينِ لم تدركْ ولم ترمِ
وقدَّمتكَ جميعُ الأنبياءِ بها والرُّسْلِ تَقْدِيمَ مَخْدُومٍ عَلَى خَدَم
وأنتَ تخترق السبعَ الطِّباقَ بهمْ في مَوْكِبٍ كنْتَ فيهِ صاحِبَ العَلَمِ
ثم انصرف في ليلته عائدًا راكبًا البراق بصحبة جبريل، فوصل مكة قبل الصبح، فلما أصبح أخبر قومه برحلته فاشتد تكذيبهم له وأذاهم، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فتمثّل له بيت المقدس حتى عاينه، فبدأ يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال. وصدّقه بكل ما قاله أبو بكر فسُمي يومئذ بالصّدّيق.
بدأ محمد يعرض نفسه في مواسم الحج على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويسألهم أن ينصروه ويمنعوه حتى يبلغ الإسلام للناس.
لما اشتد البلاء على المسلمين بعد بيعة العقبة الثانية، أذن محمد لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة، فجعلوا يخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة المنورة أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم قدم المسلمون أرسالاً فنزلوا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم. ولم يبقَ بمكة منهم إلا النبي محمد وأبو بكر وعلي بن أبي طالب أو مفتون محبوس أو ضعيف عن الخروج.
ولما رأت قريش خروج المسلمين، خافوا خروج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا في دار الندوة، واتفقوا أن يأخذوا من كل قبيلة من قريش شابًا فيقتلون محمد فيتفرّق دمه في القبائل فأخبر جبريل محمد بالخبر وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة، فأمر محمد عليًا أن ينام مكانه ليؤدي الأَمانات التي عنده ثم يلحق به. واجتمع أولئك النفر عِند بابه، لكنه خرج من بين أيديهم لم يره منهم أحد، وهو يحثوا على رؤوسهم التراب تاليًا آيات من سورة يس. فجاء إلى أبي بكر، وقد كان أبو بكر قد جهز راحلتين للسفر، فأعطاها محمد لعبد الله بن أرَيْقِط، على أن يوافيهما في غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، ويكون دليلاً لهما، فخرجا ليلة 27 صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 سبتمبر سنة 622م، وحمل أبو بكر ماله كلّه ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فمضيا إلى غار ثور فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعش، وجعلت قريش فيه حين فقدوه 100 ناقة لمن يردّه عليهم، فخرجت قريش في طلبه حتى وصلوا باب الغار، فقال بعضهم «إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد» فانصرفوا. ومكث محمد وأبو بكر في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، حتى خرجا من الغار 1 ربيع الأول أو 4 ربيع الأول.وبينما هما في الطريق، إذ عرض لهما سراقة بن مالك وهو على فرس له فدعا عليه محمد فرسخت قوائم فرسه، فقال «يا محمد أدع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي»، ففعل فأطلق ورجع فوجد الناس يلتمسون محمد فقال «ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ههنا» فرجعوا عنه.
وصل سيدنا محمد عليه السلام قباء يوم الإثنين 8 ربيع الأول، أو 12 ربيع الأول، فنزل على كلثوم بن الهدم، وجاءه المسلمون يسلمون عليه، ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف. وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى الودائع التي كانت عند سيدنا محمد للناس، حتى إذا فرغ منها لحق بمحمد فنزل معه على كلثوم بن هدم وبقي سيدنا محمد وأصحابه في قباء عند بني عمرو بن عوف 4 أيام، وقد أسس مسجد قباء لهم، ثم انتقل إلى المدينة المنورة فدخلها يوم الجمعة 12 ربيع الأول سنة 1 هـ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م، وعمره يومئذ 53 سنة. ومن ذلك اليوم سُميت بمدينة الرسول ﷺ، بعدما كانت يثرب، ويعبّر عنها بالمدينة مختصرًا أو المدينة المنورة. ولما دخل المدينة، راكبًا ناقته القصواء، تغنّت بنات الأنصار فرحات :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبًا يا خير داع
على طرف نقيض من معظم المسلمين يتبنى العلماء السلفيون، منهم ابن تيمية وعبد العزيز بن باز وجهة النظر القائلة إنّ الاحتفال بالمولد النبوي من البدع.
ويرى ابن باز أن الشرع لم يدلّ على ما يتيح الاحتفال بالمولد، لأنّ النبي لم يحتفل به، ولا الصحابة، ولذلك فهو بدعة. وبرأيه، فإنّ الله عوض المسلمين عن المناسبات كافة بعيدين هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وفيهما ما يكفي من الاحتفالات.
يعدّ موضوع إحياء المولد النبوي من الخلافات الفقهية الشائعة بين السلفيين والصوفيين، والتي الأمر بها بإصدار الفتاوي ضد المحتلفون به وخاصة الصوفية إلى التكفير.
على المقلب الآخر، تأخذ المرجعية الأزهرية موقفاً إيجابياً من الاحتفال بالمولد النبوي، وذلك في عدة فتاوى صدرت على مرّ السنين. فصحيح أنّ القرآن والأحاديث لم تشر صراحة إلى الاحتفال بالمولد، وأن التقليد تأخر ظهوره حتى القرن الرابع للهجرة، إلا أنّه من مظاهر تعظيم الرسول وإظهار محبته، بحسب تلك الفتاوى.
ويعدّ هذا الرأي سائداً بين أغلب المفسرين السنة، لأنّ احتفالات المولد وإن لم تكن فريضة، إلا أنها غير منبوذة برأيهم، لأنّ المولد النبوي الشريف إطلالة للرحمة الإلهية على البشر، ولأنّه تعبير عن الفرح والحب، واجتماع على تلاوة القرآن، وسيرة النبي، وقصائد المدح.
ومن العلماء والمفسرين من يصف الاحتفال بالمولد النبوي بأنّه “بدعة حسنة”، وذلك رأي العالم ابن حجر العسقلاني وذلك أيضا رأي العالم جلال الدين عبد الرحمن السيوطي الذي يرى أنّه “بدعة حسنة يثاب عليها صاحبها”. ومنهم شيخ الإمام النووي، أبو شامة حيث قال: “ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق لمولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور”.
ومنهم شيخ الإمام النووي، أبو شامة حيث قال: “ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق لمولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور”.
بالنسبة للمرجعيات الشيعية، فإنّ الاحتفال بالمولد النبوي تعبير عن حب، وتكريم وإعزاز للنبي، وبذلك فهو لا يُدخِل في الدين ما ليس منه.
وأما الوهابية والتكفيريين والسلفيين خوارج العصر مهمتهم شغل الأمة العربية والإسلامية بالفتن وتمزيق الأمة وتشتيتها كان الأولى بهم التركيز وتنبيه الأمة عن مايفعله اليهود والصهاينة والغرب في فلسطين وغزه والقدس الشريف وبالمسلمين والمسلمات في ربوع العالم
واذا كان الأصل أن الاحتفال بذكرى مولد النبي الشريف : إظهار الفرح في هذا اليوم، ويُقصَد به تجمع الناس على الذكر، والإنشاد في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وإطعام الطعام صدقة لله، والصيام، والقيام؛ إعلانًا لمحبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإعلانًا للفرح بيوم مجيئه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدنيا؛ فيكون الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بكل أنواع القربات التي يتقرب بها الإنسان إلى الله تعالى.
والاحتفال بـ مولد النبي الشريف تعظيمٌ واحتفاءٌ وفرحٌ بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، والاحتفاءُ والفرح به أمرٌ مقطوع بمشروعيته؛ لأنَّه عنوان محبته صلى الله عليه وآله وسلم التي هي ركن الإيمان.
وبناء على ذلك : فالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو إظهار الفرح في هذا اليوم، وذلك يكون بشتى أنواع القربات التي يتقرب بها الإنسان إلى الله تعالى، وهو أمر مستحب مشروعٌ بالكتاب والسنة، وقد درج عليه المسلمون عبر العصور، واتفق علماء الأمة على استحسانه، ولم ينكره أحدٌ يُعتَد به.
إلا أن هؤلاء الوهابية وما على شكلاتهم يقررون عدم شرعية الاحتفال بالمولد ؛ مولد النبي ﷺ وأنه بدعه بل وصل الأمر إلى إتهام الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام بالشرك
ونحن نقول كيف لا نحتفل بميلاد القائد سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وشفيعنا وقائدنا وقدوتنا واسوتنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان أحلم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس وأعف الناس وأسخى الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وكان يخصف النعل ويرقع الثوب، وما عاب مضجعًا، إن فرشوا له اضطجع وإن لم يُفرَش له اضطجع على الأرض، يمزح ولا يقول إلا حقًا، يضحك من غير قهقهة. وكان لا يثبت بصره في وجه أحد، وكان يقبل الهدية ويكافيء عليها، ولا يأكل الصدقة، يجيب الوليمة، ويعود مرضى مساكين المسلمين وضعفائهم، ويجالسهم ويؤاكلهم، ويتبع جنائزهم، ولا يصلي عليهم أحد غيره،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، يقبل معذرة المعتذر إليه. وما شَتَم أحدًا من المؤمنين، وكان لا يصارح أحدًا بما يكرهه، وما ضرب شيئًا قط بيده، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما انتقم من شيء صُنع إليه قط إلا أن تُنتَهك حرمة الله، وما خُيّر بين أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم
المولد النبوي الشريف هذه الذكرى العزيزة على قلب الإنسانية كلها دليل عمل جديد، ونفحة من النَّفحات التي تنهض الهمم وتقوّي الإرادات وتغسل القلوب من جديد بماء الحياة ونسغ الارتقاء
من أجل هذا، فإنه من الأقوى لنا التذكير بهذه الذكرى التي لا تخص المسلمين وحدهم، إنما تشاركنا الإنسانية جميعا بهذه الاحتفال، وذلك لمجيء هذا النور الذي بدَّد ظلُمات الجهل والاستبداد وأنار العالم من جديد بأنوار الحق والإيمان،
إذ أن الوفاء للنبيء ﷺ يقتضي من الإنسان المسلم استثمار تلك المحبة، وهذه هي الغاية من تجديد ذكراه في قلوبنا، ” لأن محبتنا فيه تجعلنا نحب كل خلق من أخلاقه وكل عمل من أعماله ففي ذكريات مولده نذكر من أخلاقه ومن أعماله ما يزيدنا فيه محبة ويحملنا على الإقتداء به فنستثمر تلك المحبة بالهداية في أنفسنا، ونشرها في غيرها تلك الهداية التي لا يسعد العالم سعادة حقة إذا تمسّك بها ، وبها التخلّق و المحبة والاقتداء بالنبي ﷺ يجُنّب الإنسان المسلم سلوكه العملي من آفات أخلاقية كثيرة
إنه ذكرى ميلاد النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
يوم المولد العظيم، الذي لم تطلع شمسٌ على يومٍ في هذه الدنيا هو أشرف، وأفضل، وأكثر بركةً منه، حيث هو اليوم الذي كانت تنتظره الأنبياء، وهو اليوم الذي كانت تنتظره الأولياء، وهو اليوم الذي كانت ترقبه الملائكة، وهو اليوم الذي مهّدت له الرسالات التي بعثها الله تعالى للأمم على امتداد تأريخها الضارب في عمق الزمن، لذلك هو أعظم يومٍ،، وأفضل يومٍ، وأشرف يومٍ على وجه التأريخ.
حتى إذا ما بُعث الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) انبعث معه النور والهدى، فقامت للبشرية حضارة -ولم تقم للعرب وحسب، بل قامت للبشرية كلِّ البشرية-، وكلُّ من تخلَّف عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ودعوته فإنَّما تخلَّف عن حظِّه.
قيم محمديه جديده
فأسس سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيماً لم تكن الناس تعرفها، ومازالت هذه القيم تتحدَّى العلم والحضارات، وتتحدّى كل علماء الإنسان والاجتماع، وعلماء الفلسفة والأخلاق، وبقيت غير قابلة للتبديل، وغير قابلة للتغيير، وليس ثمةَ من قيمةٍ من هذه القيم يمكن أن يُبتكر ما هو أحسن منها، أو يستجدُّ ما يفضي إلى نقضها، فكلُّ القيم التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان قد جاء بها سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكلُّ خُلقٍ رفيع يبني الإنسان في روحه، وفي فكره، وفي حضارته، وفي علاقاته، قد جاء به سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم). وما من شيءٍ يُساهم في بناء المجتمعات، وتقويمها، وتطويرها، وتقدمها، وعلوِّها، إلا وجاء به سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم).
لو أَنصَفنا الناسُ فالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) لم يأتِ ليُغيِّر واقعاً اجتماعياً وحسب، بل جاء ليُغيِّر واقعاً إنسانياً، وجاء ليصوغ الإنسان من جديد، فصاغه في فكره، وفي مشاعره، وصاغه في سلوكه الشخصي، وفي علاقاته مع أسرته، ومع مَن يحيطه، ومع الآخرين، صاغه في علاقته مع الله -عز وجل-، وفي علاقته مع المستكبرين والجبابرة، ومع الصغار والمستضعفين.
وعن حكم الاحتفال بالمولد النبوى الشريف؟ وما هى ضوابط وكيفية هذا الاحتفال، خاصة أنه صدرت بعض الفتاوى قبل أيام قليلة من ذكرى مولده الشريف تحرم ذلك، وتدعى أن الاحتفال بدعة، بل وتحرم تلك الفتاوى السير بالموكب وحمل الأعلام والضرب بالدف، أو الوقوف فى حلقات الذكر، وتحرم كذلك شراء الحلوى وإهداءها؟
أجابت دار الإفتاء المصرية، قائلة: إن المولد النبوى الشريف إطلالة للرحمة الإلهية بالنسبة للتاريخ البشرى جميعه، والاحتفال بذكرى مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من أفضل الأعمال وأعظم القربات، لأنه تعبير عن الفرح والحب للنبى صلى الله عليه وسلم، ومحبة النبى أصل من أصول الإيمان، وقد صح عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه البخاري. وقال تعالي: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره..) التوبة:24.
والاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم هو الاحتفاء به، والاحتفاء به أمر مقطوع بمشروعيته، لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولي، وقد درج سلفنا الصالح منذ القرنين الرابع والخامس الهجريين على الاحتفال بمولد الرسول صلوات الله عليه وسلامه بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات من إطعام الطعام وتلاوة القرآن والأذكار وإنشاد الأشعار والمدائح.
ولا حرج فى الأساليب والمسالك؛ لأنها ليست عبادة فى ذاتها، فالفرح به – صلى الله عليه وآله وسلم – عبادة وأى عبادة، والتعبير عن هذا الفرح إنما هو وسيلة مباحة، وأكد العلماء أن ما اعتاده الناس من شراء الحلوى والتهادى بها فى المولد الشريف أمر جائز فى ذاته، لم يقم دليل على المنع منه أو إباحته فى وقت دون وقت، لا سيما إذا انضم إلى ذلك مقصد صالح كإدخال السرور على أهل البيت أو صلة الأرحام فإنه يكون حينئذ أمرا مستحبا ومطلوبا يثيب الشرع على مثله والقول بتحريمه أو المنع منه ضرب من التنطع المذموم.
وقد ورد فى السنة النبوية ما يدل على احتفال الصحابة الكرام بالنبي، صلى الله عليه وسلم، مع إقراره لذلك وإذنه فيه، فعن بريدة الأسلمي، رضى الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إنى كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا). فإذا كان الضرب بالدف إعلانا للفرح بقدوم النبى صلى الله عليه وسلم من الغزو أمرا مشروعا أقره النبى صلى الله عليه وسلم وأمر بالوفاء بنذره، فإن إعلان الفرح بقدومه صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا- بالدف أو غيره من مظاهر الفرح المباحة فى نفسها- أكثر مشروعية وأعظم استحبابا.
وقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة جنس الشكر لله تعالى على ميلاده الشريف، فقد صح أنه كان يصوم يوم الاثنين، ويقول: ذلك يوم ولدت فيه، فهو شكر منه عليه الصلاة والسلام.
وما اعتاده الناس من شراء الحلوى والتهادى بها فى المولد الشريف، هو أمر جائز فى ذاته. وأما ما جرى عليه العمل فى بعض الأنحاء من عمل موكب يسير فيه المحتفلون بالمولد حاملين رايات يُنتَقَش عليها بعض الشعارات الدينية، ويتغنون فيها بالمدائح النبوية والقصائد الزهدية فلا حرج فيه مادام خلا عما ينافى الشرع من الاختلاط المذموم أو تعطيل المصالح العامة ونحو ذلك.
وأما بخصوص الوقوف فى حلقات الذكر والتَّمايُل فى أثنائه، فنقول : إن الله تعالى طلب الذكر من المسلمين مطلقًا؛ فقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكُرُوا اللَّهَ ذِكرًا كَثِيرًا) [الأحزاب:41]، وقال مادحًا عباده المؤمنين: (الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِم)، آل عمران:191، فالحثّ على الذكر جاء على لسان الشرع الشريف مطلقًا، فالأصل أنه لا يُقَيَّد بحالٍ دون حال أو بوقت دون وقت. وروى عن الإمام على رضى الله تعالي، عنه أنه قال فى وصف الصحابة رضى الله عنهم: إذا ذُكِر اللهُ مادُوا كما تَمِيدُ الشجرةُ فى يومِ ريحٍ فانهَمَلَت أَعيُنُهم حتى تَبُلّ ثِيابَهم، وهذا الأثر صريحٌ فى أن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يتحركون حركة شديدة فى الذكر ومادام انضبط الذكر بالأدب، وعدم تحريف ألفاظ الذكر بما يفسد معناها فلا يظهر معنى فى المنع.
جاءت فتوى دار الإفتاء المصرية حول الاحتفال بالمولد النبوي وذكرى مولد سيد الكونَين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبي الرحمة وغوث الأمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- من أفضل الأعمال وأعظم القربات؛ لأنها تعبير عن الفرح والحب للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومحبة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصل من أصول الإيمان.
وأضافت الإفتاء أنه قد صح عنه أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» رواه البخاري.
قال ابن رجب: «محبَّة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أصول الإيمان، وهي مقارِنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها الله بها، وتَوعَّدَ مَن قدَّم عليهما محبَّة شيء من الأمور المحبَّبة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة: 24]، «وَلَمَّا قاَلَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه؛ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّه الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: الْآنَ يَا عُمَرُ» رواه البخاري».
وذكرت دار الإفتاء أن نص جماهير العلماء سلفًا وخلفًا على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، بل ألَّف في استحباب ذلك جماعةٌ من العلماء والفقهاء، بَيَّنُوا بالأدلة الصحيحة استحبابَ هذا العمل؛ بحيث لا يبقى -لمن له عقل وفهم وفكر سليم- إنكارُ ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف .
وأضحت الإفتاء قائلة إن الاحتفال بالمعنى المقصود في هذا المقام، فهو لا يختلف كثيرًا عن معناه في اللغة؛ إذ المراد من الاحتفال بالمولد النبوي هو تجمع الناس على الذكر، والإنشاد في مدحه والثناء عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- وإطعام الطعام صدقة لله، إعلانًا لمحبة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإعلانًا لفرحنا بيوم المولد النبوي الشريف.
أوضحت الإفتاء أن مظاهر الإحتفال بالمولد النبوي يأتي مثلما اعتاده الناس من شراء الحلوى والتهادي بها في المولد الشريف؛ فإن التهادي أمر مطلوب في ذاته، لم يقم دليل على المنع منه أو إباحته في وقت دون وقت، موضحة أن إذا انضمت النية الاحتفال بالمولد النبوي إلى تلك المقاصد الصالحة الأخرى كإدخال السرور على أهل البيت وصلة الأرحام، فإنه يصبح مستحبًّا مندوبًا إليه، فإذا كان ذلك تعبيرًا عن الفرح بمولد المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- كان أشد مشروعية وندبًا واستحبابًا؛ لأن للوسائل أحكام المقاصد
وسبق أن أوضح الدكتور خالد عمران، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وهل يثاب المسلم عند الاحتفال بهذا اليوم.
إن النبي -محمد صلى الله عليه وسلم- احتفل بيوم مولده، وكان يصوم في هذا اليوم وكان يتعبد لله
وأوضح «عمران» أن النبي -محمد صلى الله عليه وسلم- حين سئل عن صيام يوم الاثنين قال: «ذاك يوم ولدت فيه ويوم بُعِثتُ أو أُنزِلَ عليّ فيه».وأضاف أن النبي كان يشكر الله على يوم مولده، إذ كان يصوم ويتعبد لله، متابعًا: «لازم نفرّح أولادنا بيوم مولد النبي، ده نوع من العبادة، لأننا نفرح بمولد النبي».وأوضح أن الاحتفال بالمولد النبي من أعظم القربات إلى الله، متابعًا: «الاحتفال بالمولد النبوي من إقامة مجالس الصلاة والمديح أو إطعام الطعام، سواء حلوى المولد أو طعام، هذا كله من أشد القربات إلى الله».وأشار أمين الفتوى إلى أن «أبولهب» الذي قال فيه القرآن الكريم الكريم «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»، ورد أنه يخفف عنه العذاب كلّ يوم اثنين لأنه فرح بميلاد النبي -محمد صلى الله عليه وسلم- إذ أعتق جارية لفرحه بمولد الرسول.
لذا نمكن القول بإن ما يملأ قلوب المسلمين في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول كل عام من ناموسِ المحبة العُلوي ، وما يهز نفوسهم من الفيض النوراني المتدفق جمالاً وجلالاً ، ليأتي إليهم محمّلاً من ذكريات القرون الخالية بأريج طيب ينمّ عما كان لأسلافهم الكرام من العناية بذلك اليوم التاريخي الأعظم، وما ابتكروا لإظهار التعلّق به وإعلان تمجيده من مظاهر الاحتفالات، فتتطلع النفوس إلى استقصاء خبر تلك الأيام الزهراء والليالي الغراء؛ إذ المسلمون ملوكاً وسوقةً (أي عامتهم) يتسابقون إلى الوفاء بالمستطاع من حقوق ذلك اليوم السعيد”.
الاحتفال بمولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، من مظاهر حب النبي الاَكرم الذي حبّه و تكريمه و تعزيره أصل في الكتاب و السنّة .
إنّ لحب نبي الاِسلام مظاهر و مجالي ، إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الاِنسان و تصرفاته ، بل انّ من خصائص الحب أن يظهر أثره على جسم الاِنسان و ملامحه ، و على قوله و فعله ، بصورة مشهورة و ملموسة .
فحب اللّه و رسوله الكريم لا ينفك عن اتّباع دينه و الاستنان بسنّته ، و الاِتيان بأوامره و الانتهاء عن نواهيه ، و لا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشدَّ الحب ، و مع ذلك يخالفه فيما يبغضه و لا يرضيه ، فمن ادّعى حباً في نفسه و خالفه في عمله فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين .
أنّ شرعية الاحتفال بمولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثابته باتفاق المسلمين و من فارقهم فقد فارق الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ، قال سبحانه وتعالى :﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ﴾
قلم وصوت ومحام لدى آل البيت عليهم السلام
الكاتب والمؤرخ الإسلامي/ عبدالرحيم حماد أبو هارون الشريف
إبن أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه والسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله
إبن العارف بالله السلطان محمد شمس الدين ابوهارون والإمام الصوفي العارف بالله الشيخ محمد بن هارون الشريف الإدريسي الحسني العلوي الهاشمي القرشي