حين يتحول التوحيد إلى مطية للسخرية, العقيدة الوهابية بين التكفير والاستهزاء بالمقدسات


بقلم الكاتب: محمد نجيب نبهان

في مشهد صادم تداولته وسائل التواصل، ظهر أحد الوهابيين السوريين المنتمين إلى جهاز الأمن العام وهو يتجول في مقام سيدنا الحسين رضي الله عنه، لا بنية الزيارة أو التوقير أو حتى النقاش، بل بقصدٍ ظاهرٍ للسخرية والتهكم، وقد بدا ذلك في نبرته الماكرة التي مازجت الوقاحة بالترصّد، وهو يردد عبارات مشوهة باسم سيدنا الحسين عليه السلام تارة، وباسم الإمام المهدي تارة أخرى، متحديًا مشاعر ملايين المسلمين الذين يرون في أهل بيت نبيهم رموزًا للقداسة، وأعلامًا للهداية، وامتدادًا نقيًا لرسالة الإسلام.

وإن كان هذا المشهد بحد ذاته كافيًا لاستدعاء الغضب المشروع، فإن الأخطر منه هو ما تلاه من حملة تبرير وشرعنة وتكذيب لكون ما حدث استهزاءً أصلًا، فهبّت أصوات وهابية تلوّن الموقف بلون “نقد البدعة”، وتلتمس الأعذار للساخر المتنطع، بل وتهاجم من استنكر ما حدث باعتباره “قبوريًا، مشركًا، مبتدعًا، جهميًا، معطّلاً” إلى آخر تلك المصطلحات البالية التي يحفظها الخطاب الوهابي أكثر مما يحفظ آيات الرحمة وأحاديث المحبة.

هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، لأنها ليست مجرد تصرفًا فرديًا، بل انعكاس مباشر لفكرٍ وهابي متأصّل يتعامل مع التراث الروحي للإسلام لا كرافدٍ إيمانيّ، بل كعدوّ يجب القضاء عليه. الفكر الذي يصنع من الدين سوطًا للتكفير، ويحيل مفاهيم الرحمة إلى تهديد، ويفرّغ العبادة من بعدها الروحيّ لتتحوّل إلى ميكانيكا باردة، هو الفكر الذي ينجب أمثال هذا الرجل، ويبرر ما فعل، ويكفّر من أنكر عليه.

لقد نجحت الوهابية، منذ أن بدأت على يد محمد بن عبد الوهاب، في ترسيخ بنية فكرية صلبة تقوم على رفض كل المكونات الروحية في الدين، وتُجرّم كل أشكال التعبير العاطفي عن الحب النبوي، وتحارب أي شكل من أشكال التوسل أو التبرك، وتعتبر مجرد الدعاء عند قبرٍ لأحد الصالحين نوعًا من “القبورية” المكفرة، ومع الوقت، لم يعد الأمر مجرد فتاوى تُقرأ في الكتب، بل أصبح نمطًا في التفكير يتبنّاه مريدون جهلة، يظنون أنهم بذلك يحسنون صنعًا.

الفكر الوهابي لا يرى في الدين إلا قانونًا للتجريم، يُقصي بموجبه كل مخالف له، ويكفر به السواد الأعظم من الأمة، بدءًا من الأشاعرة والماتريدية، وهم جمهور المسلمين، وصولًا إلى الصوفية والشيعة، بل وحتى عامة الناس الذين لا يلتزمون بفهمه الخاص المشوه، الذي لا يعترف بالنية، ولا بالأدب، ولا بالمقاصد، ولا بالتأويل، ولا بأي معاني التزكية والإحسان التي جاء بها الإسلام.

ومن العجيب أن من يزعم الدفاع عن “التوحيد” باسم النقاء والصفاء، لا يرى بأسًا في أن يسخر من مقدسات المسلمين، وأن يهين من عظمهم الله، وأن يجعل من بُكاء المساكين على قبور الصالحين جرمًا، بينما يبيح لأنصاره أن يستهزئوا في المقامات الطاهرة، ويسبّوا من أحبهم النبي، وينسبوا إلى الله صفات المجسّمين من اليد الحقيقية، والوجه الحقيقي، والجلوس، والانتقال، والنزول الحسي، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.

فإذا كان التوسل بجاه النبي، أو بدعاء الصالحين، أو بزيارة القبور، شركًا عندهم، فإن تجسيم الله، وجعله في مكان محدد، ونسب الحركة والحدود إليه، يعتبرونه من “التوحيد الخالص”، أي قلب مقلوب هذا، وأي ميزان أعوج؟ وكيف تُكفّر أمة كاملة بمجرد محبة، ويُبرأ من الشرك من أثبت لله جوارح وحدودًا؟!

منهج هؤلاء لا يقوم على الفقه، بل على هندسةٍ فكرية عنيفة تريد إعادة بناء الدين على صورة جافة، تخلو من الرحمة والذوق والتاريخ والبعد الإنساني، ويكفي أن تقرأ ما كتبوه في حق علماء الأمة حتى تدرك أنهم لم يتركوا أحدًا إلا ورموه بالبدعة أو الكفر أو الضلال. الأشعري عندهم جهمي، والغزالي ضال، والرازي مبتدع، والنووي متكلم، وابن حجر متصوّف مبتدع، وحتى الأئمة الأربعة عندهم مرفوضون إن لم يتوافقوا مع فقه محمد بن عبد الوهاب وابن باز وابن عثيمين.

وهذا البناء الفكري يترافق دائمًا مع تطاولٍ على من يفترض أن يكون لهم في الأمة التقدير والتوقير، كالأنبياء وأولياء الله والصالحين، فيُستهزأ بالمقامات، ويُطعن في زيارة القبور، وتُسخّف مجالس الذكر والدعاء والبكاء، حتى صارت عبارات مثل “دعاء عند قبر”، “بكاء على ضريح”، “زيارة للنبي”، تُقابل عندهم بنفس ردة الفعل التي يُقابل بها المرتد عند العلماء: تكفير، لعن، طرد، طعن، واتهام بالشرك.

إن الذي جرى في المقام الحسيني ليس حادثة معزولة، بل هو تتويج طبيعي لعقيدة لا ترى للقبور حرمة، ولا لأهل الصلاح مكانة، بل ترى أن واجبها تجاه المراقد أن تُسوّى بالأرض، وتُهدم، وتُمحى، كما فعل أسلافهم حين هدموا أضرحة البقيع، بل وكما فعلوا حين دنسوا كربلاء ذاتها.

لا يفصل الوهابية بين محاربة البدع وبين تحقير المقدسات، بل يجمعون بينهما في خطابٍ واحد، يجعل من أي توقير للصالحين بدعة، ومن أي بكاء على شهيدٍ شركًا، ومن أي توسلٍ كفرًا، ومن أي أثرٍ باقٍ لحب النبي وآله جريمة يجب محوها، ويكفي أن يفتح أحدهم فمه عند قبر فيقول: “اللهم بجاه نبيك”، ليصبح في نظرهم مرتدًا يجب استتابته أو قتله.

أما إذا تجرأ أحدهم أن يستهزئ بالمقام، أو أن يعبث في المراقد، أو يسخر من الأسماء والرموز، فإنهم يدافعون عنه فورًا، ويبررون فعله، ويقولون: “إنما هو ينكر المنكر”، أو “يسخر من بدع الشيعة”، وكأن الضريح صار حكرًا لطائفة دون أخرى، وكأن حُرمة المقامات ترتبط بالهوية المذهبية لا بالمكانة الدينية، وكأن السخرية من سيدنا الحسين يُنظر إليها من زاوية سياسية لا من زاوية عقدية وأخلاقية.

ثم يُكملون طعنهم بأن من يحب الحسين فهو رافضي، ومن يذكر المهدي فهو ضال، ومن يدعو الله عند القبر فهو مشرك، ومن يستغيث بالرسول فهو كافر، بينما من يضحك في المقام، ويعبث بالأسماء، ويكرر الألفاظ استهزاء، هو موحّدٌ نقيٌّ على التوحيد السليم.

بل إنهم بلغوا من الشطط أن جعلوا الاستغاثة بالمخلوق شركًا أكبر، وتناسوا أن الاستغاثة نوعان: حقيقية ومجازية، وأن التوسل مشروع عند جمهور الأمة، وأن الله هو الذي يقضي، لا أحد سواه، ولكنهم حين يرون رجلًا يقول: “يا رسول الله، اشفع لي”، يكفرونه فورًا، رغم أن الصحابي توسل برسول الله بعد موته، وأن العلماء من كل المذاهب أجازوا ذلك، بل ودافعوا عنه.

وهم حين يرون رجلًا يزور مقام نبي أو ولي، لا يسألونه عن نيته، ولا عن عقيدته، ولا يميزون بين من يعبد ومن يوقر، بل يُطلقون عليه ألفاظًا جاهزة: قبوري، مبتدع، مشرك، ضال، جهمي، معطّل. لأن الأصل عندهم الشك، والنية عندهم لا اعتبار لها، والتفسير الوحيد لأي مظهرٍ من مظاهر المحبة هو أنه شرك، وأي دعاء عند القبر هو عبادة له، حتى لو دعا الله وحده.

لقد حولوا الدين إلى شبكة محاكم تفتيش، وأعادوا إنتاج عقلية الخوارج في ثوب حديث، وفتحوا أبواب جهنم باسم التوحيد، وشرعنوا الكراهية في هيئة “تصحيح العقيدة”، وجعلوا المسلم يعيش في شك دائم، يخاف من كل لفظ، ويتردد في كل دعاء، ويخشى من البكاء، ولا يجرؤ على زيارة النبي، خشية أن يُرمى بالكفر، أو البدعة، أو الضلال.

هكذا سُرقت روح الإسلام، وهكذا تحول الدين من محبة إلى سيف، ومن بكاء إلى استتابة، ومن نور إلى فتاوى متحجرة، وصار الجهل يُروّج باسم “السلف”، والتشويه يُقدّم باسم “التوحيد”، والوقاحة تُسوّق باسم “الإنكار”، والجمود يُعبد كما يُعبد الوثن، بل أدهى.

لقد آن الأوان أن يُكشف هذا الفكر على حقيقته، لا باعتباره اجتهادًا في فهم النصوص، بل باعتباره مشروعًا مُمأسسًا لتفريغ الإسلام من رحمته، وتكفير أمته، وهدم تاريخه، وإهانة رموزه، باسم “إفراد الله بالعبادة” كما يزعمون، وهم في الحقيقة لا يفردون الله إلا في ألفاظ، بينما يعبدون فتاوى شيوخهم، ويدورون مع تكفيرهم حيث دار.

والمسلمون اليوم بحاجة إلى أن يستعيدوا الثقة بعقيدتهم، وأن يدركوا أن حب النبي وآله وأصحابه ليس شركًا، وأن زيارة القبور سنة، والتوسل مشروع، والبكاء رحمة، والدعاء عند القبر عبادة لله لا لغيره، وأن الساخر من المقدسات ليس موحدًا، بل ضالٌ، جاهل، منحرف، خرج من نور الإسلام إلى ظلمة الحقد باسم “المنهج”.

وفي نهاية الأمر، نقولها كما قالها الإمام القشيري قبل قرون: “لو أن رجلاً وقف عند قبر نبي أو ولي، فقال: يا فلان، ادعُ الله لي، فليس بشرك”، بل الشرك الحقيقي أن تقول إن الله محدود، وأن له حدًا، وأنه يضحك، ويتحرك، ويُجالس النبي، هذا هو الشرك الأكبر، الذي لو علموه لأدركوا أنهم أولى بالكفر من كل من وصفوه به.

فهل آن أوان الصحوة؟ أم لا زلنا ننتظر مزيدًا من السخرية في المقامات الطاهرة، حتى نفهم أن التكفير لم يكن يومًا دفاعًا عن التوحيد، بل وسيلة لقتل كل ما هو جميل في هذا الدين؟