خطبة بعنوان «لله درك يا ابن عباس » إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ١٥ من محرم ١٤٤٧هـ الموافق ١١ من يوليو ٢٠٢٥م
العناصر أولًا: مولده ثانيًا: طلبه للعلم ثالثًا: مجلسه وتعليمه الناس رابعًا: تأملات في مناظرة عبد الله بن عباس للخوارج
الموضوع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد، فنعيش اليوم مع صحابي جليل محدث وفقيه وحافظ ومُفسِّر، وابن عم النبي ﷺ، وأحد المكثرين لرواية الحديث، حيث روى ١٦٦٠ حديثًا عن النبي ﷺ. دعا له النبي ﷺ بالفقه في الدين وتعلمه التأويل إنه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن أبو العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، هو صحابي جليل، فمن هو ابن عباس
أولًا: مولده ولد في مكة في شعب أبي طالب قبل الهجرة النبوية بثلاث سنوات، وهاجر مع أبيه العباس بن عبد المطلب قبيل فتح مكة فلقوا النبي ﷺ بالجحفة؛ وهو ذاهب لفتح مكة، فرجعا وشهدا معه فتح مكة، ثم شهد غزوة حنين وغزوة الطائف، ولازم النبي ﷺ وروى عنه، ودعا له النبي ﷺ قائلًا: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»، وقال أيضًا: « اللهم علمه الكتاب، اللهم علمه الحكمة»، توفي النبي ﷺ وعمره ثلاث عشرة سنة، فكان يفسّر القرآن بعد موت النبي ﷺ، حتى لُقِّب بـ حَبْر الأمة وترجمان القرآن، والحَبْر والبحر.
بعد وفاة النبي ﷺ، أخذ ابن عباس يطلب العلم والحديث من الصحابة، وقرأ القرآن على زيد بن ثابت وأبي بن كعب، فيقول: «لما قُبِضَ رسول الله ﷺ قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله ﷺ فإنهم اليوم كثير. فقال: “يا عجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله ﷺ من فيهم؟”، فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله ﷺ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل -وقت القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: “يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليّ فآتيك؟” فأقول: “لا! أنا أحق أن آتيك.” فأساله عن الحديث. فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي الناس يسألوني، فيقول: “هذا الفتى كان أعقل مني».
وكان يلزم كبار الصحابة ويسألهم عن غزوات النبي ﷺ وما نزل فيها من القرآن، وكان يسأل عن الأمر الواحد من ثلاثين من الصحابة، وكان يذهب خاصةً لأبي بن كعب، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. وكان في البداية يتردد أن يسأل عمر من هيبته؛ فيذكر أنه تردد أن يسأله عن آية سنةً؛ فيقول: «مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مِنْ أَزْوَاجِهِ”، فَقَالَ: “تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ”، فَقُلْتُ: “والله إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ”، قَالَ: “فَلَا تَفْعَلْ! مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي، فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ».
ثالثًا: مجلسه وتعليمه الناس كان لابن عباس مجلس كبير في المدينة يأتيه الناس لطلب العلم، ومدح معاصروه طريقته في الخطابة والأخذ بقلوب وعقول مستمعيه، فيقول صعصعة بن صوحان: «إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حُدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف. وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه.»،
وكان ابن عباس يجلس يومًا ما يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا ما يذكر فيه إلا التأويل، ويومًا ما يذكر فيه إلا المغازي، ويومًا الشعر، ويومًا أيام العرب. ويصف أبو صالح السمان ذلك المجلس فيقول: “لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا حَتَّى ضَاقَ بِهِمُ الطَّرِيقُ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجِيءَ وَلَا أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَكَانِهِمْ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَ لِي: ضَعْ لِي وَضُوءًا، قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَجَلَسَ، وَقَالَ: اخْرُجْ وَقُلْ لَهُمْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ وَمَا أَرَادَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ، وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَهُ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ. فَخَرَجُوا.
وكان لقرابته للنبي ﷺ أثر في ذلك، فكانت خالته ميمونة بنت الحارث زوجة النبي ﷺ، وكان ابن عباس يدخل بيت النبي ﷺ، ويبيت في حجرة خالته أيامًا، ويقوم بخدمة النبي ﷺ. وكان يصف للصحابة كل ما يراه من أفعال النبي ﷺ وأقواله، وذات مرة كان النبي ﷺ في بيتِ ميمونةَ فوضَعْ ابن عباس له وَضوءًا مِنَ الليلِ فقالتْ له ميمونةُ: «وضَع لك هذا عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ» فقال النبي ﷺ: «اللهم فقِّهْهُ في الدينِ وعلِّمْهُ التأويلَ». وضمّه النبي ﷺ إلى صدره وقال: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ».
ويذكر ابن عباس أنه رأى جبريل مرتين في بيت النبي ﷺ، فيقول: «رأيت جبريل مرتين، ودعا لي بالحكمة مرتين». ويروي ابن عباس قصة رؤيته لجبريل فيقول: كنت مع أبي عند النبي ﷺ وعنده رجل يناجيه، فقال العباس: ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني؟ فقلت: إنه كان عنده رجل يناجيه. قال: أوكان عنده أحد؟ قلت: نعم. فرجع إليه، فقال: يا رسول الله هل كان عندك أحد؛ فإن عبد الله أخبرني أنه كان عندك رجل تناجيه؟ قال: هل رأيته يا عبد الله؟ قلت: نعم. قال: ذاك جبريل عليه السلام.
وكان ابن عباس ملازمًا للنبي ﷺ في مرضه واحتضاره ووفاته، ووصف الأيام الأخيرة للنبي ﷺ، وخروج النبي ﷺ من مرضه إلى الصلاة وخطبته، وصفة وفاة النبي ﷺ وكيفية غسله والصلاة عليه، وما دار بعد وفاة النبي ﷺ بين الصحابة. وقد تُوفي النبي ﷺ وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وقيل عشرة، وقيل خمس عشرة -لاختلاف المصادر في سنة مولده-، لكن أجمعت المصادر على أنه كان قد خُتِنَ وبَلغ الحُلم.
في عهد عمر كان ابن عباس مُقدَّمًا عند عمر بن الخطاب في زمن خلافته، كان عمر بن الخطاب يحرص على مشورته في كل أمر، ويأذن له بالدخول عليه مع أهل بدر، حتى أن بعضهم تعجب من صنيع عمر، فعن سعيد بن جبير قال: «كان ناس من المهاجرين قد وجدوا -غضبوا- على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم، وكان يسأله، فقال عمر: أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون فضله، فسألهم عن هذه السورة: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ١﴾، فقال بعضهم: أمر الله نبيه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجًا أن يحمده ويستغفره، فقال عمر: يا ابن عباس تكلم، فقال: أعلمه متى يموت؛ أي فهي آيتك من الموت، فسبح بحمد ربك واستغفره.» كان ابن عباس يقوم على منبر النبي ﷺ، فيقرأ البقرة وآل عمران فيفسرهما آية آية، وكان عمر إذا ذكره قال: “ذلك فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول”. وفي رواية: “ذاكم كهل الفتيان”.
ولما رأى العباس قرب ابنه من الخليفة عمر أوصاه وصية قال فيها: «إن عمر يدنيك ويجلسك مع أكابر الصحابة فاحفظ عني ثلاثًا: لا تفشين له سرًا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا يجربن عليك كذبًا.»، قال الشعبي لابن عباس: «كل واحدة خير من ألف». فقال ابن عباس: «بل كل واحدة خير من عشرة آلاف». ولم يزل ابن عباس ملازمًا لعمر حتى مقتله، فبعدما طُعِن دخل عليه وأخذ يواسيه، ويقول له: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَئِنْ كَانَ ذَاكَ لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ الله ﷺ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ صَحَبَتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ.»، فقال عمر: «أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ الله ﷺ وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنْ الله مَنَّ بِهِ عَلَيَّ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنْ الله جَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ والله لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عز وجل قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ.».
وقد كان ابن عباس ينتقد على علي في بعض أحكامه فيرجع إليه علي في ذلك، روى البخاري في صحيحه: «أن عليًا حرق ناسًا ارتدوا عن الإسلام. فبلغ ذلك ابن عباس فقال: “لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»». وقد أرسله علي إلى ستة آلاف من الحرورية فحاورهم ابن عباس، فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقاتلهم المهاجرون والأنصار،
رابعًا: تأملات في مناظرة عبد الله بن عباس للخوارج الخوارج: فرقة من الفرق الإسلامية التي ظهرت مبكرًا في عهد الصحابة رضي عنهم، وكانت لها آراء أحدثت شرخًا سياسيًا في بناء الأمة. وهم يكفّرون أصحاب الكبائر، ويكفّرون من خالفهم، ويستحلّون منه ـ لارتداده عندهم ـ ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي. وقد نشأت بذرة الخوارج في عهد النبي -ﷺ- ففي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- جاء عبدالله ذو الخويصرة التميمي فقال: “اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ -ﷺ-: “ويْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ” قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: “دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ” فقَالَ -ﷺ- َدعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ” رواه البخاري ومسلم
المناظرة قال ابن عباس – رضِي الله عنه -: لَمَّا خرجت الحَرُوريَّة، اعتَزلُوا في دارٍ على حدتهم، وكانوا ستَّة آلاف، فقلتُ لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرِد بالصلاة، لعلِّي أكلِّم هؤلاء القوم. قال: إني أخافهم عليك. قلت: كلاَّ إن شاء الله، وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدًا. فلَبِستُ أحسنَ ما يكون من حُلَل اليمن، قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلاً جهيرًا. قال: ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. وفي هذا المشهد العديد من الفوائد:
الفائدة الأولى: الاهتمام باختيار الرجل المناسب للمهمَّة المرسَل إليها؛ ومن أمثالهم السائرة في الناس: “أرسل حكيمًا ولا توصِه”، يقول أبو عبيد: “إنَّ عقلَه وأدبَه يغنيك عن وصايته بعد أن يعرف الحاجة” [الأمثال (ص: ٢٥٢)]
فقد كان ابن عباس -رضي الله عنهما- هو الرجل المناسب لتلك المهمة؛ لما تميز به من غزارة العلم، وحسن الفهم؛ فهو ترجمان القرآن، والمدعو له بفهم التأويل.
الفائدة الثانية: نصحُ الدُّعَاة بعضهم بعضًا، وحرصُهم على إخوانهم، كما قال علي لابن عباس -رضِي الله عنهم-: إني أخافُهم عليك، وكان قد اشتَهَر عن الخوارج استِحلال دماء المسلمين، كما وصَفَهم رسول الله -ﷺ- بقوله: (يَقتُلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان) متفق عليه، وقد قتلوا عبدالله بن خباب وبقروا بطن أمِّ ولده.
الفائدة الثالثة: حسن توكُّل الداعِيَة إلى الله، واستِحضار مشيئة الله القاضية على كلِّ شيء، كما قال ابن عباس لعلي -رضِي الله عنهم – لما قال له علي: أخافُهم عليك، قال ابن عباس: كلاَّ إن شاء الله. والداعية إلى الله لا يزال يتعرَّض في دعوته للمَخاطِر والمَتاعِب، فإن لم يُحسِن التوكُّل على الله وتَفوِيض الأمور له، ويحسن الظنَّ بخالقه، فربما عاقَتْه نفسه الأمَّارة بالسوء عن الخير.
الفائدة الرابعة: خلخلة موقف أهل الباطل وتشكيكهم في مُعتَقداتهم وتصوُّراتهم، حتى يَسهُل اقتيادهم للحقِّ، كما تعمَّد ابن عباس قبل مناظرة الخوارج لبس أحسن الحُلَل وهو يعلم أنهم سيَستَنكِرونه، فيبيِّن لهم أنَّ النبي -ﷺ- فعَلَه، وأنَّ القرآن أنكر على مَن حرَّمه، وبهذا تَضعُف ثقتهم بمَواقِفهم، والمرء قد تحرِّكه كثرةُ الصدمات من موقفه أحيانًا، ولهذا لبس ابن عباس الفَطِنُ أحسنَ الثياب وترجَّل.
قال -ابن عباس-: فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، وجوههم معلمة من آثار السجود، عليهم قمص مرحضة، وجوههم مسهمة من السهر. وترجَّلتُ، ودخلت عليهم في دارٍ نصف النهار وهم يأكُلون (هكذا في مُعظَم الروايات، وفيه رواية: وهم قائلون) في نحر الظهيرة. فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟
قلت: ما تَعِيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله -ﷺ- أحسنَ ما يكون من الحُلَل، ونزلت: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: ٣٢]. قالوا: فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتُكم من عند أصحاب النبي -ﷺ- المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النبي -ﷺ- وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون. فقال بعضهم: لا تُخاصِموا قريشًا؛ فإن الله يقول: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨]. قال ابن عباس: وما أتيت قومًا قطُّ أشد اجتهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى مَن حضر. فقال بعضهم: لنُكَلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول. قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله -ﷺ- وابن عمِّه. قالوا: ثلاث. قلت: ما هن؟ قال: أمَّا إحداهن، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ [الأنعام: ٥٧]، ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة. قالوا: وأمَّا الثانية، فإنه قاتَل ولم يَسْبِ ولم يغنم، إن كانوا كفَّارًا لقد حلَّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سبيهم ولا قتالهم. قلت: هذه ثِنتان، فما الثالثة؟ قالوا: ومَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أمير الكافرين! قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
وهنا فائدة خامسة تُظهِر لنا استِعمال عامَّة أهل البِدَع والضَّلال نصوص الوحيَيْن في غير موضعها، كما استدلَّت الخوارج على ترك السماع من ابن عباس لأنه قرشيٌّ؛ والله يقول عن قريش: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: ٥٨]. لقد أتى الخوارج من قبل فهمهم السقيم لنصوص الشرع، ويرجع ضلالهم إلى أسباب أهمها: – فهم النصوص ببادئ الرأي، وسطحية ساذجة، دون التأمل والتثبت من مقصد الشارع من النصوص، فوقعوا في تحريف النصوص وتأويلها عن معناها الصحيح.
– أخذهم ببعض الأدلة دون بعض، فيأخذون بالنص الواحد، ويحكمون على أساس فهمهم له دون أن يتعرفوا على باقي النصوص الشرعية في المسألة نفسها، فضربوا بعض النصوص ببعض (وبهذا أسكتهم ابن عباس -رضي الله عنه-، فقد كان يأتيهم بباقي الأدلة في الموضوع نفسه، فلا يجدون لذلك جوابًا). وسبب ضلال الخوارج هو سبب ضلال طوائف عديدة من المسلمين. يقول الشاطبي رحمه الله: أن أصل الضلال راجع إلى (الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم) (الاعتصام للشاطبي ٢ /١٨٢).
فالآية نزلت في مُشرِكي قريش الذين يُخاصِمون بالباطل، وابن عباس إنَّما جاءهم ليَرُدَّهم إلى الحقِّ، ويُكلِّمهم بكتاب الله وسُنَّة النبي -ﷺ- فكيف يجعَلونه من أهل هذه الآية؟ وفي هذه المُناظَرة الكثير من جهل الخوارج بنصوص كتاب الله -تعالى- وتنزيلها غير موضعها، أو عدم فهمها ابتِداءً.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.. وبعد.
وهذه المُناظَرة فيها فوائدُ كثيرةٌ جدًّا لِمَن يَتَدبَّرها، فوائد تَنفَع الدُّعاةَ والعاملين لدين الله -عزَّ وجلَّ- في واقِعنا المُعاصِر، لا سيَّما وأنَّ صاحبها حبر الأمَّة وعالمها عبدالله بن عباس -رضِي الله عنهما- الذي دعا له رسولُ الله -ﷺ- بالفقه في الدين.
يقول ابن عباس: قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله -جلَّ ثناؤه- وسنَّة نبيِّه -ﷺ- ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فأمر الله -تبارك وتعالى- أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: ٩٥]. وكان من حُكْمِ الله أنَّه صيَّره إلى الرجال يَحكُمون فيه، ولو شاء حكَم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صَلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟ قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل. وقال في المرأة وزوجها: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: ٣٥]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟ قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم. * خرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أفتَسْبُون أمَّكم عائشة؟! تستحِلُّون منها ما تستَحِلُّون من غيرها وهي أمُّكم؟ فإن قلتم: إنَّا نستَحِلُّ منها ما نستَحِلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: ٦]. فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج؟ فنظر بعضهم إلى بعض. * أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. وأمَّا قولكم: محا نفسَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله -ﷺ- يوم الحديبية صالَح المشركين، فقال لعلي: (اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله)، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله -ﷺ-: (امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله)، فوالله لَرَسُولُ الله -ﷺ- خيرٌ من علي، وما أخرَجَه من النبوَّة حين محا نفسه، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائِرُهم فقُتِلُوا على ضلالتهم، قتَلَهم المهاجرون والأنصار. (قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند ٥ /٦٧رقم ٣١٨٧): إسناده صحيح. اهـ).
أيها الإخوة المؤمنين إن أحوال الخوارج من كثرة العبادة والاجتهاد فيها غير خافية على أحد، فلقد قال الرسول ﷺ: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم.. ) وقال ابن عباس في وصفهم كما في هذا الأثر: (…لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود…)
فيجب عدم الاغتِرار بصَلاح الحال أو السَّمْت؛ لأنَّ الدين مَبناه على العلم والعمل جميعًا، لا العمل على جهل كحال الخوارج هنا، ولا العلم دون عمل كحال كثيرٍ من الناس، فابن عباس -رضِي الله عنه- يقول عن الخوارج: وما أتيتُ قومًا قطُّ أشدَّ اجتِهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر! كأنَّ أيديهم ورُكَبهم تثنى عليهم، لكنَّهم مع ذلك (يقرؤون القرآن لا يُجاوِز حَناجِرَهم)؛ كما قال النبي -ﷺ- في الحديث المتَّفَق عليه، فكيف تُؤثِّر فيهم القراءة، وكيف يَفقَهُون ما يقرؤون؟!
وكثيرٌ من أهل الزيغ والضلال يَغتَرُّون بطاعتهم أو بأعمالهم ويغترُّ بهم الناس، ويُطاعُون بلا أهليَّة، فتقع الفِتَن والمِحَن.
والمنهج الإسلامي الواضح، يدلنا على أنه يجب تقييم الرجال أولاً من منطلق معتقداتهم وتصوراتهم، وجميع السمات الأخرى -إذا أقرها الشرع- تأتي بعد ذلك لا قبله. فلو انطلقنا في الحكم على الخوارج من خلال شدة اجتهادهم في العبادة، وجعلنا ذلك هو المقياس الأول في الحكم عليهم، لكان ينبغي أن نجلهم ونحترمهم، فنرفع درجتهم حتى فوق درجة الصحابة، إذ يقول الرسول، -ﷺ- لصحابته في شأن الخوارج: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم) فكم يكون هذا التقييم سخيفًا ؟
ولكن الأمر يختلف تمامًا، ويعود إلى نصابه الصحيح، عندما يحكم عليهم من خلال معتقداتهم وتصوراتهم فنرى أنهم قد ابتدعوا في دين الله بدعة خطيرة فاحشة، فوضعوا بذور الخلاف والفتنة. إن الاعتقاد الصحيح، يليه العمل الصالح، هو الذي يميز المسلم الحق المنتمي إلى أهل السنة والجماعة، أما كل الاعتبارات الأخرى فإنه يشترك فيها المسلم الحق مع غيره من أهل البدع والضلال. فلا ينبغي أن تكون معيارًا أساسيًا.
ومع كل هذا فلقد أتوا ببدعة خطيرة، ووضعوا بذور الخلاف بين المسلمين، وليس من مسلم سليم العقيدة إلا ويذكرهم في معرض الذم، ولم يذكرهم العلماء في مصنفاتهم إلا للتحذير من بدعتهم وبيان فساد معتقدهم دون أدنى فخر واعتزاز بعبادتهم. فقد استباحوا دماء مخالفيهم فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، فمن تناقضهم: أنه مر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت ومعه سَريّة وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد ، ومر بهم يهودي فأمّنوه على حياته ومرّ من بينهم سالمًا، ولم يبق منهم إلا القليل الذي حمل فكرهم الذي نعاني من ويلاته حتى الآن. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ