
خطبة الجمعة القادمة بعنوان: (السلام رسالة الإسلام)
للشيخ : عماد غالى الأزهرى
لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
عماد غالي (السلام رسالة الإسلام)
9 من محرم ١٤٤7 هـ / 4 من يوليو ٢٠٢٥ م
الحمد لله الذي أمر بالسَّلام، وجعل الجنة دار السَّلام، ونادت آياته الكريمة بتحقيق الوئام، وجاءت شريعته السمحاء لترسي دعائم الأمن والإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفضل بالإنعام، ذو الجلال والإكرام. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعالمين، وهاديًا للبشرية أجمعين، ومبشرًا بالخير وداعيًا إلى سبيل رب العالمين بالسلام والإحسان، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
أيها المسلمون، عباد الله:
قفوا معي وقفة تأمل، لحظة صدقٍ مع النفس والضمير، لنستجلي حقيقة راسخة، أضحت في زماننا هذا محل شبهة وتشويه، وهي أن (السلام رسالة الإسلام) نعم، السلام هو جوهر هذا الدين العظيم، ولُب رسالته الخالدة، الإسلام ليس مجرد اسم، بل هو منهج حياة، صِبْغة إلهية، يدعو إلى السلام الشامل، سلامٌ لا يقتصر على بني الإنسان فحسب، بل يمتد ليشمل الكون بأسره.
أولًا: الإسلام اشتقاقٌ من السلام، وجوهرٌ للوئام
يا عباد الله: هل تأملتم في اشتقاق كلمة “الإسلام”؟
إنها من جذر “سلم”، وهذا الجذر يحمل في طياته أسمى معاني السلام والأمان والطمأنينة، والإذعان لرب العالمين، فكيف لدينٍ يحمل هذا الاسم العظيم، أن يُوصف بغير السلام؟ هذا افتراءٌ وظلمٌ، وطعنٌ في حقيقةٍ ثابتةٍ كالشمس في وضح النهار.
لقد جاء الإسلام ليقتلع جذور العداوة والبغضاء، ويزرع بدلها بذور المحبة والوئام، ليُخرج الناس من ظلمات الجور والظلم إلى نور العدل والإحسان، ومن وحشية القتال والنزاع إلى رحاب التراحم والتعاون، اسمعوا معي لنداء ربنا سبحانه وتعالى في محكم التنزيل، وهو يدعو البشرية جمعاء إلى هذا المسلك النبيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة: 208].
هذه الآية الكريمة ليست مجرد دعوة جزئية، بل هي دعوة شاملة، كافّة، بلا استثناء، للدخول في السلام بكل أبعاده، سلامٌ مع الله، ومع النفس، ومع الخلق أجمعين.
ولأهمية السلام، جعله الله غاية المتقين، وجزاء الصالحين في الدار الآخرة، حتى سميت الجنة بدار السلام، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25]، وقال تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 127].
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم السلام تحية الإسلام، وجوهر الأخوة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» [رواه مسلم (54)].
بل هي تحية أهل الجنة قال عز وجل: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: 44].
ثانيًا: أبعاد السلام في الإسلام ثلاثية متكاملة
إن رسالة الإسلام للسـلام تتجلى في ثلاثية متكاملة، لا ينفصل بعضها عن بعض، وهي:
1- السلام مع الله:
وهذا هو أصل كل سلام، فمتى اطمأن القلب لربه، ووحّده، ولم يشرك به شيئاً، واستسلم لأمره ونهيه، نال السكينة والطمأنينة، والسلام في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، فلا أمن حقيقي، ولا سلام داخلي لمن كان قلبه مضطرباً بالشِّرك، أو بالشك.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}» [رواه البخاري (6937)، ومسلم (124)].
2- السلام مع النفس:
بتزكيتها، وتطهيرها من الأحقاد والضغائن، والعيوب والآثام، وبناء شخصية متوازنة لا تعصف بها الأهواء، ولا تتقلب بها الشهوات، نفسٌ خاليةٌ من صراع الخير والشر داخلها.
فعلى المسلم أن يتصالح معه نفسه، بأن يربيها على هذا المعنى، فيتخلص من كثير من الأمراض النفسية، مثل الكبت، والانطواء، والسلبية، والعزلة، والوساوس، والقلق، والتوتر، وغير ذلك من الأمراض النفسية التي علاجها في السلام النفسي.
قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10]، فمتى سلمت النفس من أمراضها الداخلية، كانت منبعاً للخير والعطاء والسلام، ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، فالذكر الدائم لله، وتلاوة آياته، والتدبر فيها، يُحدث سكينة في القلب، هذه الطمأنينة هي النقيض للضيق والقلق اللذين يميزان الأمراض النفسية.
3- السلام مع الناس أجمعين:
وهنا تتجلى رحمة الإسلام وشموليته، فقد أمر بالعدل والإحسان والبر والقسط، حتى مع المخالفين في الدين، ما لم يعتدوا أو يقاتلوا.
قال تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، هذه الآية الكريمة ترسم لنا منهجاً ربانياً للتعايش السلمي، مبنياً على البر والقسط، وليس فقط على عدم القتال.
ويقول سبحانه: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، هذه وصية جامعة، تدعو إلى طيب الكلمة، وحسن المعشر، وجميل التعامل مع كل إنسان، بغض النظر عن دينه أو لونه أو جنسه.
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث جامعٍ مانعٍ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» [رواه البخاري (10) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما]، وهذا المفهوم يتسع ليشمل كل من يتعامل معه المسلم، فالمسلم الحق لا يخرج من فمه إلا طيباً، ولا تفعل يداه إلا خيرًا.
ثالثًا: النبي صلى الله عليه وسلم تجسيد للسلام، وعنوان للرحمة
لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تجسيدًا حياً لرسالة السلام، وعنواناً للرحمة المهداة، حياته الشريفة كلها دروسٌ في ترسيخ الأمن والوئام، لم يحارب إلا دفعاً للظلم، ولم يشرع القتال إلا لرد العدوان وإعلاء كلمة الحق. وكان دائمًا يميل إلى السلم والصلح ما وجد إليه سبيلاً، مقدماً السلام على غيره متى أمكن ذلك.
تذكروا موقفه العظيم في صلح الحديبية، حين قبل شروطاً بدت قاسية ومجحفة في نظر بعض الصحابة الكرام، لكن بصيرته النبوية الثاقبة أدركت أن الصلح خيرٌ، وأنه يفتح أبواب الدعوة إلى الله سلمياً، ويزيل حواجز العداوة. وصدق الله إذ قال: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61].
وفي تعامله مع أهل الكتاب، أمر ببرهم والإحسان إليهم، ونهى عن ظلمهم والاعتداء عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم محذرًا أشد التحذير: “ألا مَن ظَلم مُعاهِدًا، أو انتَقصَهُ، أو كلَّفَهُ فوقَ طاقَتِه، أو أخَذ منهُ شيئاً بِغيرِ طِيبِ نَفس، فأنا حَجِيجُهُ يوم القيامةِ” [رواه أبو داود (3052)].
فأيُّ دينٍ يحمي حقوق غير أتباعه بهذا القدر من الشدة والوعيد؟ إنه دين السلام والعدل.