كرامات الأولياء بين الإنكار والغلو، هل نحن بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؟
1 يوليو، 2025
شبهات حول قضايا التصوف

بقلم الكاتب: محمد نجيب نبهان
من أصول العقيدة الراسخة في منهج أهل السنة والجماعة، والتي ميّزتهم عن غيرهم من الفرق، الإيمان بكرامات الأولياء، فهي جزء من العقيدة وليست مسألة فرعية أو اجتهادية. فقد أجمع أئمة الإسلام على وقوع الكرامات، ونقلوا في ذلك من الأخبار والآثار ما لا يُحصى، بل جعلوها من علامات صلاح الوليّ وقربه من الله، ولكن بشرط أن تكون ضمن الإطار الشرعي، لا وسيلة للتسلط أو الابتداع.
الكرامة في أصل معناها: أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى على يد ولي من أوليائه، تكرمة له، أو نصرة لدينه، أو تأييدًا لعبده الصالح، وهي تختلف عن المعجزة التي تكون مقرونة بدعوى النبوة. والفرق الجوهري أن الكرامة لا يصحبها ادعاء الرسالة، ولا يأتي بها الولي على سبيل التحدي.
قال تعالى في وصف أوليائه: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62-63]، وهذه الآية وضعت المعيار الوحيد للولاية: الإيمان والتقوى، لا النسب ولا اللباس ولا كثرة الأتباع. فالولي قد يكون رجلًا بسيطًا في نظر الناس، لكنه عند الله من المقربين.
وقد دلّ الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين، على وقوع الكرامات، وامتلأت كتب السِّيَر والطبقات بأخبارها، ومنها ما هو مشهور متواتر، ومنها ما هو خاص وشخصي، لكنها في مجملها تؤكد أن الله يكرم عباده الصالحين بفيض من نوره وقدرته.
وقد انقسم الناس في باب الكرامات إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: المنكرون لها
وهم من أهل البدع و الزندقة كالمعتزلة والجهمية و الوهابية النابتة، وقد أنكروها بناءً على شبهات عقلية، منها أن الخارق لا يجوز أن يقع إلا لنبي، لأن المعجزة هي الفرق بين النبي وغيره، فإن أجزنا للولي أن يأتي بخارق، التبس النبي بغيره.
لكن هذا القول فيه خلط بين نوعين مختلفين من الخوارق. فإن المعجزة تكون مع دعوى النبوة وتأييد لها، ولا تكون إلا بإذن الله، ويظهر فيها التحدي، أما الكرامة فلا تقتضي التحدي، ولا يدّعي بها الولي منصبًا، بل قد تقع له وهو لا يدري، أو يدري ويكتمها تواضعًا وخشية.
وليس هذا فحسب، بل نجد في القرآن الكريم عشرات المواضع التي تثبت الكرامات لأناس ليسوا بأنبياء، بل بعضهم من عامة الصالحين. ومن أبرز هذه القصص:
قصة الذي عنده علم من الكتاب: حين طلب نبي الله سليمان عليه السلام أن يؤتى له بعرش بلقيس قبل أن يأتوه مسلمين، فقال عفريت من الجن: ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾، لكن قال آخر: ﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [النمل: 40]، وإذا بالعرش حاضر أمام سليمان عليه السلام.
هذا الذي عنده علم من الكتاب ليس نبيًا، ومع ذلك جرت على يديه كرامة عظيمة، فيها طيٌّ للمكان وتصرُّف في المادة، لا يكون إلا بإذن الله. واختلف العلماء في هويته، فقيل إنه آصف بن برخيا كاتب سليمان، وقيل غير ذلك، لكن لا خلاف في كونه وليًّا لله.
الصنف الثاني: الغالون فيها
وهم من بعض المنتمين إلى التصوف الذين أطلقوا العنان لخيالهم وغلوّهم، فجعلوا الكرامات بابًا لكل غرابة، وذريعة لكل دجل. فكل من أتى بشيء خارق ولو كان من تلاعب الشياطين أو حيل السحرة، عدّوه وليًا وصاحب كرامة.
حتى أصبحنا نرى من يضع النار على جسده ولا يحترق، أو يشرب السم، أو يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، أو يدّعي رؤية الغيب، أو يعلم ما في نفوس العباد، ثم يقال عنه إنه من كبار الأولياء.
وقد ردّ عليهم أهل السنة بأن الكرامة لا تكون مخالفة للشرع، ولا تثبت لمن هو مخالف لأوامر الله، وأن ما يرونه قد يكون استدراجًا من الشيطان، أو سحرًا، أو تلبيسًا على الجهلة. قال ابن سيرين: “إن لم يكن ما يدعونه سحرًا، فما أدري ما هو”.
وقد حذّر الأئمة من هؤلاء، ونقل ابن الجوزي وغيره أخبارًا كثيرة عن دجاجلة لبسوا لبوس الولاية وهم أولياء شيطان، وذكروا أن بعضهم كان يظهر الكرامة لجذب الناس والمال والسمعة.
الصنف الثالث: المعتدلون من أهل السنة والجماعة
وهم الذين ساروا على طريقة السلف في الاعتدال والإنصاف، فأثبتوا الكرامة للولي بشروطها، وميّزوا بينها وبين المعجزة والسحر والشعوذة. وهؤلاء يمثلهم الأشاعرة والماتريدية والحنابلة الذين تمسكوا بمنهج أهل الحديث.
وقد بيّنوا أن الكرامة تكون من بابين: إما باب الكشف والعلوم، أو باب القدرة والتأثير.
من كرامات الكشف والمعرفة:
نداء عمر بن الخطاب لسارية بن زنيم: “يا سارية الجبل!” وهو على منبر المدينة، بينما سارية في بلاد فارس، فسمعه وانتفع بتوجيهه.
إخبار أبي بكر بأن ما في بطن امرأته أنثى.
قصة الخضر مع موسى عليه السلام، وقد كانت مليئة بالعجائب. فالخضر لم يكن نبيًا – على الراجح من أقوال أهل العلم – ومع ذلك أُوتي من العلم ما لم يُؤته موسى في بعض الأمور، وهذا علم لدنيٌّ من الله.
ففي سورة الكهف، عندما رافقه موسى عليه السلام، وقعت ثلاثة مواقف غريبة:
خرق السفينة: لأن هناك ملكًا يأخذ كل سفينة غصبًا، فأراد الخضر أن يُعِيبَها كي لا تُغتصب.
قتل الغلام: لأنه كان سيكون كافرًا شقيًا، وسيُرهق أبويه، فأراد الله أن يعوّضهما خيرًا.
بناء الجدار: لأن تحته كنزًا ليتيمين، وكان أبوهما صالحًا.
كل هذه التصرفات فيها كشف عن باطن الأمور، وإخبار عن الغيب النسبي، وهي من الكرامات.
ومن كرامات التأثير والتصرف:
إتيان عرش بلقيس في طرفة عين.
بقاء أهل الكهف نائمين ثلاثمئة سنة.
نزول الطعام على مريم عليها السلام دون سبب ظاهر.
شرب سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه للسمِّ ولم يتأثر.
وكل هذه الكرامات حصلت لأناس صالحين، ليسوا أنبياء، لكنها لم تكن وسيلة للغلو أو الخرافة، بل لحكمة ومصلحة شرعية.
هل الكرامة دليل على الفضل؟
الكرامة ليست دليلًا على الفضل المطلق، ولا تُطلب لذاتها. فقد يكون الولي مستورًا، لا يُعرف له كرامة واحدة، ومع ذلك هو من أعظم الناس عند الله. وقد تظهر الكرامة على يد رجل لمصلحة عامة أو خاصة، لكنها لا تعني أنه أفضل من غيره.
قال بعض السلف: “ربما أظهر الله الكرامة على يد عبد ضعيف، واختفى بها عن عبد قوي؛ ليعلم العبد أن الله هو الفاعل لا هو”.
بل إن بعض الصالحين كانوا يكتمون كراماتهم تواضعًا، وكانوا يرون أن دوام الطاعة والصدق في العمل أحب إليهم من أية كرامة.
هل الكرامات باقية؟
نعم، الكرامات لا تزال تقع إلى يومنا هذا، وستبقى ما دامت الولاية. فهي ليست شيئًا انتهى بزمن الصحابة، بل هي فضل من الله يُعطيه لمن يشاء. وكم من قصص في جبهات الجهاد أو في حياة الصالحين تنقلها الثقات، وتُروى بشهادات موثقة، تدل على استمرار هذا الفضل الرباني.
و بين منكر يُقصي كل غيب، وغالٍ يجعل الكرامة وسيلة للطغيان، يقف أهل السنة المتمسكون بالكتاب والسنة على الجادة الوسطى، يؤمنون بالكرامة، ويزنونها بميزان الشرع.
فليُعرف الولي بصلاحه، لا بخوارقه، وليُعرض الأمر على الكتاب والسنة، فمن وافقهما فهو من أولياء الرحمن، ومن خالفهما واتبع الهوى والدجل، فهو من أولياء الشيطان.
نسأل الله أن يجعلنا من أوليائه المتقين، وأن يُلحقنا بركب الصالحين، وأن يرزقنا الإخلاص والاستقامة، لا الغرور ولا الزيف.
والله أعلم بمن اتقى.