“طسم”: الحروف التي فاضت منها الأسرار وتجلت فيها الأنوار
1 يوليو، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في افتتاح بعض سور القرآن الكريم، تظهر كلمات قصيرة، مختزلة، مبهمة في ظاهرها، لكنها عظيمة في باطنها، تهزّ القلوب وتدعو العقول للتدبر والتواضع. من هذه الكلمات النورانية: “طسم”. ثلاثة أحرف فقط، تقف أمامها البشرية منذ أربعة عشر قرنًا في خشوعٍ لم يتبدد، وفي تساؤلٍ لم يجد له جوابًا قاطعًا، لكنه مع ذلك يفيض باليقين والإيمان. “طسم” ليست مجرد تركيب لغوي عابر، وإنما من الحروف التي اختص الله بها كتابه العزيز، لتكون بابًا من أبواب العجز البشري أمام الإعجاز الإلهي.
“طسم” وردت مرتين فقط في القرآن الكريم، في افتتاح سورتين من أعمق سور القصص القرآني: الشعراء والقصص. السورتان تتناولان مراحل شديدة في صراع الحق والباطل، وتتمحوران حول شخصية نبي الله موسى عليه السلام ومواجهة فرعون. ولم يكن ورود “طسم” فيهما من قبيل الصدفة، بل كأن الله جل جلاله أراد أن يفتتح مشهد المواجهة الكبرى بين الوحي والطغيان بتوقيعٍ غامض، لا يُفكك إلا بمن آمن به. هذه الحروف المقطعة التي تبدأ بها بعض السور تميزت بكونها خارج نطاق الفهم التقليدي، لكنها تُحرك في النفس قدرًا كبيرًا من التهيب والرهبة والسكينة. فهي إعلان من الله عز وجل بأن القادم كلامه، وبأن من لم يؤمن لن يدرك، ومن لم يُخضع قلبه لن يشعر.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الحروف هي من الأسرار الإلهية التي استأثر الله بعلمها. فهي ليست كلمات، بل رموز بين الرب وعباده، وربما هي مفاتيح من مفاتيح الغيب، لا يُدرك سرها عقل، ولا يشرحها منطق. ومع ذلك، حاول بعض العلماء أن يقفوا على إشارات في هذه الحروف. فقيل إن الطاء ترمز إلى الطهر والطاعة، والسين إلى السر أو السكينة، والميم إلى الملك أو الماء. وقد تكون هذه إشارات تربط بين الحروف وما ورد بعدها من وقائع ومواقف، لكنها تظل اجتهادات خاشعة وليست تأويلات قاطعة. البعض من أهل التصوف والتزكية رأى في “طسم” رموزًا للأنوار المحمدية، أو تجليات سر القدر، أو مفاتيح لأبواب من الغيب لا تُفتح إلا بالتسليم.
ما يلفت النظر في “طسم” أنها لا تأتي إلا وتسبقها صمتٌ عميق في النفس، ويليها وحيٌ جليل في السورة. فكلما نُطقت “طسم”، كأنما تدعو الإنسان أن يتهيأ لسماع نبأ عظيم، أو شهادة تاريخية تحكي عن انتصار المستضعفين، وعن رحمة الله التي تسبق جبروت الطغاة. ففي الشعراء، تأتي “طسم” قبل عرض دعوة موسى إلى فرعون، وسلسلة من قصص الأنبياء مع أقوامهم، حتى تنتهي بهلاك الظالمين. وفي القصص، تأتي “طسم” قبل ميلاد موسى في بيت العدو، حيث تبدأ أعظم قصة للبشرية في كيف يصنع الله النصر في قلب الخطر. ويبدو أن “طسم” هنا لا تُنذر فقط، بل تُبشر أيضًا، وتقول: إن الله حاضر، وإن الوحي لا يُهزم، وإن الظلم وإن طال أمده فهو إلى زوال.
“طسم” ليست كلمة تُفكك بالمعاجم، بل تجربة إيمانية تُذاق، وتوقيع إلهي لا يُقرأ بل يُبصر بالقلب. إنها تعلمنا أن في القرآن ما يُفهم وما يُؤمن به دون فهم، وأن التواضع أمام النص المقدس هو من أعظم أبواب التدبر. فهي تعلم القارئ أن الله وحده يعلم مراده، وأن أهل اليقين يقرؤونها فيخشعون، لا يفسرونها فيتطاولون. حين يقول الله “طسم”، كأنما يقول للإنسان: مهما بلغت من العلم، فإن فوق علمك علمًا، وفوق فهمك نورًا، وفوق لسانك أسرارًا لا ينطق بها إلا الوحي.
“طسم” تعلمنا أن الإيمان ليس دائمًا ما نفهمه، بل ما نخشع له. ليست علمًا يُحاط به، بل يقينًا يُسكن في الصدر. وحين نرددها، كأننا نقول: ربنا آمنا بما أنزلت، وأسلمنا لك، وصدقنا أن هذا القرآن ليس كلام بشر، بل كلامك وحدك. “طسم” آية قائمة بذاتها، لا تُفسر بل تُوقر، حرف من نور، وسر من أسرار الله، لا يملكه أحد، لكنه يمنح الطمأنينة لكل من قرأه بقلب سليم.