خطبةُ الجمعةِ القادمةِ ( السلامُ رسالةُ الإسلامِ ) للشيخ ياسر عبدالبديع

خطبةُ الجمعةِ القادمةِ ( السلامُ رسالةُ الإسلامِ )
للشيخ : ياسر عبدالبديع

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
ياسر عبد البديع. السلام رسالة الإسلام

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

السَّلَامُ رِسَالَةُ الْإِسْلَامِ

العُنْصُرُ الْأَوَّل : شُمُولِيَّة السَّلَامُ فِي الْإِسْلَامِ

أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ: أَنَّ شِعَارِ الْإِسْلَامِ هُوَ السَّلَامُ بِمَفْهُومِه الشَّامِل الْمُتَكَامِل فَلَيْسَ السَّلَامُ فِي الْإِسْلَامِ خَاصّ بِالْمَفْهُوم الْقَاصِر لَدَى الْبَعْضِ مِنَّا حَيْثُ يَعْتَقِدُ أَنَّ السَّلَامَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ فَتِلْك نِهَايَة الْمَرْحَلَة لَا بِدَايَتِهَا

وَالْيَوْم نَقِفَ مَعَ شُمُولِيَّة السَّلَامُ فِي الْإِسْلَامِ لِيَعْي الْعَالِمُ كُلُّهُ إنْ الْإِسْلَامِ هُوَ الدَّيْنُ الْوَحِيد عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الَّذِي جَعَلَ السَّلَامَ شِعَارُه وَدِثَارِه، فَالْإِسْلَامُ لَا يَجْتَزِئُ نَوْعًا مِنْ السَّلَامِ وَيَتْرُك أَنْوَاعًا أُخْرَى، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سَلَامٍ يَعُمّ مَنَاحِي الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّة وَالأُسَرِيَّة وَالِاجْتِمَاعِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة وَالسِّيَاسِيَّة، بَلْ يَعُدُّوا ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى السَّلَامِ التَّامُّ الشَّامِلُ مَع الْكَائِنَات الْمُحِيطَةِ بِهِ مِنْ حَيَوَانَاتِ وَأَطْيَار وَأَشْجَار وَسُهُول وَجِبَال وَبِحَارٍ وَأَنْهَارٍ أَنَّهَا النَّظْرَة الشَّامِلَة الْمُتَكَامِلَة فَاعْيَرَوْنِي الْقُلُوبُ وَالْإِسْمَاع …

أَوَّلًا: الْإِسْلَامَ دِينُ السَّلَام:

مَعَاشِر الْمُوَحِّدِين: الْإِسْلَام شَرِيعَة السَّلَامُ، وَاسْمُ الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ صَمِيمِ السَّلَام. وَالْمُؤْمِنُون بِهَذَا الدَّيْنِ لَمْ يَجِدُوا لِأَنْفُسِهِمْ اسْمًا أَفْضَلُ مِنْ أَنَّ يَكُونُوا الْمُسْلِمِين: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قِبَلِ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الْحَجّ: 78].

وَتَحِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِيمَا بَيْنَهُمْ: السَّلَام، وَخِتَام الصَّلَاةِ عِنْدَهُمْ: سَلَامٌ عَلَى الْيَمِينِ وَسَلَامٌ عَلَى الْيَسَارِ، كَأَنَّهُمْ يَبْدَؤُون أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهَا بِالسَّلَامِ بَعْدَ أَنْ فَارَقُوهَا بِخَوَاطِرِهِمْ لَحَظَات، انْصَرَفُوا فِيهَا لِمُنَاجَاة الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، وَقَدْ نَزَلَ الْقُرْانُ فِي لَيْلَةٍ كُلِّهَا سَلَام تَحُفُّ بِهِ مَلَائِكَةُ السَّلَام: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [الْقَدْر: 4 ، 5].

وَأَفْضَلُ مَا يُلْقَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَةٌ تَحِيَّة السَّلَام: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾ [الأَحْزَاب: 44].

وَخَيْرَ مَا يُسْتَقْبَلُ الْمَلَائِكَةِ بِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ السَّلَامُ: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرَّعْد: 24].

وَالْجَنَّة نَفْسِهَا اسْمُهَا دَارِ السَّلَامِ: ﴿ لَهُمْ دَارٌ السَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الْأَنْعَام: 127].

﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يُونُسَ: 25].

وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ السَّلَامِ: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمِلْكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ﴾ [الْحَشْر: 23].

ثَانِيًا: السَّلَامِ مَعَ السَّلَامِ جَلّ جَلَالُه:

اعْلَمُوا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ: أَنْ أَوَّلَ مَجَالٍ مِنَ مَجَالَات السَّلَامُ أَوَّلَ حَلْقَةً مِنْ حَلَقَاته إنْ تَحَقَّقُوا السَّلَامِ مَعَ السَّلَامِ جَلَّ جَلَالُهُ – وَيَكُونُ ذَلِكَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَالِانْتِهَاءُ عَنْ نَهْيُه ….

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿ الَّذِينَ امَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الْأَنْعَام: 82].

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ ﴾ [قُرَيْشٍ: 3 ، 4].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ امِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النَّحْل: 112].

قَوْلُهُ: ﴿ كَانَتْ امِنَةً مُطْمَئِنَّةً ﴾ أَيْ: كَانَتْ تَعِيشُ فِي أَمَانٍ لَا يَشُوبُهُ خَوْفَ، وَفِي سُكُون وَاطْمِئْنَان لَا يُخَالِطْهُمَا فَزَعٍ أَوْ انْزِعَاج.
وَاعْلَمُوا مَعَاشِر الْأَحْبَاب: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُرُوق عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْب الرَّبَّانِيَّة الَّتِي تَزَلْزَل وَتَدْمر وَيَعِيشُ الْمَرْءُ فِيهَا فِي حَرْبِ نَفْسِيَّة رُوحِيَّة يُصَارِع فِي الضَّنَك وَالشَّقَاء وَالْعَنَاء قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا أَنَّ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 278، 279].

يَقُولُ الشَّيْخُ الشَّعْرَاوِيُّ: أَمَّا حَرْبُ اللَّهِ فَلَا نَقُولُ فِيهَا إلَّا قَوْلَ اللَّهِ: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ أَلاَ هُو ﴾ [الْمُدَّثِّر: 31]، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَحْتَاطَ لَهَا. وَأَمَّا حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ هِيَ الْأَمْرُ الظَّاهِرُ. كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُجَرَّدُ عَلَى الْمُرَابَين تَجْرِيدُهُ هَائِلَة مِنْ جُنُودِهِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ، وَحَرْب رَسُولُ اللَّهِ جُنُودِهَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِرَسُولِه، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا حَرْبًا عَلَى كُلِّ ظَاهِرِهِ مِنْ ظَوَاهِرِ الْفَسَادِ فِي الْكَوْنِ؛ لِيُطَهَرُوا حَيَاتَهُمْ مِنْ دَنَسِ الرِّبَا.

وَاَلَّذِين يُحَابُون أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَظْلِمُونَهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ السَّلَامِ الْإِلَهِيّ وَأَعْلَنُوا الْحَرْبِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَنْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْب”

الَّذِينَ يُحَارِبُونَ شَرَعَ اللَّهُ وَيَدْعُونَ إلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ يُقْتَلُون الأَبْرِيَاء وَيَظْلِمُون الدُّعَاة وَالضُّعَفَاء لَيْسَ لَهُمْ سَلَّمَ وَلَا سَلَامٌ مَعَ السَّلَامِ جَلَّ جَلَالُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافِ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الْمَائِدَة: 33].

ثَالِثًا: السَّلَامِ مَعَ النَّفْس:

مَعَاشِر الْمُوَحِّدِين: وَالسَّلَام النَّفْسِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّخْلِيَةِ عَمَّا يُكَدِّر حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، وَيَجْعَلَهُ فِي حَرْبِ دَاخِلِيه لَابُدَّ أَنْ تَتَخَلَّى عَنْ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَإِلَّا سَتَعْيش فِي هَمِّ وَكَرَب وَمُنَازَعَات دَاخِلِيَّةٌ تُؤَدَّى بِك إلَى الْأَمْرَاض النَّفْسِيَّة….

وَعَلِمُوا عِبَادِ اللَّهِ: أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ السَّلَام الْخَارِجِيّ وَالْعَالَمِيّ إلَّا بِالسَّلَامِ الدَّاخِلِيّ يَجِدْ الْمُسْلِمُ فِيهِ السَّكِينَة وَالِاطْمِئْنَان وَرَاحَة الْبَال.

فَأَيّ عَنَاء وَأَيّ شَقَاء يَعِيشُهُ الإِنْسَانُ الَّذِي فَرَّقَ هُمُومِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ وَجَعَلْتُه مُشْتَتا فَلَا يُفِيقُ إلَّا فِي مُعَسْكَرٍ الْأَمْوَات وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّافِعِيَّ حِينَ قَالَ:

لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ
أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمٍّ الْعَدَاوَاتِ
إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ
لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضَه
كَمَا أَنَّ قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ دَاءٌ وَدَوَاءٌ النَّاس قُرْبِهِمْ
وَفِي اعْتِزَالِهِمْ قَطْعُ الْمَوَدَّات

مَنْ يَمْتَلِكُ السَّلَام الدَّاخِلِيّ كَأَنَّه يَمْتَلِك الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، وَلِمَ لَا! وَقَدْ تُصَارِع الْمُلُوك عَلَيْهِ وَعَلَى رَاحَة الْبَال وَلَمْ يَجِدُوهُمْا، بَلْ إنْ أَغْنَى أَهْلِ الأَرْضِ يَتَمَنَّى أَنْ يَعِيشَ مُرْتَاح الْبَال حَتَّى وَلَوْ أَنْفَقَ مِلْكَهُ كُلُّه، السَّلَام الدَّاخِلِيّ لَيْسَ لِأَيِّ أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِثْلُهُ مِثْلُ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا لِسُلَيْم الصَّدْرِ. وَلَا يَتَحَقَّقُ السَّلَامِ الْعَالَمِيِّ إلَّا مِنْ خِلَالِ السَّلَام الدَّاخِلِيّ، بَلْ إنْ السَّلَام الدَّاخِلِيّ مَطْلَب شَرْعِيٍّ أَمْرٌ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إلَّا مِنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشُّعَرَاء:88-89].

فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الْمَصْدَر الرَّئِيس لِتِلْك السَّعَادَة المَنْشُودَة وَ قَدْ قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ فِي غَيْرِ مَا ايَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ مِنْ عَمَلِ صَالِحًا مِنْ ذِكْرِ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النَّحْل: 97].

وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْغَيْرَةَ وَالْحِقْد وَسُوءُ الظَّنِّ وَعَدَمِ الرِّضَى وَجِلْد الذَّاتِ مِنْ الْافَاتِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَحْجُبُ نُور السَّلَام وَتُمْنَع دِفْء السَّكِينَة، أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي تَتِمُّزق حَسَرَاتُ عَلَى الْأَمْس نَفْس سَلْبِيَّة وَهُنَاك فِيهِ مِنْ النَّاسِ تَتَفَنن فِي تَجْدِيدِ الْأَحْزَان وَتَحْرُم نَفْسَهَا مِنْ الْحَيَاةِ الْامِنَة الْمُسْتَقِرّ.

(أَنْ الِاحْتِرَاق النَّفْسِيِّ مِنَ أَبْرَز أَسْبَاب غِيَاب السَّلَامُ فِي النُّفُوسِ وَتَحْرُم الْعَقْلِ مِنْ صُقِل قُدْرَاتِهَا وَالتَّبَصُّر بِمَسَالِكِهَا. مِنْ أَسْوَإِ مَا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنَّهُ بِسُوء ظَنِّه يَرْسُم أَوْهَامًا وَيُنْسَج مَخَاوِف لَا أَسَاسَ لَهَا وَمَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ يَبْتَعِدُ عَنْ الْعَلَاقَات الدَّافِئَة مَعَ الْاخَرِينَ وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ التَّوَاصُلِ الصِّحِّيّ مَعَ الْاخَرِينَ وَهَذِه الْافَات النَّفْسِيَّة نَاتِجَة كَثِيرٍ مِنْهَا مِنْ عُيُوبِ فِي نَمَطٍ التَّفْكِير.

وَتَأَمَّلُوا عِبَادِ اللَّهِ كَيْفَ عَاش الْأَتْقِيَاء الِانْقِيَاء كَيْفَ عَاشُوا فِي سَكِينَةٍ وَسَلَامٌ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: نَحْنُ فِي عَيْشٍ لَوْ عَلِمَ بِهِ الْمُلُوكُ لَجَالدونا عَلَيْهِ بِالسُّيُوف.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنَّهُ لِيَمُرّ بِالْقَلْب حَال، أَقُولُ: إنَّ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ حَالِنَا أَنَّهُمْ فِي عَيْشٍ طِيبٌ.

قَالَ أَيْضًا: أَنَّهُ لِيَمُرّ بِالْقَلْب حَالَات يَرْقُصُ طَرَبًا، مِنْ الْفَرَحِ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالإِنْس بِهِ.

رَابِعًا: السَّلَامِ مَعَ الْمُؤْمِنِين:

وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ مَجَالَاتِ السَّلَامُ فِي الْإِسْلَامِ السَّلَامُ مَعَ إخْوَانِكَ الْمُسْلِمِين الْمُوَحِّدِين وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالمُسَالَمَة وَبِكَفّ الْأَذَى فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “الْمُسْلِمُ مِنْ سَلَمٍ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ”

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: “إنْ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ سَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدُهُ”
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “تَدْرُونَ مَنْ الْمُسْلِمُ؟”، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “مَنْ سَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ”، قَالَ : “تَدْرُونَ مَنْ الْمُؤْمِنُ ؟”، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “مَنْ أَمَّنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنِبْه”
الَّذِي يُؤْذِي جَارَهُ و يَقِفَ فِي طَرِيقِهِ لَمْ يُحَقِّقْ السَّلَامِ مَعَ جَارِهِ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “وَاَللَّهِ لَا يُؤْمَنُ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمَنُ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمَنُ!”، قِيلَ: مِنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ!”

العُنْصُرُ الثَّانِي : السَّلَام مَنْهَج نَبَوِيّ

وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَنْهَج النَّبَوِيِّ فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ بَيْنَ أَفْرَادِ النَّاسِ تَحِيَّةِ الإِسْلَامِ
وَهَذِهِ التَّحِيَّة الْمُتَمَيِّزَةَ فِي أَلْفَاظِهَا – فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ اسْمِ اللَّهِ ” السَّلَامُ ” كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ – الْعَمِيقَة فِي مَدْلُولَاتِهَا – بِمَا تَحْمِلُهُ مِنْ مَعَانِي الرَّحْمَةِ وَالْمَوَدَّةِ – الْعَظِيمَةِ فِي تَأْثِيرِهَا – فَأَثَرِهَا وَاضِحٌ فِي تَوْثِيقِ الْعَلَاقَات وَصَفَاء الْقُلُوب – هِيَ خَيْرٌ بُدَيْلٍ عَنْ تَحَايا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَا عَجَبَ إِذًا إِنْ يَحْسُدُنَا اليَهُودُ عَلَيهَا ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : ( مَا حَسَدَكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدُوكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ ) رَوَاهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ .
وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْقُرْانِيَّةُ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى فَضْلِ هَذِهِ التَّحِيَّةَ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزْوِجل كَوْنُهَا تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } ( يُونُسَ : 10 ) ، وَفِي السَّنَةِ ذَكَر لِلْاجِر الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ فِي مَجْلِسِ فَقَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ، فَقَالَ لَهُ : ( عَشْرُ حَسَنَاتٍ ) ، ثُمَّ مَرَّ اخِرَ فَقَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ : ( عِشْرُونَ حَسَنَةً ) ، ثُمَّ مَرَّ ثَالِثٍ فَقَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ لَهُ : ( ثَلَاثُونَ حَسَنَةً ) ،رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَةٌ .

وَكَذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اثَرَ هَذِهِ التَّحِيَّةَ فِي تَقْوِيَةِ الرَّوَابِطِ الأَخَوِيَّة فَقَالَ : ( أَوَّلًا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَوْضَح أَنَّهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَقَالَ : ( اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَجَعَلَهَا النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْأُخُوَّةِ فَقَالَ : ( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ – وَذَكَرَ مِنْهَا – إذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَنَهَى عَنْ تَرْكِهَا وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى بُخْلٍ صَاحِبِهَا فَقَالَ : ( أَبْخَلُ النَّاسِ مِنْ بُخْلٍ بِالسَّلَام ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَجَعَلَهَا عَلَامَة الْمُصَالَحَة وَعَوْد الْوُدِّ فَقَالَ : ( لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ لَيَالٍ ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ ) مُتَّفَق عَلَيْه .

وَبِالْعَوْدِه إلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ، نَجِدُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرَ النَّاسِ إفْشَاء لِلسَّلَامِ ، دُونَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، وَصَدِيق وَغَرِيب ، وَرَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، فَهَا هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمُرُّ عَلَى قَوْمٍ لَا يَعْرِفُهُمْ وَلَا تَرْبِطُهُ بِهِمْ عَلَاقَةٌ ، فِي مَكَان يُقَالُ لَهُ ” الرَّوْحَاء ” فَيَبْتَدِرُهم بِالسَّلَامِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَأَشَارَ إلَى فَضْلِ ذَلِكَ عِنْدَمَا سُئِلَ : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ فَقَالَ : ( إِنَّ تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأَ السَّلَامَ ، عَلَى مَنْ عُرِفَتْ وَمَنْ لَمْ تُعْرَفْ ) مُتَّفَق عَلَيْهِ .

وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ الْغِلْمَانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ، كَمَا حَكَى عَنْهُ خَادِمِهِ أَنَسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَيَمُرّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ النِّسَاءِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَعِظَهُنّ – كَمَا حَدَّثْتُ بِذَلِكَ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – .

وَفِي كَيْفِيَّةِ سَلَامُهُ عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ يَقُولُ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : ” ..يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا ، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ ” رَوَاه مُسْلِمٍ .

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَصْحَابِهِ جُمْلَةً مِنْ الْادَابِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ التَّحِيَّة ، مِنْهَا : أَنْ الرَّاكِب يُسَلِّمُ عَلَى الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَيُرْشِد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْإِكْثَارِ مِنْ السَّلَامِ فَيَقُولُ : ( إذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٍ أَوْ حَجَرٍ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – السَّلَامُ عِنْدَ الْمَجِيءِ إلَى الْقَوْمِ ، وَالسَّلَامُ عِنْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ ، كَمَا قَالَ : ( إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ ، ثُمَّ إذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ ؛ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْاخِرَةِ ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، أَضَافَهُ إلَى هُدًى الْقُرْانِ فِي الْحَثِّ عَلَى رَدِّ التَّحِيَّة بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ مِثْلَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } (النِّسَاء86:) .
وَلَا نَنْسَى مَأْفُعله النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَحْقِيقِ لِلسَّلَام وَالْمَحَبَّة فِي مُجْتَمَعٍ الْمَدِينَةِ عِنْدَمَا هَاجَرَ النَّبِيُّ مِنْ مَكَّةَ لِلْمَدِينَة
لَقَدْ كَانَتْ عَمَلِيَّة صِنَاعَة مُجْتَمَع مُتَمَاسِك، يَعْرِفُ طَرِيقَهُ نَحْوَ الرِّيَادَةِ الْأَخْلَاقِيَّة وَالْمَادِّيَّة، الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَقُود الْعَالِم، وَيُخْرِجُهُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ – عَمَلِيَّة بِغَايَة الصُّعُوبَة، فِي ظِلِّ الظُّرُوف الْمُعَقَّدَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحِياها الْمُجْتَمَعَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي شِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَبَان بَعَثَهُ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَكْلِيفُه بِتَبْلِيغ رِسَالَتِه السَّمَاوِيَّةِ، لَا سِيَّمَا أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، نَائِيًا بِالضُّعَفَاء مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقَهْرِ وَالتَّنْكِيل، رَاغِبًا فِي رِضْوَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَبْلِيغ رِسَالَتِه؛ فَكَانَ مِنْ أَهَمِّ أَعْمَالِهِ – صَلَوَاتُ اللَّهِ وَتَسْلِيمُاته عَلَيْهِ – بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَيُشِير بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ اخَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَة.

وَالْأُخُوَّةُ – فِي مَعْنَاهَا الْعَامِّ -: هِيَ دَرَجَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْقَرَابَة وَالدَّم، تُجْعَل لِلْمَرْءِ عَلَى أَخِيهِ حُقُوقًا لَا مُتَنَاهِيَة، وَوَاجِبَات لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَلَكِنْ الْإِخْوَةِ فِي الْإِسْلَامِ جَاءَتْ بِمَفَاهِيم مُغَايِرَة وَغَيْر تَقْلِيدِيَّة، فَصَارَتْ الْإِخْوَة مَفْهُومًا عَظِيمًا، وَعَلَاقَات وَاسِعَةٌ، مُتَحَرِّرَةٍ مِنْ رِبَاطٍ النَّسَب وَالدَّم، مَوْثُوقَة بِرِبَاط أَهَمُّ وَأَعْظَمُ، وَهُوَ الرِّبَاطُ الْإِلَهِيّ، غَايَتُهَا رِضَاه – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – وَبُلُوغ الْجَنَّة، فَالْإِخْوَة وَالْمَحَبَّة وَالِارْتِبَاط لِأَجْلِه – سُبْحَانَه – جُعِلَتْ الْغَنِيِّ فِي الْإِسْلَامِ أَخًا لِلْفَقِير دُون اسْتِكْبَار، وَالْأَبْيَض أَخًا لِلْأَسْوَد دُونَ تَمْيِيزٍ، وَالْحُرّ أَخًا لِلْمُسْتَعِبُد دُونَ فَضْلِ، وَوَثِقَتْ وَثَاق الْإِخْوَة بِأَعْظَم الْمَوَاثِيق، وَهُو مِيثَاق الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسَلِّمَه)).

وَلَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ:

﴿ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ ﴾ [الْحُجُرَات: 10]، وَالْإِخْوَة الْخَالِصَة لِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، تُوجِب لِلْإِخْوَة الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ فِي الْحَيَاةِ الْاخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَنَعُوهَا بِأَخْلَاقِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ قَالَ: ((سَبْعَةَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةٍ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهُ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))؛ مُتَّفَق عَلَيْه.

وَالْمَحَبَّة فِي اللَّهِ دَرَجَةً مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْوَة الْإِسْلَامِيَّةِ، الَّتِي تُوجِبُ رِضَا اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((حَوْلَ الْعَرْشِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَلَيْهَا قَوْمٌ لِبَاسُهُمْ نُورٌ، وَوُجُوهُهُمْ نُورٌ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ))، قَالُوا: صِفْهُمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ((الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي اللَّهِ، وَالْمُتَزَاوِرُونَ فِي اللَّهِ))؛ رَوَاهُ مُسْلِم.

وَلَقَدْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ رِجَال ضَرَبُوا أَجَلُّ وَأَعْظَمُ الْأَمْثِلَةِ فِي تَوْطِيدِ الْأَحَاسِيس وَالْمَشَاعِر، وَجَعَلَهَا تَرْتَقِيَ مِنْ صُورَتُهَا الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ إلَى كَافَّةِ صُوَرِهَا الْمَادِّيَّةِ، الَّتِي وَطَدَت الْعَلَاقَاتُ بِشَكْل يُمْكِنُ قِيَاسُهُ، وَأَلَّفْت بَيْنَ الْقُلُوبِ وَصَنَعَتْ الِامْتِزَاج وَالأَنْصَهار التَّامُّ بَيْنَ الْجَمِيعِ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، بَلْ وَالْمُسْلِمِينَ الْوَافِدِين مِنْ شَتَّى الرُّبُوع وَالْإِقْطَار، وَالْخُضُوع الْكَامِل لِأَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَوَاهِيه؛ لِيَنْطَلِق بِهِمْ نَحْوَ أَفَاق الْمَجْد، الَّتِي لَا تَحْدُها إلَّا الْجَنَّةُ، فَالْإِخْوَة قِيمَةً مِنْ قِيَمٍ التَّمْكِين وَالنَّصْر لِرِسَالَة الْإِسْلَام، وَنَمُوذَج لِمُجْتَمَع أَخْلَاقِيّ مُتَمَاسِك مُتَعَاوِن، مُتَرَابِط بِرِبَاط أَقْوَى مِنْ رِبَاطٍ الدَّم، يَسْتَوْعِب التَّعَدُّدِيَّة، وَيُجْمَعُ الثَّقَافَات، فِي عَقْدِ لَا يَنْقَطِعُ، وَيَرُوج لِدَيْن أُسِّس لِقَوَاعِد أَخْلَاقِيَّة، لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ يَتَصَوَّرُهَا، فِي تَلَاحُم جَعَل الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ مُجْتَمِعًا مُتَوَهجا بِكُلِّ قِيمَةٍ، وَبِكُلّ فَضِيلَة أَخْلَاقِيَّة، فَدَعَا النَّاسَ لِيُدْخَلُوا فِي دَيْنٍ اللَّهِ أَفْوَاجًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ يَنَالُوا دَرَجَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَحَبَّة فِي اللَّهِ، فَلَقَدْ أَلْفِ اللَّهِ بَيْنَ هَذِهِ الْقُلُوبَ، وَوَحْدهم نَحْوُ رِضَاه، وَوَفِّقْهُمْ لِمَا فِيهِ النَّصْر لِدِينِه الْحَقِّ، فَقَالَ – تَعَالَى -: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الْأَنْفَال: 63].

* أَيُّهَا الْأَحِبَّة الْكِرَام: وَسَلَام الْإِسْلَامِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ؛ فَدَعَانَا الْإِسْلَامِ إلَى الصُّلْحِ وَالْمُسَالَمَة إذَا جَنَحَ الْعَدُوّ لِذَلِكَ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ [الْأَنْفَال: 61]؛ أَيْ: إنْ مَالُوا إلَى الْمُسَالَمَة وَالْمُصَالَحَة وَالْمُهَادَنَة، فَمَلّ إلَى ذَلِكَ، وَأَقْبَلُه مِنْهُمْ؛ رَغْبَةً فِي السَّلَمِ وَالْمُسَالَمَة.

بَلْ وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ أُمِرْنَا اللَّهُ أَنَّ اسْتَجَار بِنَا مُشْرِكٌ كَافِرٌ إنْ نُجِيرُه وَنَامنه؛ فَقَالَ: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ [التَّوْبَة: 6].

وَاعْتَبَر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عِبَادَةً نَتَعَبَّدْ بِهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَرُوِيَ عَنْهُ: ((مِنْ أَذًى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمِنْ كُنْتُ خَصْمَهُ، خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))؛ [رَوَاهُ الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِ حَسَنٌ].

وَعَنْهُ أَيْضًا: ((مِنْ أَذًى ذِمِّيًّا فَقَدْ اذَانِي، وَمَنْ اذَانِي فَقَدْ اذَى اللَّهَ))؛ [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَن].

وَيَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ ظُلْمِ مُعَاهَدًا أَوْ انْتَقَصَهُ حَقًّا، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ فَإِنَّا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))؛ [رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْبَيْهَقِيّ].
وَدِمَاؤُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ مَعْصُومَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتْلِهِمْ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ قَتْلِ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنْ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا))؛ [رَوَاه الْبُخَارِيُّ].

وَقَدْ لَخَّصَ الْقُرْانِ الْأَمْرُ فِي ايَةِ وَاحِدَةً قَائِلًا: ﴿ لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدَّيْنِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ أَنْ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الْمُمْتَحِنَة: 8].

* وَقَدْ سَارَ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا النَّهْجِ، فَلَمْ يَكُنْ نَبِيِّنَا يَدْعُو إلَى الْحَرْبِ، وَلَا إلَى الْمُخَاصَمَةِ، وَالتَّنَازُع، وَلَا إلَى التَّشَاجُرِ، بَلْ يَدْعُو إلَى السَّلَامِ، وَيَهْدِي النَّاسِ إلَيْهِ وَيَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مِنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الْمَائِدَةِ: 15، 16].

وَإِنْ مِنْ اسْتَقْرَأ سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدَ دَعْوَتِهِ إِلَى السِّلْمِ وَالسَّلَام وَالِاحْتِكَام إلَيْهِمَا ظَاهِرُه جَلِيلَةٌ فِي حَيَاتِهِ، قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا، فَقَدْ كَانَ مَعَ أَوْلَى سِنِي عُمْرَة يَسْعَى فِي إحْلَالِ السَّلَام بِمُجْتَمَعِه؛ بِالْمُشَارَكَةِ فِي فَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَنُصْرَةُ الْمَظْلُومِ؛ فَشَارَك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَلِفِ الْفُضُولِ، وَقَالَ: ((لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنْ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ ادَّعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت))؛ [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى].

* وَفِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا فَأَوَّلُ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَنَّهُ عَقْدُ مِيثَاق التَّحَالُف الْإِسْلَامِيّ؛ أَيْ: عَقْدُ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ (الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) أَوَّلًا، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ، وَبِذَلِك اسْتَطَاع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْنِيَ مُجْتَمِعًا فِي الْمَدِينَةِ يُسَوِّدُه الْأَمْن وَالسَّلَامُ.

* وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَوَخَّى النَّبِيّ لِلتِّعَايِش السُّلَمِيُّ، وَالسَّعْي إلَيْهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مُمْكِنَةٍ مَا دَامَ الْخَصْمِ لَا يُرِيدُ الْعُدْوَان – تِلْكَ الْوَثِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي وَقْعِهَا الرَّسُولُ الْأَكْرَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّ فِيهَا مَوَادّ تَدُلُّ عَلَى مَدَى اهْتِمَامِ الإِسْلَامِ بِقَضِيَّة السَّلَام، وَالتَّعَايش السُّلَمِيُّ، وَمَدَى سَعْيِه لِإِقْرَارِهِ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ الرَّسُولُ الْأَكْرَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ وَثِيقَةً الصُّلْحِ بَيِّنَةٌ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ، دَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: ((اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنْ اُكْتُبْ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَكَتَبَهَا، ثُمَّ قَالَ: اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ شَهِدَتْ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُقَاتِلْك، وَلَكِنِ اكْتُبْ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِاللَّهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنّ النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً وَإِنَّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ، وَأَنَّهُ مِنْ أَحَبِّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ)).

اُنْظُرْ كَيْفَ رَضِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَذْف لَقَّبَه تَوَخَّيَا لِلسَّلَام، وَطَلَبًا لِلصُّلْح، وَانْظُرْ كَمْ بَلَغَتْ مُرُونَة الْإِسْلَامِ حَتَّى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ فِي عَهْدِهِ أَنْ يُعِيدَ الْهَارِبُ مِنْ صُفُوفِ الْكُفَّارِ، فِي حِينِ الْتَزَم بِإِلَّا يُعِيدُوا إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَرَبَ إلَى قُرَيْشٍ، وَهُوَ غَايَةُ فِي التَّنَازُل بِهَدَف إقْرَار السَّلَام.

وَالْعَجِيبُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِهَذَا الْبَنْد مِنْ الْوَثِيقَةِ فِي نَفْسِ الْمَجْلِسِ؛ تَدُلُّيلا عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِ وَالْتِزَامُه بِمَا كَتَبَ، وَحِرْصِهِ عَلَى السَّلَامِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ يَكْتُبُ هَذَا الْكِتَابِ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ بْنِ سُهَيْلٍ بْنِ عَمْرٍو، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: ((يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللَّهِ، وَأَنَا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ))؛ [سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ].

وَالتَّحَلِّي بِالسَّلَام وَالْمَحَبَّة وَالْعَفْوُ لَا يَعْنِي الضَّعْف
فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَيَّ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلِّ خُيِّرَ،
كَمَا أَيْضًا لَا يَعْنِي أَنَّ اُسْكُتْ عَنْ حَقِّي أَوْ ضَيَاعِ مَالِي كَمَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِي السُّنَنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَيْثُ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَرَأَيْتَ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟” فَأَجَاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ”، ثُمَّ قَالَ: “فَإِنْ قَاتِلُكَ؟” قَالَ: “قَاتِلْهُ”، قَالَ: “فَإِنْ قَتَلَنِي؟” قَالَ: “فَأَنْتَ شَهِيدٌ”، قَالَ: “فَإِنْ قَتَلْتَهُ؟” قَالَ: “هُوَ فِي النَّارِ”.
كَمَا لَا يَعْنِي مَفْهُومَ السَّلَام وَالْعَفْو وَالْمَحَبَّة أَنْ اُسْكُتْ إذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمِ اللَّهِ أَوْ تَمَّ الِاعْتِدَاءُ عَلَى ضَعِيفٍ أَوْ مِسْكِينٌ تَقُول السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
– مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلِمَةٍ ظَلَمَهَا قَطُّ مَا لَمْ تُنْتَهَكْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ شَيْءٌ كَانَ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ غَضَبًا وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا

كَمَا أَنَّ الْقُرْانَ أَوْصَى بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَلَا يَعْنِي السَّلَامَ وَالْحِلْم أَنْ نَسْكُتَ عَنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ قَالَ تَعَالَى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وَأَيّ اعْتِدَاءٍ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ لَنَا الْقُرْانُ فَقَالَ ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَاسَّتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةِ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) مِنْ هُنَا لَا بُدَّ أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ السَّلَامِ الَّذِي وَضَّحَهُ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الدِّفَاعِ عَنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَعَنْ النَّفْس

العُنْصُرُ الثَّالِثِ : وَمِنْ مَعَانِي السَّلَامِ التَّضْحِيَة

أَيُّهَا الْأَحْبَاب، التَّضْحِيَةِ فِي أَدَقِّ عِبَارَة وَأَرَقّ إشَارَة هِيَ بَذْلُ النَّفْسِ أَوْ الْوَقْتِ أَوْ الْمَالِ، لِأَجْلِ غَايَة اسْمِي، وَلِأَجْل هَدَف أَرْجَى، مَع احْتِسَابِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُرَادِف لِهَذَا الْمَعْنَى: الْفِدَاءِ، وَمِنْ مَعَانِيهَا: الْبَذْل وَالْجِهَاد.

مَجَالَات التَّضْحِيَة:

الْمَجَال الْأَوَّل: التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الدَّيْنِ: فَإِنْ هَذَا الْمَجَالِ هُوَ أَسَاسُ التَّضْحِيَة، وَكُلّ تَضْحِيَة دُونَه هَبَاء، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا وَحَثَّنَا عَلَى التَّضْحِيَةِ، مِنْ أَجْلِ رَفَع لِوَاء دِينِهِ وَنُصْرَةَ شَرْعِهِ، وَعَقَدَ مَعَ الْمُضَحِّين عَقْدًا بِمُوجِبِه يَبْذُل الْمُضَحِّي نَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيُجْزِئُه اللَّهُ تَعَالَى جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ؛ قَالَ الْعَزِيزُ الْقَهَّار: ﴿ أَنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التَّوْبَة: 111].

وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مِنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاَللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الْبَقَرَةَ: 245].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “‌مَا ‌مِنْ ‌مَجْرُوحٍ ‌يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْجُرْحُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٌ”

وَفِي الْمُقَابِلِ فَإِنْ لِلْقَاعِدِين عَنْ التَّضْحِيَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عِقَابًا أَلِيمًا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْاخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْاخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ * إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التَّوْبَة: 38، 39].

وَحَذَّر اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ الرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَأَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُرّ وَبَيْن التَّضْحِيَةِ أَيْ شَيْءٌ مِنْ أَهْلِ أَوْ عَشِيرَةٌ أَوْ مَالٍ، فَقَالَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سُبْحَانَه: ﴿ قَلَّ أَنْ كَانَ ابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التَّوْبَةِ: 24].

وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [مُحَمَّد: 38].

الْمَجَال الثَّانِي: التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الْوَطَن:

أُمِّه الْحَبِيب الْأَعْظَم مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَجَالَات التَّضْحِيَةِ وَالْفِدَاءِ: التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الْوَطَن، فَمَتَى كَانَ وَطَنَ الْمَرْء وَطَنًا مُسْلِمًا يُقِيم شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ التَّضْحِيَةِ فِي سَبِيلِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، وَلِلْوطن فِي نَفْسِ الْمَرْء قِيمَة وَقَامَه وَمَنْزِلَة عَظِيمَة، وَلِمَ لَا وَاَللَّهِ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ الْأَوْطَانِ؛ قَالَ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النِّسَاء: 66].

فَالْدِفَاع عَنْ الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا مِنْ الْجِهَادِ الْمَشْرُوع، وَمَنْ يَقْتُلْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مُسْلِمٌ يُعَدّ شَهِيدًا؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَتَلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَتَلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَتَلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيد))

فَالْمُرَابَطَة عَلَى الثُّغُورِ وَحِفْظِ أَمِن الْأَوْطَان، سَبَبِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاح؛ قَالَ اللَّهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ال عِمْرَان: 200].

فَجَنَوَدَنَا الْبَوَاسِلّ الَّذِينَ يَسْهَرُون لَيْلِهِمْ وَيُكَابِدُون نَهَارَهُمْ، أَجْرَهُمْ عَظِيم وَثَوَابُهُمْ جَلِيل؛ عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “‌رِبَاطُ ‌يَوْمٍ ‌وَلَيْلَةٍ ‌خَيْرٌ ‌مِنْ صِيَامٍ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّان”

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «‌رِبَاطُ ‌يَوْمٍ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌خَيْرٌ ‌مِنْ ‌الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ أَحَدُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا»
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّضْحِيَةِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ قَوْله تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ إلَّا تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا إلَّا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الْبَقَرَة: 246].
فَدَلَّالَات هَذِهِ الْايَةِ تُشِيرُ إلَى أَهَمِّيَّةِ الْقِتَالِ مِنْ أَجْلِ الدِّيَار وَالْأَبْنَاء فِيمَا لَا يَتَعَارَضُ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ هَذَا جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَأْتِي هَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَالَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ.

الْمَجَالِ الثَّالِث: التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ النَّفْس وَالْعَرْض وَالْمَال:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَعِزَّاء، أَنَّ مَنْ مَجَالَات التَّضْحِيَةِ أَنْ يُدَافِعَ الْمُسْلِمِ عَنْ نَفْسِهِ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ، وَهَذَا مَا يُسَمَّى دَفْعِ الصَّائِلِ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ وَعَرْضُه، وَيَحْمِي مَالِهِ، وَإِنْ يُضَحِّيَ مِنْ أَجْلِ ذَلِك.

اسْمَعُوا يَرْعَاكم اللَّهُ إلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: “فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ”، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: “قَاتِلْهُ”، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: “فَأَنْتَ شَهِيدٌ”، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلَتْهُ؟ قَالَ: “هُوَ فِي النَّارِ”
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ قَتَلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيد”.
وَالدِّفَاعِ عَنِ الْعِرْضِ وَاجِبٌ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ الْفُقَهَاءِ، فَلَا تَحِلُّ إبَاحَتِه بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُلْ أَهَمِّيَّةً عَنِ غَيْرِهِ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ، بَلْ إنْ عَادَةِ الْعُقَلَاءِ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَعْرَاضِهِمْ، وَمَا فُدِيَ بِالضَّرُورِيِّ فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ قَائِلُهُمْ:

يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومنا وَتُسَلَّمُ إعْرَاض لَنَا وَعُقُول

صُوَر مُشْرِقَةٌ مِنْ التَّضْحِيَة:

لَقَدْ ضَحَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَضْحِيَات جُسَامًا، وَكَان قُدْوَة لِكُلِّ مُسْلِمٍ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَسَار الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، فَقَدِمُوا مِنْ أَجْلِ دَيْنِهِمْ مَا لَمْ يُعْرَفْ التَّارِيخُ لَهُ مَثِيلًا، وَقَدْ زَخْر التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ بِأَمْثِلَة رَائِعَةً عَلَى تَضْحِيَات عَظِيمَة قَدَّمَهَا الْمُسْلِمُون كُلَّمَا دَعَا الدَّاعِي لِذَلِكَ، وَإِلَيْكُمْ بَعْض الصُّوَر:

تَضْحِيَة إمَام الْمُضَحِّين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

أَخُوهُ الْإِسْلَام، هَيَّأ لِنَرَى كَيْفَ ضَحَّى وَقَدَّم التَّضْحِيَات أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ، كَيْف ضَحَّى بِكُلّ غَال وَنَفِيس، مِنْ أَجْلِ أَنَّ يَبْلُغ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، “فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: ﴿ ‌أَتَقْتُلُونَ ‌رَجُلًا ‌أَنْ ‌يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [غَافِر: ٢٨]

قَالَ عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: “لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكَ مَا لَقِيت، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيت مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضَتْ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِيَالَيْل بْن عَبْدِكُلَال، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْت، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْت فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَى، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْت، ‌أَنْ ‌شِئْت ‌أَنْ ‌أُطْبِقَ ‌عَلَيْهِمُ ‌الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يَخْرُجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا”

تَضْحِيَات الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِين:

تَضْحِيَات الصَّحَابَةِ وَمَا مِنْ صَحَابِيٍّ مِنَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ إلَّا وَلَهُ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي التَّضْحِيَةِ وَالْبَذْلِ، فَقَدْ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَالِهِ كُلِّهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّة.

وَتَبَرَّع عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنِصْفِ مَالَهُ.

وَتَبَرَّعَ عُثْمَان لِجَيْش الْعُسْرَة وَجَهَّزَه مِنْ مَالِه.

نَامَ عَلَى رِضَى اللَّهِ عَنْهُ فِي فِرَاشٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ الْهِجْرَة.

نَمَاذِجَ مِنَ تَضْحِيَات الصَّحَابَة وَأَبْنَائِهِمْ.

مَوَاكِب اللَّه سَارَتْ لَا يُزَعْزِعْهُا
عَاتٍ مِنْ الْبَحْرِ أَوْ عَالٍ مِنْ الْأُطُم
لَا يَهْتَفون لِمَخْلُوقٍ فَقَدْ عَلِمُوا
أَنَّ الْخَلَائِق وَالدُّنْيَا إلَى الْعَدَمِ

وَهَذِهِ صُوَرٌ مِنْ تِلْكَ النَّمَاذِج عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لَا الْحَصْر:

تَضْحِيَة أَنَسِ بْنِ النَّضْر:

هَذَا إنْسٌ بْنِ النَّضْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْمَعُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ مَاتَ، وَإِنْ رَسُولٌ اللَّهِ قَدْ قُتِلَ، فَيَمُرُّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَلْقَوْا السِّلَاحِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ قَدْ أَلْقَيْتُمْ السِّلَاح؟! فَقَالُوا: قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْدَفَع أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ فِي صُفُوفِ الْقِتَال، فَلَقِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا سَعْدُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، وَانْطَلَقَ فِي صُفُوفِ الْقِتَالِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَمَا عَرَفْتُهُ أُخْتَهُ إلَّا بِبَنَانِهِ، وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرَبَه بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ وفيه
نزلت هذه الآية الكريمة، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}،

* فَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: هَلْ لَنَا فِي عَوْدِهِ صَادِقَة إلَى هَذَا الدَّيْنِ؟ هَلْ لَنَا أَنْ نَتَمَثل هَذِهِ الْمَوَاقِفِ أَوْ هَذِهِ الْمَبَادِئِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذَا الدَّيْنِ؟ هَلْ لَنَا أَنْ نَكُونَ دَعَاهُ إلَيْهِ؟ فَدِينُنَا هُوَ الدَّيْنُ السَّمَاوِيّ الْخَاتَم الْخَالِدُ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، الَّذِي يُحَقِّقُ السَّلَام وَالسَّعَادَة لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ؛ لِأَنَّهُ الدَّيْنُ الشَّامِلِ الَّذِي يَتَلَاءَمُ مَعَ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَمَكَّن هَذَا الدَّيْنِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ بِأدَابِه الْقِيمَة، وَتَعَالِيمِه النَّيِّرَة

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ