الهجرة… ميلاد الإنسانية

بقلم فضيلة الشيخ : يوسف محمد السعداوى
من علماء الأزهر والأوقاف

 

في عهد من عهود الإنسانية التي فقدت فيه رشدها، واستحوذ الشيطان فيه على بني الإنسان، فما بين ممالك جائرة، طوت نفوسها على العنصرية والطبقية واستعباد الغير،
وأقوام تقطعت بينهم الأواصر، ودبّت في نفوسهم الغلظة والقسوة، فكانوا أقسى من الجبال والصحارى التي تأويهم،
وبين اندثار الأخلاق وغياب الضمير الإنساني، إلا بقية من بعض الأعراف والتقاليد، والتي ربما يكون بعضها أثرًا ضعيفًا للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها.

حالٌ قد استعصى على أهل الأرض تبديله، وفسادٌ لم يكن لهم به قِبَلٌ لمواجهته،
إلا قلة قليلة منهم كان فيهم بقية من مدد السماء، لكنها لا تقوى على مواجهته،
فكان لا بد من مدد جديد، مدد إلهي ينقذ البشرية من شرورها، ويردّها إلى رشدها.

هذا المدد، الذي جعل الله له إرهاصات كونية تمهّد لوصوله إلى أهل الأرض، كان الناس يعرفون ربهم ويؤمنون به، لكن بعقيدة مختلّة، وبلا شريعة حقيقية تُحكّم في أرض الله.

وكعادة العقل البشري الذي لا يتوقف عن التدخل في كل شيء، كان يتم التدخل فى شرائع الله وكتبه حسب الأهواء والمصالح ، فما يكاد زمان نبي من أنبياء الله ينتهي، حتى يتدخل أهل الهوى وأصحاب المصالح، ويحتالوا على شريعة الله ليُطوّعوها بما يخدِّم على مآربهم، وظل هذا الفساد العظيم فى الأرض حتى إذا وصلت الإنسانية إلى قرب النهاية وفقرة الختام لهذه المرحلة

أذن الله تعالى بنور يعم أرجاء البسيطة، ويكون هذا النور هو الخاتم لكل ما سبق، يصلح الله به ما فسد، ويقيم الحُجّة على ما تبقّى من عمر هذا الكون، وتكون بعده الساعة الفاصلة بين الدنيا والآخرة.

فأخرج من أطهر الأصلاب وأشرف الأنساب،  من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، خير خلق الله تعالى، مولودًا ليس كالبشر طُهرًا ونقاءً ونسبًا، خِيار من خيار، كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم.

ولد يتيم الأب، ليؤدبه ربه،ويصطنعه سبحانه وتعالى لنفسه، كما ربّى الأنبياء من قبله واصطنعهم لنفسه.

ولد في حرم الله مكة، وعند بيته الحرام، إيذانًا من الله تعالى أنه المتمم للنور، والباعث للحنفيّة السمحة، التي هي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، لتُولد على يديه الأمة المسلمة، التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل، وهما يرفعان القواعد من البيت:

> (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

فكان النبي المجتبى، والرسول المصطفى، سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم، هو من ستولد على يديه هذه الأمة.

وأخذت الدنيا تستعد لمولده بآياتٍ وإرهاصات:
فهناك، عند بيت الله الحرام، عام مولده صلى الله عليه وسلم،
يتجه ملك ظالم بجيش جرار إلى مكة، عنادًا وكفرًا، ليهدم بيت الله الحرام.
ملك من الأحباش، ظنّ بملكه أنه قادر على مبارزة الخالق وردّ إرادته، رغم أنه كان من أهل الكتاب،
عنده أثارة من علم، أن الكعبة بيت الله الحرام، وأن البيت ومن حوله حرَمٌ آمن، لا يُخوّف من فيه.
لكن غطرسة الكبر وزهوة الملك قد تطغى الخلق، فما يلبسوا أن يأخذهم الخالق بعذاب بئيس.
فما إن وصل إلى البيت الحرام، حتى أرسل الله تعالى عليه طيرًا أبابيل،
ترميهم بحجارة من سجيل، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد.

هلك البغي والطغيان، وبقي البيت يشع بالأمان. إيذاناً من الله تعالى أن هذه الأمة لن تستباح وأنها باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وان من يقصدها بظلم أو طغيان فإن الله يدحره ويهلكه،
وعند مولده صلى الله عليه وسلم أيضًا، تصدّع إيوان كسرى الفُرس المجوسي،
إيذانًا بزوال ممالك البغي والظلم والبهتان،
لتُولد من رحم الإنسانية أمة، هي خير أمة أُخرجت للناس.
عليها كُلْفة، وفريضة ربانية، هي باقية ما دامت تقوم بها اي هذه الفريضة ، لا يقوى عليها عدوها.
فريضة، هي أساس الرحمة الإنسانية كلها نص عليها الله فى قوله :

> (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم، مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)

فكانت هذه الفريضة أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
إنها أمانة هذه الأمة التي بُعثت من أجلها:
أن تقوم بالقسط بين الناس، وتدرأ الفساد في الأرض،
تأمر الخلق بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتنشر الرحمة والتراحم في الأرض جميعها.

*إن ميلاد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:

كان إيذانًا بانتهاء الظلم، ودحر الظالمين، واندثار عقائد الكِبر والعنصرية والغرور،
ليتراحم الناس ويسعدوا .
وكانت بعثته صلي الله عليه وسلم رحمة للأنسانية كلها :

> (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)

لقد انطفأت نيران فارس يوم مولده، ولم تنطفئ لأكثر من ألف عام،ليتأذن رب العالمين بإنطفائها، أن النور سيحل محلّ النار، وأنه قد آن الأوان لاندثار عبادة الشرك والأوثان. ويحل على الناس نور التوحيد ، فيحيى الناس حياة الأمن والأمان، ويُحكم الله في خلقه، ويندحر الشيطان.

وللموضوع بقية بإذن الله، مع هجرة الحبيب المصطفى وميلاد الإنسانية بإذن الله…

فترقّبوا معي

كل عام وأنتم بخير وسعادة.

عام هجري سعيد بإذن الله