خطبة الجمعة القادمة بعنوان «بداية جديدة وأمل جديد» للدكتور أيمن الحداد
23 يونيو، 2025
خطب منبرية

خطبة الجمعة القادمة بعنوان «بداية جديدة وأمل جديد»
للدكتور : أيمن الحداد
عناصر الخطبة
♦ أولاً: الهجرة والفرج بعد الشدة.
♦ ثانياً: لا تيأس فإن الله على كل شيء قدير.
♦ ثالثاً: من فضائل شهر الله المحرم.
نص الخطبة
الحمد لله رب العالمين الذى خلَق كلَّ شيء فقدره تقديراً، وكان بعباده بهم لطيفاً خبيراً، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، أرسَلَه ربه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: لقد أذن الله عز وجل لسيدنا رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم بالهجرة من مكة المكرمة إلى يثرب بعدما أن أُغلقت الأبواب وانقطعت السبل، وبلغت العداوة مدها، واشتدت المؤامرة التي تهدف إلى القضاء على سيدنا رسول الله ﷺ؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾(الأنفال: ٣٠)،
♦ أولاً: الهجرة والفرج بعد الشدة؛ لقد كانت الهجرة النبوية المباركة حدثاً فارقاً، فتح الآمال العريضة أمام بداية جديدة، وزرع في النفوس الرجاء؛ لقد عاش الصحابة الكرام رضي الله عنهم مع سيدنا رسول الله ﷺ سنوات طوال من الخوف، والتعذيب والتنكيل، تعرضوا للحصار الظالم في شعب أبي طالب إنها مقاطعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
– لقد عانى سيدنا رسول الله ﷺ الأذى في نفسه ثلاثة عشر عاماً رغم مكانته فكيف بأصحابه؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:«بيْنَما رَسولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ البَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ له جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بالأمْسِ، فَقالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إلى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ في كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى القَوْمِ فأخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النبيُّ ﷺ وَضَعَهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ، قالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ علَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لو كَانَتْ لي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عن ظَهْرِ رَسولِ الله ﷺ، وَالنبيُّ ﷺ سَاجِدٌ ما يَرْفَعُ رَأْسَهُ حتَّى انْطَلَقَ إنْسَانٌ فأخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ وَهي جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عنْه» رواه مسلم.
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ: أخْبِرْنِي بأَشَدِّ شيءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بالنبيِّ ﷺ؟ قالَ: بيْنَا النبيُّ ﷺ يُصَلِّي في حِجْرِ الكَعْبَةِ، إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حتَّى أخَذَ بمَنْكِبِهِ، ودَفَعَهُ عَنِ النبيِّ ﷺ، قالَ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾(غافر: ٢٨)الآيَةَ،، رواه البخارى.
– لقد كان سيدنا رسول الله ﷺ مع صعوبة الموقف، وشدة البلاء يغرس الأمل في قلوب أصحابه، ويبشرهم بالنصر؛ فعَنْ خَبَّابٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: «قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رواه البخاري.
وعن الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: لَمَّا كَانَ حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَ لَنَا فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، لَا يَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا رَآهَا أَلْقَى رِدَاءَهُ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَلَعَ الثُّلُثَ الْآخَرَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَلَعَ الثُّلُثَ الْآخَرَ وَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ» فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرَ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا السَّاعَةَ» رواه النسائي.
لقد كانت الهجرة النبوية المباركة فرجاً بعد الشدة ونصرنا بعد طول معاناة؛ قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖفَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(التوبة: ٤٠)، وعن أبى بكرالصديق رضي الله عنه قال: «كُنْتُ مع النبيِّ ﷺ في الغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِينَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لو أنَّ أحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قالَ: ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» رواه البخارى.
ومن هنا يجب علينا ونحن نستقبل العام الهجرى الجديد أن تكون لنا بداية جديدة وأمل جديد مع حسن ظن بربنا تبارك وتعالى.
♦ ثانياً: لا تيأس فإن الله على كل شىء قدير؛ لقد كانت حياة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عامرة بالأمل، فما بعث الله عز وجل رسولاً إلا وكان الأمل ماثلاً بين عينيه من أمثلة ذلك؛
– الخليل الله إبراهيم عليه السلام؛ لقد بلغ إبراهيم عليه السلام من الكبر عتياً ولم يرزق الولد ولكنه لم ييأس ودعا ربه قائلاً: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾(الصافات: ١٠٠-١٠١)، إنها رسالة أمل إلى كل محروم لا تيأس من رحمة الله فربك على كل شيء قدير؛ قال تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾( الشورى: ٤٩-٥٠)،
– ونبى الله يعقوب عليه السلام لم يفقد الأمل في عودة يوسف وأخيه، ولم يستسلم بل ظل يحدوه الأمل قرابة أربعين سنة وكله ثقة وأمل في عودة أبنائه فيقول لأبنائه: ﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾(يوسف: ٨٧)، إنها رسالة أمل إلى كل مسلم لا تيأس من رحمة الله وأحسن الظن بمولاك جل وعلا ففى الحديث الربانى يقول الله عزّ وجل: «أنا عِندَ ظَنِّ عَبْدي بي» رواه مسلم.
– وهذا نبي الله أيوب عليه السلام لم ييأس، ولم يفقد الأمل فى الشفاء رغم مرضه العضال؛ قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾(الأنبياء: ٨٣-٨٤)، إنها رسالة أمل إلى كل مريض لا تيأس من رحمة الله، ولا ينقطع أملك فى الشفاء؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾(الشعراء: ٨٠)، ولقد عاد سيدنا رسول الله ﷺ أعرابياً به حمّى فقال له مواسياً إياه: «لا بأس طَهورٌ إن شاء الله»، فلم يقبل الأعرابي هذا الفأل الحسن؛ بل قال: بل حُمّى تفورُ على شيخ كبير تُزِيرُهُ القبورَ، فقال النبي ﷺ: «فنعم إذن» رواه البخاري.
– ونبي الله يونس عليه السلام ابتلعه الحوت، ووجد نفسه فى ظلمات مطبقة بعضها فوق بعض فلم ييأس من رحمة الله ولم يفقد الأمل فى النجاة قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾(الأنبياء: ٨٧-٨٨)، إنها رسالة أمل إلى كل مكروب لا تيأس من رحمة الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، وأعلم أن الفرج مع الكرب وأن النصر مع الصبر.
– الأمل فى نصر الله عز وجل؛ إن الأمل فطرة أودعها الله عزّ وجل بداخل الإنسان، نراها في كل تصرفاته، ومن النصوص التى تُوقظ الأمل فى القلوب قوله تعالى: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾(المائدة: ٥٢)، وقوله تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾(الطلاق: ١)،
أمل يخاطب خُلسةً وجداني
والطير يُثقل كاهل الأغصان
أمل أحس به إذا انهار الظلام
وقام صرح الصبح كالبنيان
وأحسه والطفل يبتدئ الخطى
يهوي فينهض واهن الأركان
والنمل يطلب رزقه متجلداً
والنحل ينعش روضة البستان
وأُحسه والعشب يخترق الحصى
ويقيم دولته على الكثبان
والزهر يخلف غيره ببهائه
والماء يخرس ألسن النيران
وأُحسه في الكون في حركاته
وأُحسه في لوحة الفنان
ويظل يحدوني على رغم الجراح
تفتني وتغوص في وجداني
أملٌ يحدثني بعودة عِزّتي
وكرامتي وجحافلِ الإيمان
إنها رسالة أمل إلى المستضعفين فى مكان استعينوا بالله، وكونوا على يقين من أن الله ينصر أوليائه؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾(المائدة: ٥٦)،
– الأمل فى رحمة الله عز وجل؛ لقد دَخَلَ سيدنا رسول الله ﷺ عَلى شاب وَهُوَ في النَّزْعِ فَقالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قالَ: أَجِدُني أَخافُ ذُنُوبي وَأَرْجُو رَحْمةَ رَبّي فَقال ﷺ :«مَا اجْتَمَعا في قَلْبِ عَبْد في هذا الْمَوْطِنِ إِلاّ أَعْطاهُ اللّهُ ما رَجا وَآمَنَهُ مِمّا يَخافُ»رواه الترمذى.
إنها رسالة أمل إلى كل مذنب ومسرف على نفسه
تب فإن الله عفور رحيم؛ قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الزمر: ٥٣)،
قالَ عَلِيٌّ بن أبي طالب رضى الله عنه: لِرَجُل أَخْرَجَهُ الْخَوْفُ إِلَى القُنُوطِ لِكِثْرَةِ ذُنُوبِهِ: يا هذا يَأْسُكَ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذُنوبِكَ.
وهناك وعيد شديد لمن أغلق باب الأمل فى عفو الله عزّ وجل أمام عباده؛ فعَنْ جُنْدَبِ الغِفاري أَنَّ رَسُولَ اللّهِ ﷺ قالَ: «إِنَّ رَجُلاً قالَ يَوْماً وَاللّهِ لا يَغْفِر اللّهُ لِفُلان، قالَ اللّهُ عَزَّوَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذي تَألى على أَنْ لا أَعْفُر لِفُلان؟ فَإِنّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلان وَأَحْبَطْتُ عَمَلَ الْمُتَألّي بِقَوْلِهِ لا يَغْفِرَ اللّهُ بِفُلان» رواه مسلم.
ولقد قُبلت توبة قاتل المائة فكان من أهل الجنة؛ فعن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِما كانَ أدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ. قالَ قَتادَةُ: فقالَ الحَسَنُ ذُكِرَ لَنا، أنَّه لَمَّا أتاهُ المَوْتُ نَأَى بصَدْرِهِ» رواه مسلم.
– الأمل فى غداً أفضل؛ لقد حثنا سيدنا رسول الله ﷺ على العمل حتى النفس الأخير وألا تقتصر آمالنا في الحياة على مجرد حاجاتنا، ولكن علينا أن نعمل لحاضرنا ومستقبلنا؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «إنْ قامَتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكمْ فَسِيلةٌ، فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرِسْهَا» رواه أحمد.
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه لا ينقطع رجاء المؤمن بربه أبداً، فاعملوا وآملوا خيراً فرب الخير لا يأتى إلا بالخير؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله ﷺ: «كان يُعجبُه الفألَ ويكرَهُ الطِّيرَةَ» رواه ابن ماجه.
أقول قولى هذا واستغفر الله العظيم لى ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد: فيا عباد الله: إن من أجل نعم الله عز وجل عباده، أن يوالي مواسم الخيرات عليهم ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، فما أن انقضى موسم الحج المبارك، إلا وتبعه شهر كريم هو شهر الله المحرم.
♦ ثالثاً: من فضائل المحرم؛ إن شهر المحرم هو أحد الشُّهورِ الحُرُمِ التي عظَّمها الله تعالى وذكَرَها في كتابِه الكريم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚفَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(التوبة: ٣٦)،
قال القرطبي: خص الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان.
ولقد بينها سيدنا رسول الله ﷺ؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه: «أنَّ النَّبيَّ ﷺ خَطَب في حجَّتِه، فقال: إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشَعبانَ»
رواه أحمد.
قال ابن رجب: وقد سمى النبي ﷺ المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمداً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته.
وقال ابن قاسم: أي أفضل شهر تطوع به كاملاً بعد شهر رمضان شهر الله المحرم؛ لأن بعض التطوع قد يكون أفضل من أيامه كعرفة وعشر ذي الحجة، فالتطوع المطلق أفضله المحرم، كما أن أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل.
– فَضلُ الصيام فى مُحرم؛ فعن أبى هريرة رضي الله أن رسول الله ﷺ قال: «أَفْضَلُ الصِّيامِ، بَعْدَ رَمَضانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ، وأَفْضَلُ الصَّلاةِ، بَعْدَ الفَرِيضَةِ، صَلاةُ اللَّيْلِ» رواه مسلم.
– فَضلُ صيام عاشوراء؛ إنه اليومُ الذي أنجى اللهُ تعالى فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعونَ وقومَه؛ فصامه موسى شُكرًا، ثم صامه النبيُّ ﷺ؛ فعن ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «قَدِمَ رَسولُ اللهِ ﷺ المَدِينَةَ، فَوَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عن ذلكَ؟ فَقالوا: هذا اليَوْمُ الذي أَظْهَرَ اللَّهُ فيه مُوسَى، وَبَنِي إسْرَائِيلَ علَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا له، فَقالَ النبيُّ ﷺ: نَحْنُ أَوْلَى بمُوسَى مِنكُم فأمَرَ بصَوْمِهِ» رواه مسلم.
هذا ويسن للمسلم صيام التاسع من محرم مع العاشر من باب المخالفة لأهل الكتاب قال رسول الله ﷺ: «لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ اليومَ التَّاسعَ» رواه مسلم.
– الهجرة الباقية إلى يوم القيامة؛ هجرة الذنوب والمعاصى وهذا ما أرشدنا إليه سيدنا رسول الله ﷺ؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «المسلمُ من سَلِمَ المسلمونَ من لسانهِ ويدهِ، والمهاجرُ من هجر ما نهى اللهُ عنه» رواه البخارى.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «سُئِلَ رَسولُ اللهِ ﷺ عَنِ الهِجْرَةِ، فَقالَ: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» رواه مسلم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واجعل راية مصر عالية خفاقة، واحفظها بحفظك وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة.
كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ٢ محرم ١٤٤٧ هجرياً
الموافق ٢٧ يونيو ٢٠٢٥ ميلادياً