المواقف المعلنة وغير المعلنة ودخول العالم حربًا عالمية ثالثة

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

العالم اليوم لا يعيش في سلام، وإن كانت الدول العظمى تحاول أن توهم شعوبها، بل شعوب الأرض كلها، بأن كل ما يدور حولنا هو مجرد صراعات محلية، وأزمات إقليمية يمكن احتواؤها، فإن الحقيقة الموجعة أن العالم يعيش حالة حرب شاملة، تتجاوز حدود الجغرافيا، وتتحدى المنطق التقليدي للحروب القديمة. نحن نعيش حربًا عالمية ثالثة بكل المعاني، وإن اختلفت أدواتها، وتنوعت مسارحها، وتبدلت أشكالها من الدبابة والطائرة إلى العملة والسوشيال ميديا والفيروسات الصناعية.

فما نشهده اليوم من أزمات متلاحقة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض. فالحرب في أوكرانيا ليست مجرد نزاع حدودي بين روسيا وجارتها السابقة، بل هي مواجهة مفتوحة بين موسكو والغرب، بقيادة الولايات المتحدة، على خلفية صراع النفوذ العالمي، وتوازنات القوى، والسيطرة على الطاقة والمعابر. في المقابل، ما يحدث في بحر الصين الجنوبي وتايوان يعيد إلى الواجهة ذكرى الصراع الأمريكي الياباني في الحرب العالمية الثانية، حيث البحر والممرات المائية هما مسرح الصراع الفعلي.

أما في الشرق الأوسط، فقد تحولت المنطقة إلى رقعة شطرنج كبرى، تحرك فيها قوى الشر العالمية القطع كما تشاء، وتحرق من تشاء، وتبقي على من يحقق أهدافها فقط. من فلسطين إلى سوريا، من اليمن إلى العراق، ومن لبنان إلى السودان وليبيا، كلها ملفات مفتوحة على نار الصراعات الإقليمية والدولية، ولا أحد يعرف متى تنطفئ أو كيف.

وتبرز إسرائيل كلاعب رئيسي في إشعال هذه الحرائق، فهي لا تكتفي بإبادة الفلسطينيين تحت سمع العالم وبصره، بل تسعى لتوسيع نطاق الصراع إلى دول أخرى، كلما وجدت في ذلك فرصة لحماية أمنها المزعوم أو تعزيز صورتها كقوة لا تُقهر. وحينما فشلت في كسر إرادة غزة، لجأت إلى خطاب عدائي ضد إيران، محاولةً تصدير أزمتها العسكرية إلى طهران، وفي لحظة مجنونة ضربت قلب العاصمة الإيرانية، مستغلة صمتًا دوليًا مريبًا، وتنسيقًا خفيًا مع قوى كبرى، يبدو أن لها مصلحة في تفجير المنطقة بأكملها.

لكن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في الضربات المعلنة أو الصواريخ الموجهة، بل في المواقف غير المعلنة، تلك التي تُدار خلف الأبواب المغلقة، في غرف العمليات السياسية والعسكرية والاقتصادية. فهناك تفاهمات خفية بين أعداء مزعومين، وصفقات تسليح تمر في الظلام، وحروب تُدار بالوكالة عن طريق ميليشيات، وشركات أمنية خاصة، ومنصات إعلامية، وشخصيات مزروعة في مواقع التأثير.

ما يحدث على الأرض من انهيارات اقتصادية مدروسة، كارتفاع الأسعار الجنوني، ونقص الغذاء، وسقوط عملات، ليس بريئًا أو عشوائيًا، بل هو جزء من مخطط عالمي لإعادة توزيع الثروة والسلطة على حساب الشعوب، التي تُساق إلى الخراب دون أن تشعر. فحينما تنهار دولة مثل السودان بسبب صراع داخلي مسلح، أو تُدمر سوريا بتخطيط ممنهج، أو يُقسم اليمن سياسيًا وطائفيًا، أو يُجَوّع شعب بأكمله في غزة، فذلك ليس فقط نتيجة فوضى، بل بفعل فاعل.

العالم العربي في هذه المعادلة ليس فاعلًا حقيقيًا، بل هو ساحة للصراع، تُحركه الأجندات الأجنبية، ويُستنزف على كل الجبهات. مصر تتعرض لمحاولات مستمرة لزعزعة استقرارها من الداخل والخارج، عبر التضليل الإعلامي، والضغوط الاقتصادية، والدعم الخفي للجماعات المتطرفة. سوريا ما زالت تنزف، العراق رهين التدخلات الأجنبية، ليبيا تحكمها الميليشيات، السودان ضحية صراع مصالح، ولبنان لا يعرف طريقًا للاستقرار.

لكن في وسط هذا السواد، هناك شعوب بدأت تستيقظ، وتدرك أن عدوها ليس داخليًا كما يُروج، بل هناك من يصنع لها الفتن، ويدفعها للدمار حتى يبقى هو السيد المتحكم في مصيرها. الأمة العربية ليست ضعيفة، لكنها مُثقلة بالقيود، ولو تحررت من الداخل، لأصبحت رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية.

إننا اليوم نعيش حربًا عالمية من نوع جديد. حرب لا تُشن بالدبابات فقط، بل بالفتن والهواتف الذكية والمنصات الرقمية والعملات والتضخم والديون والابتزاز السياسي. حرب تستهدف العقول قبل أن تستهدف الجيوش، وتحاول كسر إرادة الشعوب لا حدودها فقط. إنها حرب فكرية ونفسية واقتصادية، هدفها تغيير هوية الشعوب وتفكيك الدول من الداخل.

ومن هنا، يجب أن يكون لدينا وعي حقيقي بما يجري. لا يكفي أن نقرأ الأخبار أو نشاهد التحليلات، بل علينا أن نربط بين الأحداث، ونفهم أن المواقف المعلنة ليست هي الحقيقة، بل غالبًا ما تكون غطاءً لمخططات أعمق، وأخطر. وعلينا أن نعد أنفسنا فكريًا، وإعلاميًا، واقتصاديًا، ونفسيًا، وأمنيًا، لأي موجة قادمة من هذا الطوفان العالمي الذي لا يُبقي ولا يذر.

العالم لن يعود كما كان. ومن يظن أن هذه المرحلة ستمر بسلام فهو واهم. من لم يمت بالحروب العسكرية سيموت بحروب الجوع، أو النفس، أو الهوية. فإما أن نصحو ونتكاتف، أو نُمحى بهدوء كما تُمحى الدول من الخرائط في زمن المصالح المتوحشة.