خطبة بعنوان ( كف الأذى عن عباد الله من أجل العبادات ) للدكتور محمد جاد قحيف

خطبة بعنوان ( كف الأذى عن عباد الله من أجل العبادات )
للدكتور : محمد جاد قحيف

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
د. محمد جاد قحيف. إذا أردت السلامة من غيرك؛ فاطلبها في سلامة غيرك منك

الحمد لله الكريم المنان هدانا للإسلام، وأنار لنا طريق الإيمان، وهيأ لنا سبيل الإحسان ، وفضل ديننا على سائر الأديان ،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أحمده على جليل الصفات وجميل الإنعام ، وأشكره شكر من طلب المزيد ورام ،
وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه الداعي إلى الإسلام ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا على الدوام .. وبعد:

فمن القيم التي دعا إليها الإسلام وجاء بها القرآن الكريم وحث عليها النبي عليه الصلاة والسلام كف الأذى عن عباد الله ، والأذى في اللغة : هو فعل ما يكره، وترك القرار على حال محمودة ، و الاستمرار على ما يؤذي من لا يستحق الأذى قولًا أو فعلًا..

أما الأذى في الاصطلاح هو : إيصال الضرر والمكروه إلى الغير ، وقد ورد استعمال لفظ الأذى في القرآن لمعاني عدة منها: المن بالصدقة، والشدة والمحنة، والسباب والشتيمة، والغيبة والنميمة ، والجفاء في حق الله ورسوله ﷺ وقول الزور والبهتان على الأبرياء من خلق الله، والسخرية والاستهزاء بهم ..
ومن أقوال الحافظ الشيرازي: “من أراد السلامة فليطلبها في سلامة غيره”(ملتقى الحديث)..

وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: “الإيمان بالله، والجهاد في سبيله”، قال: قلتُ: أيُّ الرقاب أفضل؟ قال: “أنفَسُها عند أهلها، وأكثرها ثمناً”، قال: قلت: فإن لم أفعل، قال: “تُعينُ صانعاً، أو تصنع لأخرق”، قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن ضعُفتُ عن بعض العمل؟ قال: “تكُفّ شرَّك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ منك على نفسك” متفق عليه..
صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما على المنبر فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: “يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يتَّبِعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ”..

يقول الإمام الشافعي (رضي الله عنه ) :
إِذا شئتَ أَن تَحيا سَليماً عنَ الأذى وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعايباً
فَدَعها وَقُل يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ
وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى
وفارقه وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ ..

العنصر الأول : “المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ “..
قال ﷺ : “المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه “.
(متفق عليه)..
وفي مسند الإمام أحمد «المؤمِنُ مَن أمِنَهُ النَّاسُ ، والمسلِمُ مَن سلِمَ النَّاسُ مِن لسانِهِ ويدِهِ ، والمُهاجرُ مَن هجرَ السُّوءَ ، والَّذي نَفسي بيدِهِ لا يدخلُ الجنَّةَ عبدٌ لا يأمَنُ جارُهُ بَوائقَهُ»..
قوله ﷺ: المسلم يعني: المسلم حقيقةً، المسلم المستسلم لأوامر الله ورسوله ﷺ ، كامل الإسلام، يعني: الذي أسلم قلبه وجوارحه لله -تبارك وتعالى-، فلا يصدر منه مخالفة..
وذكر اللسان لأنه آلة الكلام، وذكرت اليد؛ لأنها آلة الدفاع والعدوان، لكن قد يحصل التأذي بغير اللسان واليد، كما هو معلوم، فقد يؤذيهم بأمور أخري، كما لا يخفى، فمثل هذا لو كان يمشي ينظر بعينه على عورات هؤلاء، ويتتبع أخبارهم، وما أشبه ذلك، فهذا كله داخل فيه، ولو لم يستعمل يده ولسانه، هذا الذي يؤذي المؤمنين والمؤمنات مثلاً: فيأتي ويوصل إليهم الأذى، كأن يرسل لهم برسائل وسائط، وصور سيئة، ويرسل لهم كلام بذيء سيئ، يفتن هؤلاء بدينهم، ويرسل لهم روابط تفضي إلى مواقع سيئة؛ ليفتنهم، فكل هذا داخل فيه.

والذي يثير الشبهات هو كذلك أيضًا، والذي ربما يدخل في أجهزتهم ما يسمى مثلاً: بالهكر إذا كان ذلك يفعل ذلك بغير حق، ويدخل في أجهزت هؤلاء الناس، وينظر في أسرارهم، وفي خصوصياتهم، ولربما نشر هذا، وأعظم من ذلك كله: أولئك الذين لربما يشوهون سمعه الآخرين، ويسيئون إليهم، ويأتون بصورة امرأة طيبة عفيفة شريفة ثم يركبونها على صورة سيئة، ثم بعد ذلك ينشرون هذا.

قال: والمهاجر يعني: كامل الهجرة، المهاجر الحقيقي هو من هجر من نهى الله عنه، والهجرة -كما يقول الحافظ ابن القيم-: هجرة الأبدان أن ينتقل من بلد لا يستطيع أن يقيم أمر الله فيها، وأن يعبده، فيتنقل إلى مكان يتعبد لله فيها، وهو آمن، فهذه هجرة الأبدان.
والنوع الثاني من الهجرتين: وهو أعظم: وهو هجرة القلوب إلى الله ، هجرة العبد لما حرم الله ، فيكون بذلك هاجرًا لما نهى الله عنه.

قال ﷺ: والمهاجر يعني: كامل الهجرة، الهجرة الحقيقة من هجر ما نهى الله عنه قد يهاجر الإنسان ينتقل من بلد إلى بلد، لكنه قد يكون على حال من المعصية والفجور والأخلاق السيئة، ولربما مقارفة الفواحش، وما أشبه ذلك، فمثل هذا هجرته ناقصة، هاجر ببدنه، ولم يهاجر قلبه…ومن كان مضيعًا مفرطًا مشغولاً بسماع اللهو المحرم، والنظر إلى المحرمات، وما إلى ذلك، فإنه يخشى عليه عند الموت، أن يموت على شيء من هذا، قد يموت وهو يشاهد مشاهد محرمة، نسأل الله العافية، فيفتضح، ويختم له بخاتمة سوء، وقد يموت وهو يزاول عملاً لا يحبه الله لان الموت يأتي بغتة ..(موقع د /خالد السبت)..

و هذا الحديثُ مِن جَوامعِ كَلِمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفيه يُرشِدُنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى التَّحَلِّي بالآدابِ والأخْلاقِ الإسلاميَّةِ، الَّتي تَزيدُ الأُلفةَ والموَدَّةَ بيْن المُسلِمينَ.. ومعْناه: أنَّ المسلِمَ الكامِلَ الجامعَ لخِصالِ الإسلامِ: هو مَن لم يُؤْذِ مُسلِمًا بقَولٍ ولا فِعلٍ، وخصَّ اللِّسانَ واليدَ؛ لكَثرةِ أخطائِهما وأضرارِهما؛ فإنَّ مُعظَمَ الشُّرورِ تَصدُرُ عنهما؛ فاللِّسانُ يَكذِبُ، ويَغتابُ، ويسُبُّ، ويَشهَدُ بالزُّورِ، واليدُ تَضرِبُ، وتَقتُلُ، وتَسرِقُ، إلى غيرِ ذلك، وقدَّم اللِّسانَ؛ لأنَّ الإيذاءَ به أكثرُ وأسهلُ، وأشدُّ نِكايةً، ويعُمُّ الأحياءَ والأمواتَ جميعًا..
وبيَّن أنَّ المُهاجرَ الكاملَ هو مَن هجَرَ ما نهى اللهُ عنه؛ فالمُهاجرُ الممدوحُ هو الَّذي جمَعَ إلى هِجرانِ وَطَنِه وعَشيرتِه هِجرانَ ما حرَّم اللهُ تعالَى عليه؛ فمُجرَّدُ هِجرةِ بلَدِ الشِّركِ مع الإصرارِ على المعاصي ليست بهِجرةٍ تامَّةٍ كاملةٍ؛ فالمُهاجرُ بحقٍّ هو الَّذي لم يَقِفْ عند الهجرةِ الظَّاهرةِ، مِن تَرْكِ دارِ الحربِ إلى دار الأمنِ، بل هُو مَن هجَرَ كلَّ ما نَهَى اللهُ عنه. وفي الحديثِ: الحثُّ على تَركِ أذَى المسلِمين بكلِّ ما يُؤذِي.. (الدرر السنية).

وعن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سأل رسولَ اللهِ، فقال : أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، فأخبره النبي ﷺ باول الطريق توحيد الله عزّ وجل ونفي الشريك ، وأداء الصلاة والصيام والزكاة والحج ، ثم دله على أبواب الخيرات ثم أخبره بِرأسِ الأمرِ ، وعمودِه، وذِروَةِ سَنامِه فقال:” رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصَّلاةُ، وذِروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قال: ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم”.. أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح..

ومعنى: “ألا أُخبِرُك بمِلاكِ ذلك كلِّه؟”، أي: ما يَكمُلُ به ويَتِمُّ، قال مُعاذٌ: “بلى، يا رسولَ اللهِ”، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “فأخَذ بلِسانِه”، أي: أمسَك النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بلِسانِ نَفْسِه، ثمَّ قال: “كُفَّ عليك هذا”، أي: اترُكِ الكلامَ المحرَّمَ كالكلام الذي فيه شِركٌ باللهِ تعالى، والكَذِبِ، وشَهادةِ الزُّورِ، والقولِ على اللهِ بغيرِ عِلمٍ، والخوضِ في أعراضِ النَّاسِ، وغيرِ ذلك مِن الموبِقاتِ كالغِيبةِ والنميمةِ والفُحشِ مِن القولِ ونحو ذلِك، واتْرُكِ الكلامَ فيما لا يُفيدُ وفيما لا مَعنى له؛ فإذا تَكلَّمتَ فلا تَتكلَّمُ إلَّا بخير؛ كالأمْرِ بالصَّدقةِ والمعروفِ أو الإصلاحِ بينَ الناسِ ونحو ذلك؛ فإنْ لم يكُنْ في الكلامِ خيرٌ ففي الصَّمتِ السَّلامةِ، وفي الصَّحيحينِ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: “ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليقلْ خيرًا أو ليَصْمُتْ”، قال معاذٌ: “يا نبيَّ اللهِ، وإنَّا لِمُؤاخَذون بما نتَكلَّمُ به؟!”، أي: مُحاسَبون ومُعاقَبون على الكلامِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “ثَكِلَتك أمُّك يا مُعاذُ!”، أي: فقَدَتْك، وليس المرادُ به الدُّعاءَ عليه، ولكنَّها مِن كلامِ العرَبِ، واستعمالُه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لها لِتَنبيهِه إلى أمرٍ كان يَنبَغي أن يَنتَبِهَ له ويَعرِفَه، “وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجوهِهم- أو على مَناخِرِهم-“، أي: هل هناك شيءٌ يَجعَلُهم يُصرَعون على وُجوهِهم ويَسقُطون، والمِنخَرُ: ثَقْبُ الأنفِ وفَتحتُه، “إلَّا حَصائدُ ألسِنَتِهم؟!”، أي: إلَّا بسبَبِ ما يَحصُدونه يومَ القيامةِ مِن كَثرةِ الكلامِ في الدُّنيا في غيرِ طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ..وفيه: أنَّ اللِّسانَ أصلٌ لكلِّ ما يُدخِلُ الإنسانَ النَّارَ؛ ففيه تحذيرٌ شديدٌ من آفات اللِّسانِ.(الدرر السنية)..

وبهذا يتضح أن دين الإسلام دعا إلى مكارم الأخلاق، وحث عليها، ورغب فيها؛ فدعا إلى العشرة الطيبة، والمعاملة الحسنة، كما دعا إلى لين الجانب، وبذل الندى، وكفّ الأذى عن عباد الله ؛ لأن كفَّ الأذى من أفضل خصال الإسلام وأخص صفات المسلم الحقيقي ..
قال الإمام البغوي -رحمه الله تعالى- : “أفضلُ المسلمين: من جمع إلى أداء حقوق الله -تعالى- أداءَ حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم”..

العنصر الثانى : من صور الإيذاء المنهي عنها..

أحبتي في الله: اعلموا أن إيذاء المسلمين يأتي على صور شتى، بالقول أو بالفعل ، منها الإيذاء الحسي ومنها الإيذاء المعنوي ، بعضها يجهله الناس، وبعضها يتساهلون في أمره، ولا يمكننا ذكر جميعِ صورِ الأذى، لكن أذكر بعضاً من الصور لتُعرف ويقاسُ عليها غيرها..
إيذاء بعض البشر لله ورسوله ﷺ..
حين يُذكر الأذى فأشنع ألوان الأذى ما يقع في حق المولى؛ فسبُّ الله والاعتراض على قدره، والتنقص لدينه، والاستهزاء بأوامره أذى في حق الله جل جلاله..
كقول الذين قالوا اتخذ الله ولدا كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ..
قال تعالى﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ﴾..وفي الحديث القدسي الصحيح قال – صلى الله عليه وسلم – “يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ, بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ”..
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)[الأحزاب: 57]..

وأذى الرسول -عليه الصلاة والسلام- مِن أسوأ الأذى؛ فشتمُه -عليه الصلاة والسلام-، والقدحُ في عدالة أصحابه الكرام، والتطاول على أهل بيته ، واتهام زوجته ، كل ذلك نوعٌ من الأذى يبوء المرء بجرمه دنيا وآخره ، وما أعظم ذنب امريء آذى الله ورسوله ﷺ، ولينتظر العذاب إن لم يتداركه بالتوب رب الأرباب ..
.. إيذاء المسلم ..
ومن صور إيذاء المسلم: مكايدتُه، وإلحاقُ الشر به، واتهامُهُ بالباطل، ورميُهُ بالزور والبهتان، وتحقيرُه، وتصغيرُه، وتعيِيرُه، وتنقصُّهُ، وثَلْمُ عِرضِهِ، وغِيبَتُهُ، وسَبُّه وشتمُه، وطعنُهُ ولعنُهُ، وتهديدُه، وترويعُه، وابتزازُهُ، وتتبُّعُ عورته، ونشرُ هفوته، وإرادةُ إسقاطِه وفضيحتِه، وتكفيرُه، وتبديعُه، وتفسيقُه، وقتالُهُ وحملُ السلاح عليه، وسلبُه ونهبُه، وسرقتُه، وغِشُّه، وخداعُه، والمكرُ به، ومُماطَلتُهُ في حقه، وإيصالُ الأذى إليه بأيِّ وجهٍ أو طريق..

كل ذلك ظلمٌ وجُرْمٌ وعدوان لا يفعلُهُ إلا من شُحِن جوفه بالبغضاء والضغناء، وأُفعِمَ صدره بالكراهية والعداء؛ يفعل ذلك من أجل أن يُحزِنَ أخاهُ ويؤذِيَه، وأن يُهلِكَه ويُردِيَه، وكفى بذلك إثما!.

فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ومَنْ دَعَا رجلًا بِالكُفرِ ، أو قال عدُوَّ اللهِ ؛ وليسَ كذلِكَ ، إلَّا حارَ عليْهِ ، ولا يَرْمِي رجلٌ رجلًا بِالفِسْقِ ، ولا يَرمِيهِ بِالكُفْرِ ، إلَّا ارْتدَتْ عليه ، إنْ لمْ يَكنْ صاحِبُهُ كذلِكَ”. أخرجه الإمام مسلم.

وعن سهل بن معاذ، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَن رمى مسلمًا بشيءٍ يريد شَيْنَهُ به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال” أخرجه أبو داود، وسنده صحيح..

..إيذاء الجوارح ..
فالعين تؤذي، واللسان يؤذي، واليد تؤذي، والرِّجْل تؤذي، والبطن يؤذي، والقلب يؤذي..
فأذى العين: أن تنظر إلى محارم الله وأن تتبع عورات المسلمين، وأذى العين: أن تنظر إلى نِعَمٍ أنعم الله -تعالى- بها على عبد من عبيده، فتتمنى زوال هذه النعمة، وتعترض على عطاء الله -سبحانه وتعالى-،

وأذى اللسان: الغيبة والنميمة، والكذب والبهتان، والهمز واللمز، وقد مَرَّ -عليه الصلاة والسلام- لما عُرِجَ به إلى السماء على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فسأل جبريل عن هؤلاء؟ قال: “هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم”.وأذى اليد والرِّجل: البطش، والقتل والسرقة، والسعي في الإضرار بالناس..
وأذى البطن: أكل الحرام من ربا ورشوة وأكلٍ لأموال الناس بالباطل، وأكلٍ لأموال اليتامى والضعفاء

وأذى القلب: الغِلّ والبغضاء، والضغينة والحقد والشحناء..
إن إيذاء الآخرين «بغير حق» جرم موجب للعنة والإثم، ومحبط لبعض الأعمال ومقتضي للغرم، وزيغ للقلوب والندم ..
قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾..
فأعظم الأذى للمؤمن: قتله وسفك دمه ، ودونه التعدي على بدنه بجرح ونحوه ، قال ﷺ: “كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُه”(متفق عليه). قال “لن يزال المؤمن في فسحة من دينه؛ ما لم يصب دماً حراماً” ..
ولعن المسلم وتفسيقه وتكفيره ، نوع من الأذى بليغ ، وأسلوب من التعدي شنيع..
وأخذ مال المسلم بغير طيب نفسٍ منه نوع من الأذى و”من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة”.وأذية المؤمنين بالغيبة والنميمة، صورة من الأذى يبوء بمعرتها من آذى، وكل ظالم فسترد عليه ظلامته، وفي الصحيح: “لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء”..

ومن روائع المقال قول يحيى بن معاذ الرّازيّ: “ليكن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرَّه، وإن لم تُفرِحه فلا تغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه”..

..إيذاء المصلين في المسجد..
ومن صور الإيذاء: التشويشُ على المُصلِّين في المساجد برفع الأصوات، والمزاحمة، والمدافعة، وتخطِّي الرقاب، والإتيان إلى المسجد بالروائح الكريهة المنتنة.
فعن عبد الله بن بُسْر -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ يتخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال: “اجلس فقد آذيت” رواه أبو داود
فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال لمن يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة: “اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ”، فما أكبر منها أشدُّ وأعظم..

وإزعاجُهم بالصوت العالي بالكلام أو الاتصال ، الذي لا فائدة منه والأمر يزداد شناعة حين يؤذى المصلون في بيوت الله بأصوات المعازف وهم في بيت الله ، وذاك أذية لعباد الله ولملائكته.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: اعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: “ألا إن كلكم مُناجٍ ربَّه، فلا يؤذِينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة” رواه أبو داود.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الناس يسكنون العالية، فيحضرون الجمعة وبهم وَسَخٌ، فإذا أصابهم الرَّوح سطعت أرواحهم فيتأذَّى بها الناس، فذُكِرَ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “أولا يغتسلون؟!” أخرجه النسائي ..

وحين تنبعث من المرء الرائحة الكريهة ، فيعمد لبيت الله للصلاة؛ فقد عرّض المسلمين والملائكة لأذاه, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: “مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ”(أخرجه الإمام مسلم)..
وفي السنن لأبي داوود بإسناد صحيح أن رجلًا أم قومًا فبصق في القبلة… الحديث وفيه قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:«إنك قد آذيت الله ورسوله»..
.. إيذاء الفقراء والمن عليهم..
ربما يتصدق البعض ثم يعود فيؤذي من تصدق عليه بمنّه عليه ، وبيان فضله عليه، وذاك مما يحبط أجر الصدقةوقد حذر من ذلك الرحمن جل جلاله فقال : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)[البقرة: 264]..
..أذى الجيران..
ومن أبلغ صور الأذى: أن يتعرض المرء لجيرانه بما يكرهون؛ من قولٍ مؤذي أو فعل غير مرضي ،أو تعدٍ على حقوقهم، أو تطاول على حرمتهم، وذاك أمرٌ لا يفعله كامل الإيمان، فمن الجرائم العظمى إيذاء الجار، فالجار له حق عظيم على جاره، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُه”..
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ”..
البوائقُ: جمْعُ بائِقةٍ، وهي الغائِلةُ، والدَّاهيةُ، والفَتْكُ والشُّرورُ، والمُرادُ: أنَّ المُسلِمَ يَمنَعَ أذاهُ وضَررَهُ عن جارِه. (الدرر السنية).

وفي الحديث المتفق عليه: “مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جارَهُ “..
إن إيذاء المسلمين وبخاصة الجيران سبب لدخول النار، وكف الأذى عنهم من أسباب دخول الجنة..

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يُذكَر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تُؤذِي جيرانها بلسانها، قال: “هي في النار”، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يُذكَر من قلة صيامها وصلاتها، وصدقتها، وأنها تصدَّق بالأتوار من الأقِط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: “هي في الجنة” رواه أحمد وسنده صحيح ..
إيذاء العلماء والأولياء والصالحين.. فمن أقبح ألوان الأذى: أن يؤذى المؤمنون في دينهم ، وكم لهذا الأمر من صورٍ في مجتمعنا؛ فلمز الصالحين، وسبُ العلماء، واتهام نيات الدعاة، والتطاول على المصلحين، صنوف من الأذى المشينة، فلتكن لها نابذاً، وعنها مباعداً..
ويزداد جُرمُ الأذى وإثمُهُ وشناعتُه عندما يكون موجَّهاً إلى أحدٍ من أهل العلو والتقوى والصلاح؛ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ”، فمن ذا الذي يقدر على محاربة الله عز وجل؟..
ومن شدة الحرص على عدم إدخال الشكوك بين المسلمين، وعدم فتح الباب للشيطان للإفساد بينهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ”..

وفي رواية عند الترمذي: “فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ”..
قال قتادة: “إياكم وأذى المؤمن؛ فإن الله يحوطه ويغضب له”.
والوقوف في وجه الآمرين بالمعروف الذين يُصلحون إذا فسد الناس، وتتبع عثراتهم، والافتراء عليهم، والتطاول عليهم بالقول، وأشنع منه التعدي بالفعل، نوع من الأذى في الدين لا يرضاه كل مؤمن، ويخشى معه من عقوبةٍ تحل بالمؤذي وبمن قدر على نصرته ، وجماع الأمر أن الأذى مذموم، والمؤذي متعرض للوعيد، والقصاص -إن فات في الدنيا- فهو في الآخرة خسارة الحسنات..

وإذا كان الأذى مذموم في حق الحيوانات، فكيف حين يؤذى أكرم المخلوقات، وهو الإنسان المؤمن؟! وقد قال الفضيل بن عياض: “لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف بمن هو أكرم مخلوق؟!”.
.أذى المؤمنين في ظلهم وطريقهم .

ومن صور الأذى: التخلِّي في طرق الناس وأفنيتهم، وقضاء الحاجة في أماكن تنزُّههم، وجلوسهم، وتنجيسها، وتقذيرها بالأنجاس والمهملات ، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “اتقوا اللعَّانَيْن”، قالوا: وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: “الذي يتخلَّى في طريق الناس، وظِلِّهم” رواه الإمام مسلم..
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قَالَ: “مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ؛ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعَنَتُهُمْ”(أخرجه الطبراني).

ومن صور الأذى: وضع القاذورات والأحجار وتضيق الطرقات على المسلمين والمسلمات..
ومن ذلك أيضا: في تسريب مياه الصَّرف الصحي فيها؛ فيتأذَّى الناس بالرائحة، إضافةً إلى تنجيسهم، وتأذِّي الناس بذلك أعظمُ من تأذِّيهم بقضاء الحاجة في الطَّريق

الذنوب تبيح لهم أن يلعنوا مؤذيهم، وتجلب للمؤذي غضب الله تعالى بسب أذاهم ، وإن كف الأذى عنهم صدقة من جليل الصدقات ، وحسنة رتب الله عليها المغفرة ودخول الجنات.. وعد – صلى الله عليه وسلم – إماطة الأذى عن الطريق من الصدقات ومع أنها من أذى خصال الإيمان فقد نال بها شخص المغفرة ودخل الجنة قال – صلى الله عليه وسلم -: وهو يذكر خصال الإيمان «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»، وقال – صلى الله عليه وسلم -:«وإماطة الأذى عن الطريق صدقة»..

وقال – صلى الله عليه وسلم -:«رأيت رجلًا يتقلب في الجنة بغصن شوك نحاه عن الطريق»..
وإلقاء الأذى في طرقات المسلمين، أو في أماكن جلوسهم وتنزههم، أو التخلي في مواردهم..
وقد غفر الله لرجل وجد غصناً على طريق، ففي الحديث: “بينَما رجُلٌ يمشي بطريقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ على الطريق، فأخَذَهُ -وفي روايةٍ: فأخَّرَهُ-، فشكَرَ الله له؛ فغَفَرَ لهُ” (متفق عليه)..
وكف الأذى من أهم حقوق العباد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: “إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ!” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ”، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: “غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ”. (متفق عليه)..
وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! دُلَّني على عملٍ يُدخِلُني الجنة، قال: “اعزِلِ الأذَى عن طريق المسلمين” رواه أحمد وسنده صحيح ..
..الإيذاء الزوجي..

ومن صور الإيذاء والاعتداء: إيذاء الرجلِ زوجتَه بالجور، والظلم، والقهر، والقسوة، والغلظة، والبخل، والحرمان، والتهمة، والظن، والتخوين، والشك في غير رِيبة، ومعاملتها بالخلق الدنيء، واللسان البَذِيء الذي لا تَبْقَى معه عِشْرَة، ولا يدوم معه استقرارٌ ولا سكونٌ ولا راحة..ومن الرجال من يترك زوجته مُعلَّقة، لا ذات زوجٍ ولا مُطلَّقة، ليحمِلَها على الافتداء ودفع عِوَضِ المُخالعة ظلماً وعدواناً، ومن الرجال من يحرم المرأة أولادها بعد تطليقها إمعاناً في الإساءة والأذى.

ومن صور الأذى: إيذاء المرأة زوجَها بالمعاندة والمعارضة والمكايدة والاستفزاز، وعدم رعاية حقِّه في المغيب والمشهد، إلى غير ذلك من الصور التي يرفضها الشرع الحكيم، ويأباها الطبع السليم، والعقل المستقيم….
رفع الدعاوى الكيدية وإذاء الناس ومخاصمتهم أثمٌ كبير وبهتان عظيم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)..
..أذى الرعاة الرعية ..

ومن آذى مسلمًا من خلالِ منصبه أو سلطته وظلمه و أضرَّ به فهو آثمٌ إثما عظيماً ، فقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، ودعا له إن أحسن إليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: “اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ”..
البيع على بيع غيره ، والخطبة على خط
بته ، وقد نص الشافعيّ على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره، إذا اشتمل على إيذاء ،عن الفضيل قال: “لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف؟!” فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات!.

..أذى العمال والأجراء ..

وأذى المسلم لعماله وأجرائه؛ بهضم حقوقهم وتأخير أجورهم وتكليفهم ما يغلبه ، صورة من صور الأذى نراها في مجتمعنا، وما أعظم الأذى يكون على الضعفة ممن لا يجدون ناصراً، وكم رأينا من يشكو من هؤلاء ظلم الكفلاء..
وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: “قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ”..

..أذى الأموات..
ومن صور أذى الأموات سبهم ، والتعرض لهم بسوء ولمزهم ، أذية للأحياء من أهلهم ، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: “لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء”(رواه الترمذي)..

العنصر الثالث : الأذى المحمود ..
الأذى المحمود هو الأذى في سبيل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله أشرف ما في هذه الحياة دفاعا عن الدين والوطن ضد المعتدين الآثمين أما الاستسلام والقبول بالهاون فهو من الأذى المذموم..
وقد ضرب أنبياء الله -صلوات الله عليهم- أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى من أجل الدعوة إلى الله ومنهم نبي الله موسى عليه السلام ..
قال تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾..

وقد تحمل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- المشاق في سبيل نشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه، ولا يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ”(صحيح البخاري)..

وقال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾..
وكذلك من سار على نهجهم إلى يوم الدين..

عفا أبو بكر -رضي الله عنه- عمن أذاه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: “أن رجلًا شتم أبا بكر، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس، فجعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجب، ويتبسم، فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله؛ فغضب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقام فلحقه أبو بكر، فقال: يا رسول الله!، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: “إنه كان معك مَلَك يردُّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان؛ فلم أكن لأقعد مع الشيطان”(رواه أحمد)

وهذا ابن عباس -رضي الله عنها- حبر هذه الأمر يأتيه رجل يسبُّه ويشتمه أمام الناس، فيكظم غيظه ولا يرد عليه، فما زال الرجل يسبُّه ويشتمه، فقال له ابن عباس: “أتشتمني وتسبني وفيَّ ثلاث خصال. قال: وما هي؟ قال: ما نزلت الأمطار في أرض إلا سررت بذلك، وليس لي في تلك الأرض شاة ولا جمل، وما سمعت بقاضٍ عادل إلا حمدت الله ودعوت له في ظهر الغيب وليس لي عنده قضية، وما تعلمت آية من كتاب الله أو حديثًا من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وددت أن كل مسلم علم منها ما علمت”..

ومن جميل العفو: عفو مصعب -رضي الله عنه- عمن قتل أباه، عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق، “جلس يوما لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى: أين عمرو بن جرموز؟, وهو الذي قتل أباه الزبير، فقيل له: أيها الأمير!، إنه قد تباعد في الأرض, فقال: أوَ يظن الجاهل أني أقيده -القود: قتل النفس بالنفس- بأبي عبد الله؟! فليظهر آمنًا؛ ليأخذ عطاءه موفرًا”(أدب الدنيا والدين للماوردي)..ا

وهذا رسول الله ﷺ خاف أن يلقى الله -سبحانه وتعالى- وفي ذمته شيء لعبد من عبيد الله، فقام -عليه الصلاة والسلام- وهو في مرض الموت خطيبًا في الناس قائلاً: “أيها الناس: من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد مني اليوم -أي: فليقتص مني اليوم-، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد مني اليوم، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد مني اليوم قبل أن لا يكون هناك درهم ولا دينار..
وإن المؤمن الذي يخاطب الناس ويصبر على الأذى خير مممن ينعزل كلية عنهم ..

عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ”(مسند أحمد وسنده صحيح)..

وإن أذية العباد من أعظم الذنوب التي لا يغفرها الله -سبحانه وتعالى-؛ فالله -جل وعلا- قد يغفر الذنوب التي بين العبد وربه، أما حقوق العباد فلا تُغْفَر، تقول عائشة -رضي الله عنها- فيما ترويه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “الدَّواوينُ عند اللهِ -عزَّ وجلَّ- ثلاثةٌ؛ فديوانٌ لا يعبَأُ اللهُ به شيئًا، وديوانٌ لا يترُكُ اللهُ منه شيئًا، وديوانٌ لا يغفِرُه اللهُ. فأمَّا الدِّيوانُ الَّذي لا يغفِرُه اللهُ فالشِّركُ باللهِ، قال اللهُ -عزَّ وجلَّ-: (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)[النساء:48]، وأمَّا الدِّيوانُ الَّذي لا يعبَأُ اللهُ به شيئًا فظلمُ العبدِ نفسَه فيما بينَه وبينَ ربِّه، وأمَّا الدِّيوانُ الَّذي لا يترُكُ اللهُ منه شيئًا فظلمُ العبادِ بعضِهم بعضًا القِصاصُ لا محالةَ”..

وختاماً : فالحذر الحذر يا إخوة الإسلام من أذية العباد ، إن أذية المؤمنين والمؤمنات من كبائر الذنوب التي حذرنا منها علام الغيوب ؛ فاتقوا الله عباد الله، وكُفوا أذاكم عن المسلمين، واشتغِلوا بعيوبِكم عن عيوب الآخرين، وتذكَّروا يوماً تُوقَفُون فيه بين يدي ربِّ العالمين..

أين نحن -يا عباد الله- من هذه الأحاديث؟
وأين نحن من هذه التوجيهات؟
إلى الله نشكو الحال التي وصلنا إليها؛ أصبح كثير من الناس ذئابًا في ثياب بشر، أصبح كثير من الناس لا يهدأ لهم جَنْب ولا تنام لهم عين إلا إذا باتوا على أذى العباد، ليس لهم دَيْدَنٌ إلا تَتَبُّع العورات وتَصَيُّد الزلات والعثرات؛ فأين الصلاة؟ وأين الزكاة؟ وأين الصوم؟ أين الإسلام؟ وأين الإيمان؟ وأين الخوف من الله الواحد الديان؟ والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: “طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس”..

نسال الله تعالى أن يكُفَّنا ويكُفَّ عنا الأذى وعن جميع بلاد المسلمين وأهلك الصهاينة المعتدين وأرنا فيهم عجائب قدرتك ، وانتقم لدماء الأبرياء والمستضعفين ، و انصر بقدرتك الإسلام وأعز المسلمين. واحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين ..واللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار. العبد الفقير إلى عفو ربه محمد جاد قحيف .شوني. طنطا..