خطبة بعنوان ( الأوطان ليست حفنة من تراب )
إعداد فضيلة الشيخ :عادل عبدالكريم توني إبراهيم
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف
عناصر الخطبة :
١- الوطن من أجل النعم، وحبه غريزة فطرية .
٢- واجبنا نحو الوطن .
٣- من دعائم وأسباب الحفاظ علي الأوطان .
الخطبة الأولي..
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد…
إخوه الايمان والاسلام :
(١)-إن من أعظم وأجل نعم الله تعالي على الإنسان أن يكون له وطن يأمن فيه على نفسه واهله وعرضه وماله .
أخرج الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن محصن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قال : ” مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ ، مُعافًى في جسده عندَهُ قوتُ يومِهِ ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا ” حديث حسن.
وذكر الله تعالي هذه النعمة ممتنا بها علي قريش فقال تعالي: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾ (سورة قريش : ١-٤ )
ولبيان أهمية تلك النعمة حاجة كل إنسان لها قرن الله تعالي بين خروج روح الإنسان من جسده وبين خروجه من وطنه فقال تعالي :﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ ( سورة النساء : 66 ).
– وحب الوطن إخوة الإيمان غريزة فطرية جبل عليها كل إنسان عاش على ترابه وأكل من خيره وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم – المثل والقدوة الحسنه في حب الوطن والشوق إليه لما أخرج منه وهاجر إلي المدينة المنورة ، فعن عبد الله بن عدي – رضي الله عنه – قال : ” رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ واقفًا على الحزوَرةِ فقالَ: واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ ” أخرجه الترمذي .
وعن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما أطيبَكِ من بلَدٍ وأحبَّكِ إلَيَّ ، ولولا أنَّ قومِي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ ” )أخرجه الترمذي )
وظل النبي – صلى الله وسلم – مدة مكثه في المدينه يحن للرجوع الى بلده مكة المكرمة حتى من الله عليه بالفتح المبين ، أتي اليه أصيل بن عبد الله الغفاري من مكة فسأله شوقاً إليها قال :” كيف تركت مكة يا أصيل؟ فجعل يصفها له حتى قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دع القلوب تقر يا أصيل ولا تحزنا “
(٢)- من الواجب علينا تجاه هذه النعمة ومن تمام شكر الله عليها , إن نعمل علي أمنه واستقراره ورفعته وذلك يكون :
بالعمل الجاد المتقن قال الله تعالي : {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
عن السيدة عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قال : ” إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ “
صحيح الجامع .
وتلك القيمة توفرت وبقوّة مع أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم ، فهذا عبدالرحمن بن عوف، قال لسعد بن الربيع: (دلني على السّوق)، إنها دعوة للتميز والاستقلاليّة لا التبعيّة للآخرين، حتى أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلّم- قرّر مع بدايات هجرته ببناء سوق للمسلمين، بديلا عن سوق اليهود؛ لئلا يكون تبعًا لهم، وأن يكون متميزًا في معاملته التجارية بما يتناسب وشريعة الإسلام، وكما يقول الشيخ الشعراوي -رحمه الله-: (من لم يكن طعامه من فأسِه، فلن يكون قراره من رأسه).
– وبالحفاظ علي وحْدة الصفّ المجتمع كما فعل النبيّ- صلى الله عليه وسلّم – في أوّل مَقْدِمِهِ إلى المدينة الطيبة؛ آخى بين المسلم والمسلم أخوة إنسانية ووطنية وإسلامية، كما آخى بين المسلم وغير المسلم أخوة إنسانية ووطنيّة، فاستطاع أن يحفظ الوطن في أوّل عهد تأسيسه، يقول الله تعالى:
قال جل وعلا:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..}(آل عمران:103)، وقال تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران: 105).
وقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، والنبي – صلى الله عليه وسلّم – يقول –كما ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان- رضي الله عنه : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
فكونوا جميعًا إذا اعترى
خطبٌ ولا تتفرّقوا آحادًا
تأبى الرّماح إذا اجتمعن تكسّرًا
وإذا تفرّقت تكسّرت أفرادًا.
فالاعتصام بحبل الله جل وعلا وعدم التنازع والفرقة هو الحجر الأساس في بناء المجتمع الآمن المستقر ، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في هذا السياق: «عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة».
– وعلينا أن ندافع عن وطننا ، ونضحي من أجله فوطنك هو بيتك و أهلك ومالك .
قال الله تعالي : ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ (سورة آل عمران: ١٦٩ )
وعن سعيد بن زيد – رضي الله عنه – أحد العشرة المبشرين بالجنة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم – : ” مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ “رواه الترمذي حديث صحيح .
وعن المقداد بن. معدي كرب – رضي الله عنه – ان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” للشهيدِ عندَ اللهِ ستُّ خصالٍ : يُغفرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرى مقعدَهُ منَ الجنةِ، ويُجارُ منْ عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، الياقوتةُ منها خيرٌ منَ الدنيا وما فيها، ويُزوَّجُ اثنتينِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ منْ أقاربِهِ “أخرجه الترمذي (1663) واللفظ له، وابن ماجه (2799)، وأحمد (17182) .
– وأن ندعو له بالأمن والأمان والرخاء والاستقرار فقد دعا الانبياء عليهم السلام لأوطانهم مع ما لاقوه من أقوالهم من الأذي قال الله تعالي : ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِير ﴾(سوره البقرة :١٢٦)
وفي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : “كانَ النَّاسُ إذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاؤُوا به إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا في مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا في مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنَّه دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وإنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بمِثْلِ ما دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ معهُ، قالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ له فيُعْطِيهِ ذلكَ الثَّمَرَ. ” أخرجه مسلم (1373) .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي لكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية..
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،ومن أسباب الحفاظ علي الأوطان تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ …… فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
وبعد…
(٤)- فإن من دعائم وأسباب الحفاظ علي الأوطان :
تحقيق الإيمان بالله عز وجل ، والعمل بطاعة الله ورسوله ، والبعد عن معصيتهما .
قال اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهَا، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].
حين نربّي الأمة على القيم الإيمانية يشيع الأمن (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ)[الأنعام:82]، ومن هنا نقول: إنَّ حِفْظ أمن المجتمع يكون بحفظ أخلاقه التي تُشَكِّل ضمانةً لعدم الانحراف، أما علبُ الليل ودورُ المجون، وترويجُ المخدراتِ والخمورِ فكل ذلك تعد محاضنَ للجريمة وتشكل عبئًا على أمن المجتمع.
– وقد وَعَدَ اللهُ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُؤْمِنَةَ بِالرِّزْقِ الطَّيِّبِ الْوَفِيرِ:
قال الله تعالي: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وقال تعالي : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( النحل: 97 ) )
– ووَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وَللهِ الْعِزَّةُ بِقَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَلِرَسُولِهِ ﷺ بِإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِ اللهِ لَهُمْ بِالْقُوَّةِ الْغَالِبَةِ وَنَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
يقول ابن عطاء الله السكندري: “إلهي ماذا وجد مَن فقَدك؟! وماذا فقَد مَن وجدك”؟!
– ومن أسباب الحفاظ علي الأوطان والمجتمعات البعد عن المعاصي ، ومن أسباب هلاكها ظهور المعاصي وانتشارها في المجتمع مع سكوت الناس عن تغييرها؛ لأن المعصية إذا أعلنت دبَّ بلاؤها إلى العامَّة والخاصَّة، ولم يبقَ وبالها مُقتصراً على مُرتكبها.
يقول الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]. أي: احذروا أيها المؤمنون عقاباً مُؤْلماً لكم، لا يَقْتَصِرُ على إصابة الظالمين منكم فقط، بل يعُمُّ الظالمين وغيرهم، فيكون للظالمين عقاباً، ويكون لغير الظالمين امتحاناً واختباراً، أو تربية وتأديباً، واعلموا علماً جازماً أنَّ الله شديد العقاب؛ فاتقاء الفتنة يكون بالكفِّ عن الذنوب، والأخذ على يد المجاهرين بالمعاصي.
قال الله -تعالي-: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:164-165].
فالسكوت عن المعاصي من مُوجبات العقاب والهلاك، لأن السكوت عنها يغري أصحابها على التمادي فيها واستفحال أمرها وانتشارها، وهذا الجانب من أسباب العقاب.
روى البخاري عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “مثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هَلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً”.
وروى أحمد عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: “إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده”، فقلت: يا رسول الله أما فيهم الصالحون؟ قال: “بلى”، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: “يصيبهم ما أصاب الناس؛ ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان”.
وعن السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا فزعًا يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب، فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث»(رواه البخاري ومسلم) .
الشاهد من الحديث: “أنهلك وفينا الصالحون”؟ قال: “نعم، إذا كثر الخبث”.