من مذكرات سيدي برهان الدين أبو الإخلاص رضي الله عنه
يقدمها لكم : الشيخ السيد محمد البلبوشي
خويدم الطريقة الإخلاصية – خطيب بوزارة الأوقاف
المَعْرِفَةُ
قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَاأُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ ﴾.
( مَشْهَدٌ ) حَقِيقَةُ المَعْرِفَةِ انْكِشَافٌ يُوجِبُ رَفْعَ الغِطَا عَمَّا اسْتَتَرَ وَتَغَطَّى ، وَهُوَ يَكُونُ بِحَسَبِ كُلِّ خَطْرَةٍ ومُثُولٍ ، وَمَقَام اسْتِعْدَادٍ وَقَبُول .
( شَاهِدٌ ) مَعْرِفَةُ الفَرْدِ فَرِيدَةُ الإِفْرَادِ ، غَرِيبَةُ الوُجُودِ بَيْنَ الآحَادِ .
الطُّرُقُ شَتَّى وَنَهْجُ الحَقِّ مُفْرَدَةٌ وَالسَّالِكُونَ لَهَا فِى القَوْمِ أَفْرَادِ
( مَشْهَدٌ ) شُهُودُ حَضـْرَةِ العِرْفَانِ ، مَانِعٌ مِنْ شُهُودِ الغَيْرِ فِى الأَ كْوَانِ ، رُوحُ حَيَاتِهَا مُنَادَمَةُ الحَبِيبِ عِنْدَ غَيْبَةِ الرَّقِيبِ .
أَنْتُم حَيَاتِى وَأَنْتُم مُشْتَكَى حَزَنِى وَأَنْتُم فِى ظَلَامِ اللَّيْلِ سُمَّارِى
فَإِنْ تَكَلَّمْتُ لَمْ أَنْطِقْ بِغَيْرِكُمُ وَإِنْ سَكَتُّ فَأَنْتُمِ عِقْدُ إِضْمَارِى
( شَاهِدٌ ) دَلِيلُ وِجْدَانِ العَارِفِ ، وُرُودُ وَارِدَاتِ المَعَارِفِ مُنَاغِيَةً لَهُ بِحَدِيثِ حَبِيبِهِ وَمَشْهُودِهِ فِى حَضْرَةِ وِصَالِهِ وَشُهُودِهِ .
وَأَمِيلُ نَحْوَ مُحَدِّثِى لِيَرَى أَنِّى أُعِيرُ حَدِيثَهُ عَقْلِى
وَشُغِلْتُ عَنْ فَهْمِ الحَدِيثِ سِوَى مَا كَانَ مِنْكَ فَإِنَّهُ شُغْلِى
( مَشْهَدٌ ) ظَهَرَتْ مَخَايِلُ القُرْبِ وَالتَّدَانِى عَلَى عَبْدٍ يُعَانِى لِلْمَعَانِى ، سِيَّمَا إِذَا حُلِّيَتْ بِحِلْيَةِ الجَمَالِ ، فَقَدْ بَشَّرَتْهُ بِقُرْبِ الوِصَالِ .
يُبَشِّرُنِى جَمَالُكَ بِالتَّدَانِى فَأَطْمَعُ بِالأَمَانِ مَعَ الأَمَانِى
فَلِى فِى كُلِّ جَارِحَةٍ سُرُورٌ وَلِى فِى كُلِّ نَاطِقَةٍ مَعَانِى
( شَاهِدٌ ) لَمَّا حَضَـرَ العَارِفُ حَضْرَةَ الحُضُورِ ، رُفِعَتْ لَهُ الغَيَاهِبُ وَالسُّتُورُ ، فَهُوَ وَإِنْ تَوَارَى عِنْدَ المَحْبُوبِ فِى بَعْضِ الزَّمَانِ عِنْدَ مُطَالَعَةِ العِيَانِ ، فَقَدْ تَرَاءَى لَهُ فِى الجَنَانِ .
لَئِنْ كُنْتَ عَنِّى فِى العِيَانِ مُغَيَّبَاً فَمَا أَنْتَ عَنْ قَلْبِى وَ سِرِّى غَائِبُ
إِذَا اشْتَاقَتْ العَيْنَانِ مِنْكَ لِنَظْرَةٍ تَجَلَّيْتَ لِى فِى القَلْبِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
(مَشْهَدٌ ) هَبَّ عَرْفُ رَوْضَةِ الرِّيَاضَةِ لِعَارِفٍ اشْتَاقَ إِلَى الوِصَالِ ، فَحَرَّكَ أَشْجَارَ ثِمَارِ مَعَارِفِهِ فَقَالَ :
هَبَّتْ نَسِيمُ وِصَالِهِمِ سَحَرَاً فَجَرَى نَسِيمُ الشَّوْقِ فِى قَلْبِى
وَاهْتَزَّ غُصْنُ الوَجْدِ مِنْ طَرَبٍ فَتَنَاثَرَتْ ثَمَرَاتٌ مِنَ الحُبِّ
وَبَدَتْ شُمُوسُ الوَصْلِ خَارِقَةً بِشُعَاعِهَا لِسُرَادِقِ الحُجُبِ
وَصَفَا لَهُ وَقْتٌ أَضَاءَ بِهِ وَجْدُ الرِّضَا عَنْ ظُلْمَةِ العَتْبِ
وَبَقِيتُ لَاْ شَىءَ أُشَاهِدُهُ إِلّا ظَنَنْتُ بِأَنَّهُ حُبِّى
هَذَا حَالُ مَنْ وَقْتُهُ صَفَا ، وَذَهَبَ عَنْهُ الجَفَا ، وَحَلَّ حَضَرَاتِ الوَفَا مَعَ أَهْلِ القُرْبِ وَالاصْطِفَا .
( شَاهِدٌ ) أَهْلُ المَعْرِفَةِ لَهُمْ حَنِينٌ إِلَى المَحْبُوبِ ، وَزَفَرَاتٌ بِهَا القَلْبُ يَذُوبُ ، وَمَدَامِعُ لَوْلَاْهَا أَحْرَقَتْهُم نَارُ الإِشْتِيَاقِ ، وَلَهِيبُ وَجْدٍ بِهِ مَنَعَتْ الدُّمُوعُ الإِغْرِاقَ .
لَوْلَا مَدَامِعُ عُشَّاقٍ وَ لَوْعَتُهُم لَبَانَ فِى النَّاسِ عِزُّ المَاءِ وَ النَّارِ
فَكُلُّ نَارٍ فَمِنْ أَنْفَاسِهِم قُدِحَتْ وَكُلُّ مَاءٍ فَمِنْ دَمْعٍ لَهُم جَارِى
( مَشْهَدٌ ) اسْتَغْرَقَ صَاحِبُ المَعْرِفَةِ فَغَابَ عَنِ الوُجُودِ ، وَفَنِىَ بِالمَشْهُودِ عَنِ الشُّهُودِ .
وُجُودِى أَنْ أَغِيبَ عَنِ الوُجُودِ بِمَا يَبْدُو عَلَىَّ مِنَ الشُّهُودِ
( شَاهِدٌ ) لَطُفَتْ كُؤُوسُ الأَذْوَاقِ ، وَاسْتَعْذَبَتْ فِى يَدِ المَذَّاقِ ، بَلْ حُلِّيَتْ وَطَابَتْ ، وَجُلِّيَتْ وَطَافَتْ عَلَى مُلُوكٍ مَلَكُوا حَضْـرَةَ التَّدَانِى ، وَخُلَّاعٍ سَكِرُوا بِخَمْرَةِ المَعَانِى ، فَلِلَّهِ مَاسَمِعُوا فِى الحَانِ مِنْ تَوْقِيعِ الأَلْحَانِ حِينَ أَنْشَدَهُم الحَادِى مُعْرِبَاً ، وَأَسْكَرَهُم مُطْرِبَاً .
وَأَمْطَرَ الكَأْسُ مَاءً مِنْ أَبَارِقِهَا فَأَنْبَتَ الدُّرَّ فِى أَرْضٍ مِنَ الذَّهَبِ
وَسَبَّحَ القَوْمُ لَمَّا أَنْ رَأَوْا عَجَبَاً نُورَاً مِنَ المَاءِ فِى أَرْضٍ مِنَ العِنَبِ
سُلَافَة وَرِثَتْهَا عَادٌ عَنْ إِرَمٍ كَانَتْ ذَخِيرَةَ كِسْرَى عَنْ أَبٍ فَأَبِ
( مَشْهَدٌ ) غَابَ العَارِفُ بِخَمْرَةِ حُبِّهِ عَنِ الحِسِّ ، فَانْجَلَى نُورُ مَحْبُوبِهِ كَالشَّمْسِ ، فَهُنَاكَ دَامَ لَهُ السُّكْرُ وَطَفَحَتِ الدِّنَانِ ، وَدَارَتْ عَلَيْهِ كُؤُوسُ المَحَبَّةِ بِالعِرْفَانِ .
مَازَالَ يَشْرَبُهَا وَتُشْرِبُ عَقْلَهُ خَبَلَاً وَتُؤْذِنُ رُوحَهُ بِرَوَاحِ
حَتَّى انْثَنَى مُتَوَسِّدَاً لِيَمِينِه سُكْرَاً وَ أَسْلَمَ رُوحَهُ لِلرَّاحِ
( شَاهِدٌ ) العَارِفُ إِذَا امْتُحِنَ بِالهِجْرَانِ ، قَامَ بِالأَدَبِ مَعَ الكِتْمَانِ ، وَإِنْ عَدَّدَ وَنَاحَ ، لَمْ يَكُنْ أَن يُقَالَ بَاحَ .
يَاشَمْسَ ضُحَيً جَبِينُهَا وَضَّاحٌ سَاعَاتُ وَصْلِكَ كُلُّهَا أَفْرَاحُ
عُشَّاقُكَ لَوْ فَعَلْتَ مَا شِئْتَ بِهِم مَاتُوا كَمَدَاً وَ بِالْهَوَي مَا بَاحُوا
( مَشْهَدٌ ) تَجَلَّتْ أَنْوَارُ بَهْجَةِ الحَضْـرَةِ ، فَهَامَ العَارِفُ لَمَّا نَظَرَ هُنَاكَ نَظْرَةً ، وَعَجِبَ حَيْثُ شَهِدَ وَجْهَ جَمَالِهَا فِى جَمِيعِ تَطَوُّرَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا .
تَنَاهَتْ جَمَالَاً فَهِىَ وَجْهُ جَمَالِهَا فَمُقْبِلَةٌ تَأْتِى وَ مُقْبِلَةٌ تَمْضِى
( شَاهِدٌ ) حَضْـرَةُ مَشْهَدِ الإِحْسَانِ تَأْبَى إلَّا الكَمَالَ دُونَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ بِوَصْفِ القُدُّوسِيَّةِ لِلقُدُّوسِ ، ظَاهِرَةٌ بِذَلِكَ ِلأَرْبَابِ الأَرْوَاحِ وَالعُقُولِ وَالنُّفُوسِ .
لَيْسَ فِيهَا مَا يُقَالُ لَهُ كَامِلٌ إِذَ كُلُّهَا كَمُلَا
كُلُّ شَئٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا كَائِنٌ فِى نَفْسِهِ مَثُلَا
( مَشْهَدٌ ) تَجَلَّى كَشْفُ العِيَانِ بِمَا يَزِيدُ عَلَى العِرْفَانِ ، هُوَ حَضْـرَةُ انْقِلَابِ الأَعْيَانِ ، أَلَا تَرَى كَيْفَ شَهِدَ العَارِفُ ذَلِكَ بِكُلِّيَتِهِ ، وَسَمِعَ وَقْتَ المُنَاجَاةِ بِجَمِيعِ أَنِيَّتِهِ .
إِذَا مَا بَدَتْ لَيْلَى فَكُلِّى أَعْيُنٌ وَإِنْ هِىَ نَاجَتْنِى فَكُلِّىَ سَامِعُ
( شَاهِدٌ ) العَارِفُ مَنْ جَمَعَ الكَمَالَ ، وَحَصَلَ لَهُ القَالَ وَالحَالَ .
حَالٌ وَ قَالٌ يَشْهَدَانِ بِأَنَّهُ حَازَ الكَمَالَ بِكُلِّ مَعْنًى أَنْفَسَ
( مَشْهَدٌ ) تَجَلَّتْ أَسْرَارُ الكَائِنَاتِ لِعَارِفٍ فَهِمَ مِنْهَا الإِشَارَاتِ ، وَقَرَأَ مَا سَطَّرَهَا مِنَ العِبَارَاتِ .
تَأَمَّلْ سُطُورَ الكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا مِنَ المَلَإِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ
( شَاهِدٌ ) لَيْسَ العَارِفُ مَنْ نَفَى جَمِيعَ الطُّرُقِ غَيْرَ طَرِيقِهِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ سِوَى سُلُوكِهِ وَتَحْقِيقِهِ ، بَلِ المُسَلِّكُ السَّالِكُ مَنْ سَلَكَ جَمِيعَ المَسَالِكِ .
إِشَارَاتُنَا شَتَّى وَ حُسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ إِلَى ذَاكَ الجَمَالِ يُشِيرُ
( مَشْهَدٌ ) العَارِفُ مَنْ وَرَدَ البَحْرَ دُونَ العُيُونِ ، وَأَبْرَزَ حَقَائِقَ المَعَارِفِ وَالفُنُونِ .
مِنْ كُلِّ مَعْنَى يَكَادُ المَيِّتُ يَفْهَمُهُ حِسَّاً وَ يَعْشَقُهُ القِرْطَاسُ وَ القَلَمُ
( شَاهِدٌ ) العَارِفُ مَعَ عِزَّتِهِ ذَلِيلٌ لِأَهْلِ الحَىِّ ، مُكَرَّمٌ لِكُلِّ مَنْ فِى حِمَى لَيْلَى وَمَىٍّ .
وَمِنْ أَجْلِ لَيْلَى صِرْتُ عَبْدَاً لِأَهْلِهَا وَأُ كْرِمُهُم طِفْلَاً وَ عَبْدَاً وَ رَاجِلَا
وَبِالحَىِّ إِنْ شَاهَدْتُ حَيًّا أُحِبُّهُ فَكُنْتُ لَهُمْ خِلَّاً حَبِيبَاً مُوَاصِلَا
( مَشْهَدٌ ) العَارِفُ مَنْ هُوَ كَمَجْنُونِ لَيْلَى ، قَدْ هَامَ بِهَا نَهَارَاً وَلَيْلَاً ، إِنْ اشْتَاقَ فَإِلَيْهَا ، وَإِنْ بَكَى فَعَلَيْهَا .
لَئِنْ كَانَ هَذَا الدَّمْعُ يَجْرِى صَبَابَةً عَلَى غَيْرِ لَيْلَى فَهُوَ دَمْعٌ مُضَيَّعُ
(شَاهِدٌ ) مَعْرِفَةُ الأَمِينِ عَلَى الأَسْرَارِ تَأْبَى أَن يُطْلِعَ عَلَى سِرِّهَا غَيْرَ الأَحْرَارِ ، وَهَذَا شَأْنُ الكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ .
وَمُسْتَخْبِرٌ عَنْ سِرِّ لَيْلَى رَدَدْتُهُ بِعَمْيَاءَ مِنْ لَيْلَى بِغَيْرِ يَقِينِ
يَقُولُونَ حَدِّثْنَا فَأَنْتَ أَمِينُهَا وَمَا أَنَا إِنْ حَدَّثْتُهُم بِأَمِينِ
( مَشْهَدٌ ) تَرَاءَى الأَقْمَارُ لِلأَحْرَارِ فَحَدَّثَ بِالأَخْبَارِ الأَحْبَارِ وَكَذَّبَهُم الأَشْرَارُ ، فَصلُوا جَمِيعَاً الإِنْكَار .
وَإِنْ كُنْتَ بِالمَدَارِكِ غِرًّا وَتُرَى ثَمَّ حَاذِقَاً لَاْ تُمَارِى
وَإذَا لَمْ تَرَ الهِلَالَ فَسَلِّمْ لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالأَبْصَارِ
( شَاهِدٌ ) العَارِفُ يَنْمُو حَالُه فِى حَالِ حَيَاتِهِ ، وَيَشْتَهِرُ عِنْدَ النَّاسِ بَعْدَ وَفَاتِهِ .
يَمُوتُ قَوْمٌ وَيُحْيِى العِلْمُ ذِكْرَهُمُ وَالجَهْلُ يُلحِقُ أَحْيَاءً بِأَمْوَاتِ