خطبة بعنوان ( فضل الرحمة والتراحم ) للدكتور محمد جاد قحيف

خطبة بعنوان ( فضل الرحمة والتراحم )
خطبة الجمعة أول ايام عيد الأضحى المبارك وكل عام وحضراتكم بخير..

 

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
ayam alrah,a walmagfera mohamed jad

الحمد لله جعل الحمد مفتاحًا لذكره، وجعل الشكر سببًا للمزيد من فضله، الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعز من أطاعه ووالاه ، ويذل من عصاه وجفاه ، وأشهد أن نبينا محمدًا رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه ، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فصلوات الله وسلامه على الرحمة المهداة ، والنعمة المزداة والسِّراج المُنير وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر المايمين ، وسلم تسليمًا كثيرًا ،

و بعد: فاليوم هو يوم العيد يوم النحر ، العاشر من ذي الحجة ، أفضل ايام الدنيا ، وهي أيام عظيمة، تتجلى فيها الرحمة، وتزداد فيها النفحات، فيا مريد الخير أقبل، واستمر على الطاعة ويا مترددًا في التوبة أعزم، وولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، حيث انبثق النور، وسال وادي الرحمة يتدفَّق على العالمين، يحمل معه البشرى، وينشر اليقين، معلنًا استسلامه للملك الحق المبين.. يجول بخاطره وهو ينظر إلى ثرى مكة، فيرى خيال الحبيب – صلى الله عليه وسلم – وهو يخطو خطواته الأولى هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، ففي المشاعر ذكريات ، ودموع ساخنات، تسكب فيه العبرات ، وتغفر فيه الذنوب والسيئات ، وقرحت خُدود المتقين، من نفوس خاشعات..
يا زائراً قبر الحبيب الهادي
أبلغ رسول الله شوق فؤادي
إني بحبك يا رسولُ متيمٌ
وزيــــارتي إيــــاك كل مرادي ..

ومن دعاء النبي ﷺ عشية عرفة طلب الفوز برحمة الرؤوف الرحيم:
” اللهم إنك تَسْمَعُ كلامي، وتَرَى مكاني، وتَعْلَمُ سِرِّي وعلانيتي، لا يَخْفَى عليكَ شيءٌ من أَمْرِي، وأنا البائسُ الفقيرُ، الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ، الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بذنبِه، أسألُكَ مسألةَ الْمِسْكِينِ، وأَبْتَهِلُ إليكَ ابتهالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وأدعوكَ دعاءَ الخائفِ الضريرِ، مَن خَضَعَت لك رقبتُه، وفاضت لك عَبْرَتُه، وذَلَّ لك جِسْمُه، ورَغِمَ لك أَنْفُه، اللهم لا تَجْعَلْنِي بدعائِكَ شَقِيًّا، وكن بي رؤوفًا رحيمًا، يا خَيْرَ المسؤولينَ، ويا خَيْرَ الْمُعْطِينَ ” أخرجه الطبراني وفي سنده مقال..
العنصر الأول :  الرحمة من أهم صفات الرحمن ..
لقد وصف الله نفسه بصفة الرحمة في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، فهو سبحانه أرحم الراحمين، و خير الراحمين وذو رحمة واسعة …
ويكفي الرحمة شرفا وقدرا أنها صفة من صفات الله -عز وجل-، يتضمنها اسمه سبحانه: الرحمان، واسمه: الرحيم. فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما..
قال ابن الأثير -رحمه الله تعالى-: في أسماء الله -تعالى-: “الرّحمن الرّحيم” وهما اسمان مشتقّان من الرّحمة… وهما من أبنية المبالغة ورحمن أبلغ من رحيم. والرّحمن خاصّ بالله لا يسمّى به غيره، ولا يوصف. والرّحيم يوصف به غير الله -تعالى-، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال: رحمن. والرّحمة من صفات الذّات لله -تعالى- والرّحمن وصف، وصف الله -تعالى- به نفسه وهو متضمّن لمعنى الرّحمة.

ومما جاء في القرآن الكريم عن سعة رحمة الرحمن
قوله تعالى:
{قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..} الأنعام /١٢.

وقوله جل شأنه :{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } الأعراف/١٥٦..

وقوله جل وعلا :{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}الأنعام /١٣٣.
وقوله سبحانه:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }.الزمر/٥٣..
وقال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7]..

أما في السنة النبوية الشريفة فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يحدث أصحابه عن رحمة ربه وعن مظاهرها التي تتجلى في هذا الكون الفسيح، وذلك حتى يهذب نفوسهم ويزكيها، ويدعوهم إلى الأمل والتفاؤل وحسن الظن بخالقهم -سبحانه وتعالى- وحتى يحسنوا العمل ويتراحموا فيما بينهم، وكان يستغل الأحداث والمواقف ليذكرهم بها، فقد قدِم على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسبْيٍ ، فإذا امرأةٌ من السَّبيِ تسعَى ، إذ وجدت صبيًّا في السَّبيِ فأخذته وألصقته ببطنِها وأرضعته ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ” أترون هذه طارحةً ولدَها في النَّارِ ؟ قلنا : لا واللهِ ، وهي تقدرُ أن لا تطرحَه ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : اللهُ أرحمُ بعبادِه من المرأةِ بولدِها”. أخرجه الإمام البخاري مطولا .

وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( جعل اللهُ الرحمةَ مائةَ جُزءٍ ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءًا ، وأنزل في الأرضِ جزءًا واحدًا ، فمن ذلك الجزءِ تتراحمُ الخلقُ حتى ترفعَ الفرسُ حافرَها عن ولدِها خشيةَ أن تُصيبَه ) (متفق عليه)..

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم ( لما قضى اللهُ الخلقَ ، كتب في كتابِه ، فهو عندَهُ فوقَ العرشِ : إِنَّ رحمتي غلبتْ غضَبِي ).. (متفق عليه)..
ومن رحمته -سبحانه- أن يُرسِلَ الرياحَ بُشْرًا بين يدي رحمته، وينزل الغيث ويحيي الأرض بعد موتها، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشُّورَى: 28]..

أما الرياح العواصف والزلازل والبراكين فهي آيات ربانية عظة وإنذارا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..
ربي رحيم ورحمـن ورحمتـه * تطوي الوجود وتغني كل محتـاج
ورحمة الله لولاها لما سبـحت * أرض بجو، ولا جاشــت بأمواج
ولا تحـركت الأقمار جـارية * لمستــقر بأفــلاك وأبـراج
من نالها فهو ناج يـوم محشره * بها ومـن لم ينلها ليس بالنـاجي..

العنصر الثاني : خلق الرحمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم..

إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنها ملئ بتلك الأخلاق الرائعة التي امتدحه الله عزوجل بها في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم4 ومن هذه الأخلاق والتي أساس في دعوته وتعامله صلى الله عليه وسلم خلق الرحمة فتأمل الوصف القرآني لهذا الخلق :

١-قال جل جلاله : “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” سورة آل عمران/ ١٥٩.
٢-وقال تعالى:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ}التوبة61

٣- و قال تعالى:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}

٤-وقال جل جلاله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107..
وتمثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلق الرحمة واقعاً وسلوكاً في الحياة امتثالاً لأمر ربه فأحبته القلوب، واطمأنت له النفوس، ولهجت بذكره الألسن، وسعد بخلقه المسلم والكافر والبر والفاجر والرجل والمرأة والصغير والكبير؛ قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) سورة آل عمران/ ١٥٩. يصل إليه الخبر -صلى الله عليه وسلم- أن ابن جاره اليهودي على فراش الموت، فأسرع إليه -صلى الله عليه وسلم- لزيارته ، ووقف عند صدره ..والقصة بتمامها عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال:”كانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَمَرِضَ، فأتَاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقالَ له: أسْلِمْ، فَنَظَرَ إلى أبِيهِ وهو عِنْدَهُ فَقالَ له: أطِعْ أبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأسْلَمَ، فَخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يقولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ.”. أخرجه الإمام البخاري.

وتبرَّأ النبي صلى الله عليه وسلم مِمن لا يرحمون صغار المؤمنين، ويوقِّرون كِبارهم، فثبت عنه صلى الله الله عليه وسلم أنَّه قال: (( ليسَ منَّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا ، و يعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا )) أخرجه أبو داود وسنده صحيح..

لقد كانت حياة نبي الهدى تشعُّ رحمةً ورأفة بالبشرية جميعًا، فكان أرحم وألطف الكائنات البشرية على مستوى الوجود ..
فهو رحمة من الرحيم الرحمن صاحب الرحمة ومصدرها، يرحم الله بها عباده ، و النبي ﷺ يستمد رحمته من الله تعالى ..

وفي السنة النبوية الشريفة أخرج الإمام مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ :قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ علَى المُشْرِكِينَ قالَ: « إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً.». وروى الحاكم في المستدرك وصححه (قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُنَادِيهِمْ :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ».

لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرحم الناس بأمّته، وشواهد ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما تحصى ، وقد شهد الله -تعالى- لنبيّه -عليه الصلاة والسلام- في القرآن الكريم بأنه رؤوف رحيم ، وأرسله الله رحمة للعالمين ..وعندما نتحدث عن رحمة النبي ﷺ نجد أنفسنا أمام بحر واسع لا ساحل له ، وكرم شاسع لا نهاية له، وأمام مائدة عليها صنوف الطعام وأطايبه ، لا ندري ماذا نأخذ، وماذا ندع ؟!! ..

العنصر الثالث : صلة الأرحام من أهم آثار الرحمة
والتراحم بين الخلق يعني نشر الرحمة بينهم، و التآزر والتعاطف والتعاون، و بذل الخير والمعروف والإحسان لمن هو في حاجة إليه..
ودين الإسلام يدعو للتزاور، لإعادة العلاقات، وتصافي القلوب، ومصالحة النفوس، والعفو عما فات، دحرًا للشيطان، وإرضاءً للرحمن، قال الله -عز وجل-: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .

كل واحد عنده علاقة انقطعت مع رحم قريب أو جار أو صديق أو مسلم فليتخذ من هذا اليوم فرصة للصلة والعودة .

ومن أهم ثمرات صلة الأرحام أنها : توسع الرزق والثانية أنها تُطيل العمر، فمن أراد هاتين الفائدتين ، فعليه بصلة الأرحام ، حتى وإن جفوا وقطعوا .

أخرج الإمام البخاري عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن أَحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقِه ، وأن يُنْسَأَ له في أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَه.. (متفق عليه)..

وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي أهْلهِ، مَثْرَاةٌ فِي مَالِه، مَنْسَأَةٌ فِي أَثَرِهِ” قال مخرجو المسند : إسناده حسن ..

وقال ﷺ: (( الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ . ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ ، الرَّحمُ شُجْنةٌ منَ الرَّحمنِ فمن وصلَها وصلَهُ اللَّهُ ومن قطعَها قطعَهُ اللَّهُ )) أخرجه الترمذي وسنده صحيح.

“الرَّاحمون”، أي: الَّذين يَرحَمون مَن في الأرضِ مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيرِه؛ شَفَقةً ورَحمةً ومُواساةً، “يَرحَمُهم الرَّحمنُ”، برَحمتِه الَّتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ، فيَتفضَّل عليهم بعَفوِه وغُفرانِه وبرِّه وإحسانِه، فاللهُ عزَّ وجلَّ متَّصِفٌ بالرَّحمةِ، وهو سُبحانَه الرَّحمنُ الرَّحيمُ، الموصِلُ الرَّحمةِ إلى عِبادِه، وليستْ رَحمتُه سبحانَه كرحمةِ المخلوقِ؛ فإنَّه عزَّ وجلَّ ليس كمِثلِه شيءٌ. … ثمَّ أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالرَّحمةِ، فقال: “ارحَموا مَن في الأرضِ”، أي: جميعَ مَن في الأرضِ مِن أنواعِ الخَلْقِ، “يَرحَمْكم مَن في السَّماءِ”، أي: مَن عَلَى السَّماءِ، وهو اللهُ تعالى العليُّ بذاتِه، المستوِي على العرشِ فوقَ سَمَواتِه. … ثمَّ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “الرَّحِمُ شِجْنةٌ”، والشِّجنةُ في الأصلِ: عُروقُ الشَّجرِ المشتَبِكةُ، والمرادُ بها القَرابةُ المشتبِكةُ كاشتِباكِ العُروقِ، والمرادُ مِنها هنا أنَّها مُشتقَّةٌ “مِن الرَّحمنِ”، أي: مِن اسمِ الرَّحمنِ، فكأنَّها مُشتبِكةٌ بمعاني الرَّحمةِ اشتِباكَ العُروقِ، وقيل: في وجهِ الشِّجنةِ أنَّ حُروفَ الرَّحمِ مَوجودةٌ في اسْمِ الرَّحمنِ، ومُتداخِلةٌ فيه كتَداخُلِ العُروقِ؛ لكَونِها مِن أصلٍ واحدٍ، والمعنى: أنَّها أثَرٌ مِن آثارِ رَحمتِه، مُشتبكةٌ بها، “فمَن وصَلها”، أي: الرَّحِمَ، “وصَله اللهُ”، أي: أوصَل اللهُ إليه رَحمتَه وإحسانَه وإنعامَه، “ومَن قطَعَها”، أي: الرَّحِمَ، “قطَعه اللهُ”، أي: قطَع اللهُ عنه الرَّحمةَ والإحسانَ والإنعامَ. وفي الحديث: الحثُّ على التراحُمِ بين الناسِ وعلى صِلةِ الأرحامِ (الدرر السنية)..

فهذه دعوة لكل المتخاصمين في صباح العيد إلى أن تتصافح قلوبهم قبل أيديهم ، وتذكر يا عبد الله أنك تتعامل مع بشر، يخطئون ويصيبون، فعوِّد نفسك الصبرَ والتغاضي عن الزلات ،وخصوصًا مع أهلك وأقاربك، وأصحابك وجيرانك ..

العنصر الرابع : الرحمة كنز الآخرة وستر يوم القيامة:
ونحن سائرون في الدنيا، فكم من موقف بين البشر أو الحيوان من الرحمة والعطف، والحنان والعفو، والصفح والود! كل هذا في الدنيا برحمة واحدة، أنزلها الله للدنيا؛ ليعيش الناس في نوع من الأمان والخير؛ ففي الحديث عن أبي هريرة: ((إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ)) (متفق عليه)..
وتأخيره – جل ثناؤه – لهذا العدد إنما هي رحمة بعباده، فإن أهوال يوم القيامة من العظمة والفزع والخوف ما لا يسكنها إلا تتابع هذه الرحمات على أهل الإيمان، وفضل من الرحمن؛ وقد ورد في الحديث ما يختصر هذا المشهد فقال صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلَمُ المؤمِنُ ما عندَ اللهِ مِنَ العقوبَةِ ، ما طَمِعَ في الجنةِ أحدٌ ، ولَوْ يَعْلَمُ الكافِرُ ما عندَ اللهِ مِنَ الرحمةِ ما قنطَ مِنَ الجنةِ أحدٌ)) أخرجه الإمام مسلم..

ومن رحمته سبحانه ستر عباده يوم القيامة: فما من عبدٍ مسلمٍ إلا ويخاف من مقامه بين يدي الله، وما من مؤمن إلا سوف يناجيه ربه يوم القيامة مناجاة المحب لحبيبه، وهنا تنزل من الرحيم أعظم الرحمات على عبده الذي أسرف على نفسه..

عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: ((سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَافِرُ والمُنَافِقُونَ، فيَقولُ الأشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] (متفق عليه) (طريق الإسلام)..

العنصر الخامس : الرحمة في واقعنا المعاصر
لقد أثنى الله -تعالى- على رسوله الكريم وصحابته فوصفهم بالتراحم بينهم، فقال سبحانه: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29]..

ومن ينظر في واقع أمتنا الأليم يجد الآية مقلوبة فكثير من المسلمين رحماء بالكافرين أشداء على المسلمين..

ومن ينظر في واقعنا يتساءل أين الرحمة بين العباد؟
فمن الناس من يشبع وجاره جائع، ومنهم من يلبس أفخر الثياب وجاره لا يجد ما يستر عورته، ومنهم من يسكن القصور الشاهقة، والناس ينامون على الأرصفة، فهل هذه هي الرحمة التي أتى بها النبي -صلى الله عليه وسلمَ-؟ وهل هذا هو منهج الإسلام في التعامل مع الآخرين ..

عباد الله: لقد عادت بعض أخلاق الجاهلية إلى حياتنا اليوم، ولكن بثوب الحضارة والتقدم والتطور في عصر الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة وغزو الفضاء وبناء ناطحات السحاب وآبار النفط وأسواق الذهب والبورصات العالمية ووسائل الراحة المختلفة، فما شعر الناس رغم هذا التطور بالسعادة والراحة والأمن؛ لأن هذه الحضارة كان جلّ اهتمامها بالجسد ونسيت غذاء الأرواح والقلوب، الغذاء الرباني من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فكان الشقاء وقسوة القلوب وذهاب المعروف وظهور العنف والشدة والغلظة كسلوك للحياة والتعامل بين الأفراد والمجتمعات والدول، فأزهقت الأنفس وسفكت الدماء وتطاول الإنسان على أخيه الإنسان، وإذا كانت الجاهلية الأولى قد أقامت أخدودًا يقتل فيه الإنسان بني جنسه ، فإن حضارة اليوم قد أقامت الأخاديد والمذابح، وشردت وأهلكت الحرث والنسل، ودمرت المدن والقرى على ساكنيها، وأفسدت في البر والبحر والجو، وأصبحت لغة القوة والسيطرة والاستكبار في الأرض سلوكًا للأفراد والدول والمجتمعات..

و في أرض فلسطين المحتلة تفترسهم آلة الدمار الإسرائيلية، فتحرق الأخضر واليابس، وتأتي على البشر والحجر، بما يعد إبادة جماعية للأبرياء، هؤلاء الأبرياء الذين يعيشون في ديارهم وأرضهم المنهوبة والمغصوبة، وليس لهم وطن بديل، ولا يقبلون التحويل، تأمر عليهم المتآمرون، وتاجروا بقضيتهم، وها هم يتلقون الضربات الموجعة على مرأى ومسمع من العالم كله، وزاد الأمر شدة وبؤسًا قطعُ الإمدادات عنهم من الغذاء والدواء والماء والكهرباء، ليموتوا على فرشهم، إن سلموا من حرق أجسادهم بالحديد والنار،
فهؤلاء المظلومون من لهم ناصر غير الله تعالى؟!
ومن لهم مغيث غير المسلمين؟!
فإن لم يغيثوهم فإنهم لا محالة بائرون، وإلى ربهم مشتكون..

وفي هذا العام يقف نحو مليوني حاج على صعيد عرفات بعد ما جردوا من لباسهم طمعا في عفو ربهم ، ويقف مليوني فلسطيني في رفح وفي ارض فلسطين الحزينة بعدما فقدوا كل شيء بيوتهم وأرضهم وأعمالهم وغالباً أولادهم وعوائلهم ..

لقد أصابنا من لوث هذه الحضارة الشيء الكثير حتى قست قلوبنا، وانتزعت الرحمة من قلوب الكثير حكامًا ومحكومين، آباءً وأبناءً، أفراداً وجماعات وأحزابًا، وأصبح المسلم يقتل أخاه المسلم ويتلذذ بفعله ويباهي بعمله، وانظروا إلى دماء المسلمين في بلادهم والمجازر اليومية والحروب والصراعات بينهم، أين الرحمة؟! وانظروا إلى الجوعى والمحتاجين من المسلمين يموتون بسبب الحاجة والفاقة، وهناك من المسلمين من يموت بسبب التخمة والإسراف والتبذير بالأموال، وانظروا إلى الغلظة والشدة والعنف يمارس في واقع حياتنا دون مبرر أو حاجة، ولكنها الأهواء وانعدام الضمير وضعف الإيمان وتبلد الإحساس وقسوة القلوب، إلا من رحم الله ، وانظروا إلى من يمكر بإخوانه المسلمين ويتآمر عليهم ويتمنى لهم كل شر ومكروه، لماذا كل هذا؟! قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) [المائدة: 13].

وختاماً: يا إخوة الإسلام:
إن رحمة الله لا ينالها إلا المتراحمون، وإن النجاة والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة لن يناله إلا من امتلأت قلوبهم بالحب والتراحم ولين الجانب، قال -صلى الله عليه وسلم-: “أهلُ الجنّة ثلاثة: إِمام عادِل، ورجلٌ رحيمُ القلب بالمساكين وبكلِّ ذِي قربى، ورجلٌ فقير ذو عِيال متعفِّف”. مسلم في الجنة (2865).

نحن في أمس الحاجة إلى أنْ نتراحم فيما بيننا ، وأنْ يرحمَ بعضنا بعضًا ، وأنْ نكون مِن عباد الله الرُّحماء، وأنْ تكون قلوبنا مليئة بالرَّحمة، إذ هذا هو وصف أهل الإيمان، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )).

ورحمتُنا بعضنا البعض، وتراحُمنا فيما بيننا، مِن أعظم ما نَستجلِب به رحمة الله لنا وبِنا في الدنيا والآخرة، بل حتى الحيوان إنْ رحمناه رحمنا الله، فكيف برحمة إنسان، بل كيف إنْ كان هذا الإنسان الذي رحمناه مؤمنًا بالله وباليوم الآخِر.وقد صحَّ: (( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ إني لَأذبحُ الشاةَ فأرحمُها ، أو قال : إني لأرحمُ الشاةَ أن أذبحَها ، قال : و الشاةَ أن رحمتَها ، رحمَك اللهَ مرتَين)) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد وسنده صحيح ..

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ رَحِمَ ذَبِيحَةً رَحِمَهُ اللهُ يومَ القيامةِ، وفي روايَةٍ مَنْ رَحِمَ وَلَو ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يومَ القيامَةِ)) مجمع الزوائد ورجاله ثقات ..

ولمَّا رحمَت امرأةٌ زانية كلبًا كاد يقتله العطش بِشَرْبَة ماء سقَتْه بها، رحمها الله سبحانه بأنْ غفر لها، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ )) (متفق عليه).

وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( أنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فأخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ له به حتَّى أرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ له، فأدْخَلَهُ الجَنَّةَ )) (متفق عليه)..

هذه هي الرحمة التي جاء بها الإسلام، وهذا غيض من فيض لندرك أهمية هذا الخلق وأثره في حياتنا، ودوره في بناء المجتمعات وتشييد الحضارات.

ونسأل الله – جلَّ في علاه – رحمنَ الدنيا والآخرة ورحيمَهما أنْ يجعلنا وإياكم مِن عباده الرَّاحمين والمرحومِين ..

اللهم يا رحمنَ الدنيا والآخرة ورحيمَهما ارحمنا وارحم إخواننا المستضعفين رحمة تُغنينا بها عن رحمة مَن سواك، وارحمنا بترك المعاصي أبدًا ما أبقيتنا، وارزقنا حُسن العمل فيما يُرضيك عنَّا، اللهم أكرمنا بذكرك آناء الليل والنهار، ومُنَّ علينا بالتوبة والإنابة والخشية، وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، واغفر لنا ولوالدينا وجميع أهلينا، وبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأقواتنا وأوقاتنا.. واقعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، يارب الركن والمقام والمشاعر الحرام اكتب لنا حج بيتك الحرام ، وزيارة الركن والمقام ، وقبر النبي عليه الصلاة والسلام.

اترك تعليقاً