سياق آيات الحج عند الشيخ أبي زهرة (1)
24 مايو، 2025
العلم والعلماء

بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى….
اشتهر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله بعلم الفقه وأصوله ومناهج الفقهاء والأصوليين، إلا أنه قد أبلى بلاء حسنا في علم التفسير من خلال كتابه الكبير (زهره التفاسير)، فقد أدلى فيه بدلو عظيم في شرح الآيات وتفصيلها ومعرفة مقاصدها ومراميها واستنباط أحكامها واستخراج كنوز معنيها، مع تسليط الضوء على سياق الآيات ومناسبة بعضها لبعض وترابطها في نظم قراني معجز بديع، وفي سياق آيات الحج وترابطها بما قبلها وما بعدها يقول فضيلته في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ… الآيتان}[البقرة: 196]:
هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمة من قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ…}[البقرة: 177]، فيها تنظيم للجماعة الفاضلة؛ ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لَا فرق بين قوي وضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ…} [البقرة: 179]، وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها؛ بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة.
وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوى الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها.
فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصديقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء؛ بل في بعض كفاراته الصوم، وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع؛ فكان حقا أن يجيء الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح؛ لأنه يجمعها في أحكامه.
ولكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرًا أو متعسرًا؛ لأن المزار الأكبر كان المشركون قد سيطروا عليه، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة؛ فكان لابد من الوصول إليه، وأداء تلك الشريعة الإسلامية؛ لذلك جاء ذكر أحكام القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ…} [البقرة: 189]، وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.
ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام الجهاد وأحكام الحج، فالجهاد لحماية الدولة في الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل، بالجمع بين أقطارها، والتعارف العام بين شعوبها، ونشر المساواة العادلة بين آحادها؛ ولذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله.
ثم هناك مناسبة خاصة بين الآية الأولى وأحكام القتال، لأن فيها بيان حكم من يمنعه عدو من الوصول إلى البيت الحرام، وقد مُنع النبي صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى البيت الحرام، وهمَّ أن يصل إليه بقوة السلاح، ولكن كان الصُّلح على أن يرجع من عامه هذا، ثم عاد في العام السابع وأدى عمرة القضاء. فكانت هذه الآية ذات مناسبة خاصة تربطها بالجهاد في سبيل الله تعالى.