خطبة بعنوان “حب التناهي شطط،خير الأمورالوسط” لفضيلة الشيخ عادل توني

خطبة بعنوان “حب التناهي شطط،خير الأمورالوسط”

لفضيلة الشيخ : عادل عبدالكريم توني إبراهيم

إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف

الجمعة 18 من ذي القعـــدة 1446هـ الموافق 16 من مـــــــايو 2025م

عناصر الخطبة :

١- ” وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ” .

٢- من مظاهر الاعتدال والوسطية في الإسلام .

٣- ” لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ” .

الخطبة الأولى:

الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وبعدُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(١)- يقول الله تعالي :{ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..}(البقرة: 142-143).

مَعْنَى (وَسَطًا); أَيْ عَدْلاً أَوْ عُدُولاً، فَفِي سُورَةِ الْقَلَمِ: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)[الْقَلَم:28]; أَيْ: أَعْدَلُهُمْ.

وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَسَطَ بِالْعَدْلِ; فَقَالَ: “يَجِيءُ نُوحٌ وأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: هلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)،(صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ: 3339).

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: “ولما جعل الله هذه الأمَّة وسطًا، خصّها بأكمل الشرائع، وأقوم المفاهيم، وأوضح المذاهب”.

أي جعلناكم عدولًا خيارًا بين الأمم، دينكم الإسلام أكمل الأديان، وكتابكم القرآن الكريم أعظم الكتب، ورسولكم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل، وشريعتكم أيسر الشرائع، الحنيفية السمحة، ملة أبيكم إبراهيم، وقبلتكم الكعبة المشرفة، قبلة أبيكم إبراهيم- عليه السلام- أشرف قبلة، وأعظم بقعة، وأول البيوت، وأعظمها حرمة .

فأمة الإسلام أمة وسط، بكل معاني الوسطية؛ سواء من الوسط بمعنى الحسن والفضل، أو بمعنى الاعتدال والقصد، أو من التوسط بمعناه المكاني والجغرافي .

علاوة على ذلك في الآية إعجاز عددي، كيف؟!

عدد آيات سورة البقرةِ ٢٨٦ فإذا قسمناها على ٢ يساوي ١٤٣، هذا هو رَقْمُ هذه الآية، فكأن الآية نفسها جاءت وسطًا، هذه رسالة للأمة لتكون وسطًا في كل شيءٍ، وتعرف قيمتها ومنزلتها عندما تلتزم بدينها وعقيدتها.

– الوسطية منهج يشمل كافة مناحي الحياة الدينية منها والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من المناحي؛ حسيةً كانت أو معنويةً.

والوسطية تعني التوسط والاعتدال بين الإفراط والتفريط، وبين التشدد والتسيُّبِ، فخيرُ الأمور أواسطها؛ الشجاعة – مثلًا – وسطٌ بين التَّهَوُّر والجبن، والكرم وسط بين الإسراف والبخل؛

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر، والأكل والشرب، والجماع والحركة، والرياضة والخلوة والمخالطة، وغير ذلك، إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصًا، وأثمرت نقصًا بقدر الميل والانحراف”،

والْوَسَطِيَّةَ فِي الدِّينِ تَعْنِي التَّمَسُّكَ بِكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا، والتَّمَسُّكُ بِالْوَسَطِيَّةِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ التَّامَّ لِلشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ وَالرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَالْعَمَلَ بِمَا وَرَدَ فِي الْوَحْيَيْنِ؛ فَمَنْ قَامَ بِذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَحَكَّمَ رَأْيَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَتَعَدَّى حُدُودَ الشَّرْعِ; فَقَدْ خَرَجَ عَنْ دَائِرَةِ الْوَسَطِيَّةِ بِحَسْبِ تَقْصِيرِهِ.

والقاعدة الشاملة تنص على أن ما تجاوز حدَّه، انقلب إلى ضده، فحتى العبادة المطلوبة شرعًا، إن تجاوزت حدَّها تصبح وسوسةً وتنطُّعًا، وهو الغُلُوُّ المنهيُّ عنه شرعًا، في سنن النسائي من حديث ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إياكم والغلوَّ في الدينِ فإنما أهلَك مَن كان قبلَكم الغلوُّ في الدينِ ” .

فالعاقل من ألْزَمَ نفسه حدَّ الاعتدال في كل الأمور، وتوسَّطَ في سائر أحواله بين الإفراط والتفريط؛

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وما أمر الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو… ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه؛ كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين مذمومين، فكما أن الجافيَ عن الأمر مضيِّعٌ له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه للحد… فهو باب واسع يدخل منه الشيطان ليمكر ببني آدم، ويكيدهم ما بين إفراط وتفريط، ولا نجاةَ من ذلك إلا بسلوك الطريق الوسط الذي كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان “.

معاشر المؤمنين الكرام، إن كل تعاليم الإسلام وأحكامه وشرائعه، مبنية على التوسط والاعتدال، وعلى الرفق والتيسير، فالتيسير مقصِدٌ من مقاصد هذا الدين العظيم، وصفة عامة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها؛ قال جل وعلا: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال سبحانه: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وقال النبي صلي الله عليه وسلم عن نفسه كما في صحيح مسلم: ((إن الله لم يبعثني مُعنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا، ولكن بعثني معلمًا مُيسِّرًا))،

وفي الصحيحين: ((ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناس منه)).

قال وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى-: إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان فعليكم بالأوسط من الأشياء.

قال الحسن البصريّ رحمه الله تعالى:خير الأمور أوساطها .

لاَ تَذْهَبَنَّ فِي الأُمُورِ فَرَطَا

لاَ تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا

وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا

(٢)- من مظاهر الاعتدال والوسطية في الإسلام:

– وسطية الإسلام في باب الاعتقاد .

فنجد الإسلام وسطا بين الملل، فلا إلحاد ولا وثنية، لا عبادة الأصنام، ولا عبادة الأحجار ، بل عبادة خالصة لله تعالى، على الوجه المشروع، الذي دل عليه الدليل الصحيح، في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل . { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]

– وسطية الإسلام في الأنبياء .

المسلمون وسَط في اعتقادهم بأنبياء الله، يؤمنون بهم جميعا، لا يفرقون بين أحد منهم، ولكنهم يجزمون بأن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- خاتمتُهم، والمأمورُ باتباعه بعد بعثته دون سواه. قال الله تعالي :﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾(سورة البقرة:285)

– وفي باب القضاء والقدر .

فإن الإسلام وسط بين المغالين الذين يجعلون العبد مجبورا على فعله، والمفرطين الذين يجعلونه خالق أفعاله، لينطلقوا بعد ذلك إلى الحكم على الناس بالتكفير والإخراج من الملة، بمجرد أفعال صدرت من هذا أو ذاك، وإن لم يستحلوها.

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قَالَهَا ثَلَاثًا. (رواه مسلم (2670)

– التوسط في العبادة .

شريعة الإسلام وسط في العبادة بين الشرائع والنحل ، فالإسلام يكلف المسلم أداء شعائر محدودة في اليوم كالصلاة، أو في السنة كالصوم، أو في العُمُر مرة كالحج، ليظل دائما موصولا بالله، غير مقطوع عن رضاه، ثم يطلقه بعد ذلك ساعيا منتجا، يمشي في مناكب الأرض، ويأكل من رزق الله.

إن تشريع الله في العبادة، تشريع متوسط معتدل، بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]

ولعل أوضح دليل يذكر هنا: الآيات الآمرة بصلاة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9، 10]

 

فهذا شأن المسلم مع الدين والحياة حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح.

عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا حبل ممدود بين السّاريتين، فقال: “ما هذا الحبل؟” قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:”حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد”.متفق عليه..

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : “لن يُنجِيَ أحدًا منكم عملُه قالوا ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ قال ولا أنا إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ منه برحمةٍ فسدِّدوا وقارِبوا واغدُوا وروحُوا وشيءٌ من الدُّلْجَةِ والقصدَ القصدَ تبلُغوا ” متفق عليه.

قال ابن رجب رحمه الله: (والتسديد: العمل بالسداد، والقصد والتوسط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيق).

كما بين الإمام النووي معنى التسديد والمقاربة فقال: (سددوا وقاربوا، اطلبوا السداد، واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه؛ أي: اقتربوا منه، والسداد: الصواب، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا).

– الوسطية والاعتدال والتوازن بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة .

وسطية أهل الإسلام المستقيمين على هديه، تبدو في الاعتدال والتوازن بين مطالب الدنيا والنظرة إليها، ومطالب الآخرة والعمل لها، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك، دون إفراط أو تفريط، ودون إسراف أو تقتير، قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]

يقول ابن كثير -رحمه الله-: أَيِ: اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ، فِي طَاعَةِ رَبِّكَ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثَّوَابُ فِي الدار الآخرة. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ: مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حَقًّا، وَلِزَوْرِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ. (تفسير ابن كثير (6/ 254)

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها بالقسطاس المستقيم، وكان من دعائه: (( اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ)). (رواه مسلم (2720)

فالإسلام وسط بين من غلا في أمر الدنيا، ولم يهتم بالآخرة، وبين من غلا في أمر الآخرة، ونظر إلى الدنيا نظرة ازدراء وابتعاد. وهكذا التوازن بين مطالب البدن ومطالب القلب.

عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلّي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: “أنتم الّذين قلتم كذا وكذا. أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي” ، (متفق عليه).

” لما بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ثلاثة رهط، أراد أحدهم أن يصلي الليل أبدًا، وأراد ثانيهم أن يصوم الدهر ولا يفطر، وعزم الثالث على أن يعتزل النساء. . ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل”.

(الأمة الوسط (1/ 47)

– التوسط في النفقات .

قال الله تعالي: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}(الإسراء: 29).

قال الإمام ابن كثير عند تفسيرها: (يقول تعالى آمرا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل، ناهيا عن الإسراف، أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا شيئا، ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا).

وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً}(الفرقان: 67).

قال ابن كثير: (أي : ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، ﴿وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ﴾.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وجميع إخوانه، أما بعد:

(٣)- من الوسطية إعطاء الحقوق؛ فللرجل حقوقه، وللمرأة حقوقها، وللزوج حقوقه، وللزوجة حقوقها، وللآباء حقوقهم، وللأبناء حقوقهم، وللأقارب حقوقهم، وللجيران حقوقهم؛ كل ذلك في إطار التوازن والعدل، ويجب أن يُعطي المسلم كل ذي حق حقه، وأن لا تكون متعديًا على أحد من المسلمين من قريب أو جار، ونحو ذلك؛ قال الله تعالى-: (.. وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[البقرة: 190].

فالوسطية إعطاء الحقوق لكل صاحب حق،

عن أبي جحيفة- رضي الله عنه- قال: ” آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين سلمان وأبي الدّرداء، فزار سلمان أبا الدّرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدّرداء ليس له حاجة في الدّنيا. فجاء أبو الدّرداء فصنع له طعاما فقال له:كل. قال: فإنّي صائم. قال: ما أنا بآكل حتّى تأكل، قال: فأكل. فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء يقوم.قال: نم. فنام. ثمّ ذهب يقوم. فقال: نم. فلمّا كان من آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، فصلّيا. فقال له سلمان: إنّ لربّك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “صدق سلمان” ، رَوَاه البُخاريُّ.

– إخوة الإيمان : إن هذه الوسطية قد أهَّلت الأمة الإسلامية كي تشهد على الأمم، منحتها الشهادة على جميع الأمم، شهادة على نفسها في الدنيا، وشهادة على غيرها في الآخرة.

فأماشهادتها على نفسها في الدنيا: أن يشهد بعضهم على بعض، كيف؟!

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ»، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ». قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْها خَيْرٌ، فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ»، وَمُرَّ بِجَنازةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ»؛ (متفق عليه ).

– وأمَّا شهادة هذه الأمة في الآخرة فتكون على الأمم السابقة .

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ نَعَمْ، فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيُقَالُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ، قَالَ: فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]،

قَال: وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ؛ (صحيح البخاري).

وهذه الشهادة من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا تقتصر على قوم نوح عليه السلام فقط، بل هي شاملة للأمم كلها، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، فيقال: من شهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتُدعى أمة محمد فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم، فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا، فصدقناه، قال: فذلكم قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}) رواه ابن ماجه

نسأل الله أن يرزقنا الوسطية والاعتدال في الدين .

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب لها من قول وعمل, ونعوذ بك من النار وما قرب لها من قول وعمل, ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا, وثبت أقدامنا, وانصرنا على القوم الكافرين, ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار, اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين, اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً