خطبةُ بعنوان ( حبُ التناهي شططٌ خيرٌ الأمورِ الوسطٌ ) لفضيلة الشيخ احمد عبدالله عطوه

خطبةُ بعنوان ( حبُ التناهي شططٌ خيرٌ الأمورِ الوسطٌ )
لفضيلة الشيخ : احمد عبدالله عطوه

 

الموافق ١٦ذو القعدة ١٤٤٦هـ الموافق ١٨مايو ٢٠٢٥م

العناصر الرئيسية 

1/أهمية الوسطية والاعتدال 

2/التيسير والسماحةمن معالم الإسلام 

3/كيف نحافظ على معالم الوسطية في الأمة

الخطبة الأولى

الحمد لله.. الحمد لله الذي لا يحيط بحمده حامد، ولا وفي قدره بليغ المحامد سبحانه فلا يعبده حق عبادته عابد ولو قضى عمره قانتاً لله وهو راكعٌ أو ساجد.. الحمد لله عظيم الشان، واسع السلطان، مدبر الأكوان.. في ملكه تسبح الأفلاك وحول عرشه تسبح الأملاك ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الإسراء: 44]. لوجهه سبحات الجلال، وهو الجميل الذي له كل الجمال.. والله لو كان البحر محابر والسموات السبع والأرضون دفاتر فلن تفي في تدوين فضله وأفضاله ولن تبلغ في بيان عظمته وبديع فعاله.سبحت له السماوات والأرض ومن فيهن…

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. أصدق كلمة فاهت بها الشفاه وخير جملةٍ نطقت بها الأفواه..

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله العارف بالله حقاً والمتوكل عليه صدقاً.. المتذلل له تعبداً ورقاً، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد أيها المسلمون:

فتقوى الله – تعالى – خير وصيةٍ وخير لباسٍ وأكرم سجية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ آل عمران: 102.

من اتقى الله وقاه، ومن خانه هتك ستره وابتلاه، الواقف بغير باب الله عظيمٌ هوانه، والمؤمل غير فضل الله خائبةٌ آماله، والعامل لغير الله ضائعةٌ أعماله.

حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الاغر عن وسطية الإسلام

فإن دين الإسلام دين الوسطية والاعتدال، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143

أيّها المسلمون:

لماذا الحديثُ عن الوسطية والسماحةِ في الدين والتشريع لإنها مِن أبرز سِمات هذهِ الشريعة المحمَّديّة الخاتمةِ الوسطيّةُ والاعتدال، وبُنِيت على جَلب المصالحِ ودرء المفاسد والتيسير ودَفع المشقّة؛ (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج:78]، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)[البقرة:185]. وفي وَصفِ من شملته رحمةُ الله من أهل الكتاب: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الأعراف:157]؛ أي: أنه جاء بالتيسير والسماحةِ والرِّفق ورفعِ الحرَج أو الحنيفيّة السَّمحة كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لأميرَيه معاذٍ وأبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنهما- لمّا بعثهما إلى اليمَن: “يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعَا ولا تختلِفا”(رواه البخاري ومسلم)، وقال صاحبُه أبو برزةَ الأسلميّ -رضي الله عنه-: إنّي صحبتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وشهدتُ تيسيره.

وقد كانتِ الأممُ الذين من قبلِنا في شرائعِهم ضيقٌ عليهم، فوسَّع الله على هذه الأمّة أمورها وسهَّلها لهم. ومِن هذه المبادِئ وغيرها صارت هذه الأمّةُ وسطًا كما قال الله -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)[البقرة:143]، قال القرطبي -رحمه الله- وغيره: “أي: عدولاً خِيارًا، والوسَطُ هو الخِيار والأجوَد، كما يقال: قريشٌ أوسطُ العَرب نَسَبًا ودارًا، أي: خيرُها وأفضلها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسَطًا في قومه، أي: أشرفَهم نسبًا”.

عبادَ الله: ولما جعَل الله هذه الأمّةَ وسطًا خصَّها بأكملِ الشرائع وأقوم المناهج وأوضحِ المذاهب كما قال -تعالى-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[الحج:78

وقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يحثُّ على القصدِ في الأمورِ فقال لمعاذٍ -رضي الله عنه- لما أطالَ بالناس في الصلاة: “أفتَّان أنت يا معاذ؟!”(رواه النسائي وأحمد)، وقال: “سدِّدوا وقارِبوا، واغدُوا وروحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا”(رواه البخاري)، وردَّ على من أراد التبتُّلَ وهجرَ النساء والانقطاعَ للعبادة بقوله: “من رغِب عن سنّتي فليس منّي”(رواه مسلم). وقال الشاطبيّ -رحمه الله-: “فإنّ الخروجَ إلى الأطرافِ خارجٌ عن العدل، ولا تقومُ به مصلحةُ الخَلق، فإنّ طرفَ التشديد وطرفَ الانحلال كلاهما مَهلَكة”.

أيّها المسلمون:

إنّ شريعةَ الإسلام بذاتها وبكلِّ تفاصيلها هي الوسطُ، فليست بحاجةٍ إلى تخفيفٍ أو تنقيص، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج:78]. وعليه فإنّ الواجبَ على المسلمين أن يعُوا هذه الحقيقةَ لئلاّ يُنتَقصَ عليهم دينُهم بحجَّة الوسطيّة، فالله -تعالى- قد حكَم فجعل شريعتَه هي الوسَط، فمن نقص أو زادَ فعن الوسطيّة قد حاد، وشريعةُ الله كامِلة شاملةٌ لا تحتاج إلى تعديلٍ أو توجيه، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا)[المائدة:3].

الخطبة الثانية

معاشرَ المسلمينَ: ها نحن على أعتاب موسم الحج الأَكْبَر معدن الحسنات وتكفير السيئات وتنزُّل الخيرات والطاعات وينبوع المنافع المتكاثِرات أيام قلائل وأُمَّة الإسلام قابَ قوسينِ أو أدنى من ميقات زمانيٍّ ومكانيٍّ محدَّدلأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام الركن الخامس من أركان الإسلام، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آلِ عِمْرَانَ: 97]، فمرحبًا بكم حجاجَ بيت الله الحرام، حللتُم أهلًا ووطئتُم سهلًا، وتتوالى الفرصُ والمناسَباتُ فيشمِّر فيها العاقلُ عن سَاعِد الجِدِّ ويستحثُّ الهمةَ ويترقَّى في سُلَّم الفضائل يسمو بروحه يُغذِّي إيمانَه يُعزِّز رصيده يستدرِك ما فات ويستعدّ لِمَا هو آتٍ يسدّ ما سها عنه وغفل ويصلح ما عسى أن يكون مِنَ الخَلل فإذا ما انقضَتْ تلك المواسمُ تغيَّر حالُ بعضنا فيضعف النشاط ويتراجع الحماس، وتخبو الهمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم”إن لكل عمل شِرةً ولكل شِرَّة فترة فمن كانت فترتُه إلى سُنَّتِي فقد اهتدى، ومَنْ كانت إلى غير ذلك فقد هلك”(رواه أحمد)؛ وهذا يحدونا لأَنْ نتساءلَ عن المسار الأسلم، والهدي الأقوم للعمل على مدار العام؟ ولعلَّنا نستلهم الجوابَ الشافيَ، والعلمَ الوافيَ من هَدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جلَّتْه لنا أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها- حين سألَها علقمةُ: “كيف كان عمل النبي -صلى الله عليه وسلم-؟، هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة”(رواه البخاري ومسلم)؛ أي: كان عمله دائمًا لا ينقطع، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ -تعالى- أَدْوَمُها، وَإِنْ قَلَّ”(رواه البخاري ومسلم).

هذا النهج النبوي والسلوك التعبدي يجعل المرء دائم الصلة بخالقه مُقبِلًا على ربه فالقليل الدائم قصد واعتدال وهو لطيف على القلب لا تجد له ثقلًا، تُقبِل عليه النفسُ لأجل تنوُّعِه والقليل مع الدوام كثير ومع صدق النيَّة مضاعَف وأثرُه في النفس عميق واعلم أن ساعات زمانكَ التي تنظر إليها بعين التقليل إذا استثمرتَها بعمل دائم حققتَ الكثيرَ من النجاح.

الحديث يلفت النظر إلى أن المداومة على العمل أهم من مجرد العمل، فالشأن أن تبدأ وأن تستمر، ومن استمر سما في سماء المجد والعز، تمثل هذا المبدأ النبوي الراقي: “أدومه وإن قل” صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين نَهَلُوا من مَعِين الفضائل فغَدَوْا قممًا بها يُتأسَّى وسيرًا بها يُحتذَى اهتَبَل كلٌّ منهم فرصةً سانحةً من النوافل يتخيَّر عملًا يطيقه وطاعةً تعلَّق قلبُه بها وتميل إليها نفسه من صلاة أو صدقة أو بِرّأو صلة أو غيرها ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: “قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً في يوم وليلة بُني له بهن بيت في الجنة”، قالت أم حبيبة: “فما تركتُهنَّ منذ سمعتُهنَّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“، وفي صحيح مسلم،عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان آل محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا عملوا عملًا أثبتوه”وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال عند صلاة الفجر: “يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي”، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: “‌بَيْنَمَا ‌نَحْنُ ‌نُصَلِّي ‌مَعَ ‌رَسُولِ ‌اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: ‌اللهُ ‌أَكْبَرُ ‌كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا! فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ ذَلِكَ

اترك تعليقاً