خطبة بعنوان ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ لفضيلة الدكتور أيمن حمدي الحداد

خطبة بعنوان ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
لفضيلة الدكتور : أيمن حمدي الحداد

لتحميل الخطبة اضغط على الرابط أدناه
oma wasata alhadad

 

نص الخطبة:
الحمد لله رب العالمين أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون:

لقد جعل الله عز وجل الوسطية من أبرز خصائص هذه الأمة لتحقق السلام، والأمن، والعدل، والرحمة، والإخاء؛ قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة: ١٤٣)، والوسطية استواء واستقامة في الاعتقاد والسلوك والمعاملة والأخلاق وهذا يعني أن يكون المسلم معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء فليس فى ديننا الحنيف مغالاة ولا تطرف ولا شذوذ ولا تهاون ولا تقصير، فديننا الحنيف مبنى على السماحة واليسر؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(البقرة: ١٨٥)، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(الحج: ٧٨)،

♦ أولاً: من مظاهر الوسطية؛ لقد جاء الإسلام لينظم العلاقة بين الجانب الروحى، والجانب المادى لدى الإنسان لأن الخالق العظيم جل جلاله خلق الإنسان خلقاً مزدوجاً فخلقه من المادة – الطين – ونفخ فيه الروح؛ قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(ص: ٧١-٧٢)،

– ولقد أعتنى ديننا الحنيف بالتوازن بين ما هو مادة وروح فى جميع تشريعاته، بيد أن المذاهب الأخرى غلب عليها الشطط فنجد من أهمل الجانب الروحى وغلب الجانب المادى – أطلق الحبل على الغارب للشهوات والنزوات – فصارت الحياة عندهم أشبه ما يكون بالتشهى الحيوانى، وفى المقابل نجد من أهمل الجانب المادى – الرهابنية – وهؤلاء يُهملون حق الجسد ولا يتزوحون زعماً منهم أن ذلك يقربهم من الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾(الحديد: ٢٧)،

أيها المسلمون: لقد بنيت الأحكام الشرعية كلها على التيسير من أمثلة ذلك؛
– التيسير فى أداء الصلاة؛ لقد كان سيدنا رسول الله ﷺ يحب أن يطيل فى الصلاة لكنه كان

يخففها رحمة بالأم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «إنِّي لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلَاتي ممَّا أَعْلَمُ مِن شِدَّةِ وجْدِ أُمِّهِ مِن بُكَائِهِ» متفق عليه.

– انقطاع سيدنا رسول الله ﷺ عن صلاة القيام في المسجد خوفاً من أن تفرض علي الناس؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسو الله ﷺ خرج مِن جوفِ الليلِ فصلّى في المسجدِ، فصلَّى رجالٌ بصلاتِهِ، فأصبح الناس يتحدثونَ بذلك، فاجتمعَ أكثرُ منهم، فخرج رسول الله ﷺ في الليلة الثانيةِ، فصلَّوْا بصلاتهِ، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثُر أهلُ المسجدِ من الليلة الثالثة، فخرجَ فصلَّوْا بصلاتِهِ، فلمَّا كانتِ الليلةُ الرابعةُ عجزَ المسجدُ عن أهلهِ، فلم يخرجْ إليهم رسولُ اللهِ ﷺ فَطَفِقَ رجالٌ منهم يقولونَ: الصلاةَ، فلم يخرج إليهم رسول الله ﷺ حتى خرج لصلاة الفجر، فلمَّا قضى الفجرَ أقبلَ على الناس، ثم تشهَّدَ، فقالَ: «أمَّا بعدُ، فإنهُ لم يَخْفَ عليَّ شأنُكُم الليلةَ، ولكنِّي خشِيتُ أن تُفْرَضَ عليكم صلاةُ الليل فَتَعْجَزُوا عنها» رواه البخاري

– ولقد دخل سيدنا رسول الله ﷺ على عائشة رضى الله عنها وعندها امرأة تقوم الليل ولا تنام قال: «اكلَفوا منَ العمَلِ ما تطيقونَ فإنَّ اللَّهَ لا يملُّ حتَّى تملُّوا وإنَّ أحبَّ العملِ إلى اللَّهِ أدومُهُ وإن قلَّ وَكانَ إذا عمِلَ عملًا أثبتَه» متفق عليه.
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: «دخَل رسولُ اللهِ ﷺ المسجدَ وحبلٌ ممدودٌ بينَ ساريتَيْنِ فقال: ما هذا ؟ قالوا: لزينبَ تُصلِّي فإذا كسِلَتْ أو فتَرَتْ أمسكت به قال: حُلُّوه، ثمَّ قال: لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا كسِل أو فتَرَ فليقعُدْ» رواه البخاري
– ولقد جاء ثلاثُ رهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ ﷺ، يَسأَلونَ عن عبادةِ النبيِّ ﷺ، فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن منَ النبيِّ ﷺ؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللهِ ﷺ فقال: «أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني» رواه البخارى.

– التيسير في الصيام؛ لقد نهي سيدنا رسول الله ﷺ عن الصيام في السفر؛ فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه: كان النبي ﷺ في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه فقال: «ما له؟ قالوا: رجل صائم فقال النبي ﷺ: «ليسَ من البرِ الصيامُ في السفرِ» رواه البخارى.

– إباحة الفطر للمريض والمسافر والحامل والمرضع؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾(البقرة: ١٨٤)، وقال سيدنا رسول الله ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تعالى وضعَ شطرَ الصَّلاةِ أو نصفَ الصَّلاةِ والصَّومَ عنِ المسافرِ وعنِ المرضعِ أوِ الحُبلى» رواه أبو دواد.

– من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «من أكل ناسيًا وهو صائمٌ، فليتمَّ صومَه؛ فإنما أطعمه اللهُ وسقاه» رواه النسائي.

– قال ابن عمر، أنه قال: أنزلت: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾(البقرة: ١٨٣)، كتب عليهم أن أحدهم إذا صلَّى على العتمة ونام، حُرِمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها.

واستمر الأمر على هذا عند المسلمين الأوائل؛ فقد كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجِماع، فحصلت المشقَّة لبعضهم، فخفَّف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجِماع، سواء نام أو لم يَنَمْ؛ لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به؛ فعَنِ الْبَرَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(البقرة: ١٨٧)، فَفَرِحُوا بِهَا فرحاً شديداً.

– تيسير التوبة؛ إن المتأمل فى شرع مَن قبلنا يجد أن التوبة في شريعتهم كانت توجب على المذنب قتلَ نفسِه حتى يبرأ ويتطهر من ذنبه؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة: ٥٤)،

– إلا أن دِيننا الحنيف شرعَ التوبة والاستغفار من الذنب دونما حاجةٍ لقتل النفس؛ قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾(نوح: ١٠-١٢)، وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر اللهَ الذي لا إله إلا هو، الحيَّ القيومَ، وأتوب إليه، ثلاث مرات غفَر الله له ذنوبه، وان كانت مِثل زَبَدِ البحر» رواه أحمد.

♦ثانياً: من حكم التيسير فى الإسلام؛
– المداومة على العبادة وعدم الانقطاع: لقد حبب الله عز وجل إلى عباده الإيمان والعمل الصالح بتيسيره وتسهيله؛ قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (الحجرات: ٧-٨)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «خُذوا منَ العَملِ ما تُطيقونَ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، قالت عائشةُ: وكان أحبُّ الصَّلاةِ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، ما داوَمَ عليها وإنْ قَلَّتْ، قالت عائشةُ: وكان النَّبيُّ ﷺ إذا صلَّى صلاةً داوَمَ عليها، قال أبو سَلَم

– التوارن وإعطاء كل ذي حق حقه؛ فإذا توغل العبد في الانشغال والإنقطاع للنوافل ربما دفعه ذلك إلى التقصير في واجباته؛ فعن أبى جحيفة: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ آخى بينَ سْلَمانَ وأبي الدَّرداءِ قال: فجاء سَلمانُ يزورُ أبا الدَّرداءِ فرأى أمَّ الدَّرداءِ مبتلة فقال: ما شأنُكِ؟ قالت: إنَّ أخاك ليست له حاجةٌ في الدُّنيا فلمَّا جاء أبو الدَّرداءِ رحَّب به سَلْمانُ وقرَّب إليه طعامًا فقال له سَلمانُ: اطعَمْ قال: إنِّي صائمٌ قال أقسَمْتُ عليك إلَّا طعِمْتَ فإنِّي ما أنا بآكِلٍ حتَّى تأكُلَ قال: فأكَل معه وبات عندَه فلمَّا كان مِن اللَّيلِ قام أبو الدَّرداءِ فحبَسه سَلْمانُ ثمَّ قال: يا أبا الدَّرداءِ إنَّ لربِّكَ عليك حقًّا ولأهلِك عليك حقًّا ولجسدِك عليك حقًّا أعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه صُمْ وأفطِرْ وقُمْ ونَمْ وائتِ أهلَك، فلمَّا كان عندَ الصُّبحِ قال: قُمِ الآنَ فقاما فصلَّيا ثمَّ خرَجا إلى الصَّلاةِ فلمَّا صلَّى النَّبيُّ ﷺ قام إليه أبو الدَّرداءِ فأخبَره بما قال سَلْمانُ فقال له رسولُ اللهِ ﷺ مِثْلَ ما قال سَلْمانُ» رواه البخارى.

ولقد رأي عمرو بن ميمون الأزدي رجلاً كان يواصل الصيام حتى عجز عن القيام في صلاة الفريضة مما أصاب بدنه من ضعف فقال: لو أدرك هذا أصحاب محمد ﷺ لرجموه.
وكان ابن مسعود رضى الله عنه يقل من صيام النوافل ويقول: إنه يضعفني عن قراءة القرآن الكريم وقراءة القرآن أحب إلى.

وفى زمن عمر بن الخطاب قدم رجل من الكوفة محرماً بالحج وقد أصابه التعب والعنت والضعف فقال عمر رضى الله عنه: انظروا إلى ما صنع هذا بنفسه وقد وسع الله عليه.

ولقد كره الإمام مالك إحياء الليل كله وقال: لعله يصبح مغلوباً.
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: «أُخْبِرَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أَنِّي أَقُولُ: واللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، ولَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ ما عِشْتُ فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ ﷺ: أَنْتَ الذي تَقُولُ واللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ ولَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ ما عِشْتُ قُلتُ: قدْ قُلتُهُ قالَ: إنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذلكَ، فَصُمْ وأَفْطِرْ، وقُمْ ونَمْ، وصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فإنَّ الحَسَنَةَ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وذلكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقُلتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِن ذلكَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فَصُمْ يَوْمًا وأَفْطِرْ يَومَيْنِ قالَ: قُلتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِن ذلكَ، قالَ: فَصُمْ يَوْمًا وأَفْطِرْ يَوْمًا، وذلكَ صِيَامُ دَاوُدَ وهو أَعْدَلُ الصِّيَامِ قُلتُ إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ منه يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: لا أَفْضَلَ مِن ذلكَ» متفق عليه.

قال مجاهد: كان عبدالله بن عمرو حين ضعف وكبر يصوم الأيام يصل بعضها إلى بعض ليتقوى بذلك ثم يفطر بعدد تلك الأيام.
وكان يقول: لأن أكون قبلت رخصة رسول الله ﷺ أحب إلى مما عدل به.
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التشدد والمغالاة فى العبادات له آثار سلبية على المسلم قال ﷺ: «إن الدِّين يُسْر، ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلبَه، فسَدِّدوا وقارِبوا وأَبشِروا» رواه البخاري.

أقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: لقد كان حب اليسر والتيسير من أعظم شمائل سيدنا رسول الله ﷺ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ بيْنَ أمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فإنْ كانَ إثْمًا كانَ أبْعَدَ النَّاسِ منه، وما انْتَقَمَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ لِنَفْسِهِ في شيءٍ قَطُّ، إلَّا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ بهَا لِلَّهِ» رواه البخارى ومسلم.

♦ ثالثاً: هلكَ الْمُتَنَطِّعونَ؛ إن روح الإسلام اليسر والتيسير ورفع الحرج والمشقة ورغماً من ذلك فقد انقسم الناس إلا من رحم ربى وعصم إلى فريقين كلاهما خالف فيما ذهب إليه هدى سيدنا رسول الله ﷺ؛
– الفريق الأول: المغالون المتشددون؛ لقد نهى ديننا الحنيف عن الغلو والتنطع؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «ألَا هلكَ الْمُتَنَطِّعونَ ألَا هلَكَ المتنطِّعونَ، ألَا هلكَ المتنطِّعونَ» رواه مسلم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «لا تشدِّدوا على أنفسِكم فيشدَّدَ اللَّهُ عليكم فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسِهم فشدّدَ اللهُ عليهم فتلكَ بقاياهم في الصَّوامعِ والدِّيارِ: ﴿رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾» رواه أبو داود.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعاً: «إياكم والغلوَّ في الدينِ فإنما أهلَك مَن كان قبلَكم الغلوُّ في الدينِ» رواه مسلم.

وفى هذا أبلغ دليل على بغض الإسلام للتشدد والعنت لأنه دين اليسر والتيسير ورفع الحرج والمشقة عن المكلفين؛ وإن التشدد والغلو في العبادات والتكاليف الشرعية ما هو إلا مقت وعنت وبُعد عن سنة سيدنا رسول الله ﷺ، ومن أخطر ما وقع فيه أهل الغلو والتشدد إصدار الأحكام الجائرة على من خالف مذهبهم من تكفير وتفسيق واستباحة الدماء والأعراض المحرمة وما فعلته الخوارج خير شاهد على ذلك.

– والغلو يبدأ في الأمور الصغيرة حتى يصل بصاحبه إلى كل أمور الدين والدنيا؛ ولقد نعى القرآن الكريم غلو أهل الكتاب قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ (النساء: ١٧١)،
– ولقد قاوم الإسلام كل أشكال الغلو؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: «نَهَى رَسولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الوِصَالِ، قالوا: فإنَّكَ تُوَاصِلُ، قالَ: أيُّكُمْ مِثْلِي، إنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِ، فَلَمَّا أبَوْا أنْ يَنْتَهُوا، واصَلَ بهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الهِلَالَ فَقالَ: لو تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لهمْ» رواه البخارى.

– الفريق الثاني: المفرطون المضيعون؛ وهؤلاء قوم دفعهتهم أهوائهم إلى الإغترار بيسر الدين فارتكبوا ما حرم الله وفرطوا في جنب الله بحجة أن الدين يسر فتجدهم لا يقيمون الصلاة ولايبالون بذلك ويأتون كل المنهيات بحجة أن الدين يسر وقد بين الحق جل وعلا أن الجزاء من جنس العمل؛ قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(الزلزلة: ٧-٨)،
– ونقول لهؤلاء المفرطين اتقوا الله وراقبوه قبل فوات الأوان قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: ٢٨١)، وعَنْ أبي يَعلَي شدَّادِ بنِ أوْسٍ رضي اللهُ عنه، قال النَّبي ﷺ: «الكيِّسُ مَنْ دَانَ نفْسَه، وعَمِلَ لما بعدَ الموْتِ، والعاجزُ مَنْ أتْبعَ نَفْسَه هواها، وتمنَّي علَي اللهِ»رواه التِّرمِذيُّ وقال حسن صحيح.

– قال قتادة: والله ما تمنى المفرط أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة ولا أن يجمع الدنيا ويقضى الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله.
ومن هنا نقول: بأن الدين يسر لأنه وسط فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تضييع لأوامر الله عزّ وجل.
فاتقوا الله عباد الله: واتبعوا ولا تبدعوا وكونوا ميسرين ولا تكونوا معسرين.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وأقم الصلاة

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ١٨ ذى القعدة ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ١٦ من مايو ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً