جيل في العاصفة: كيف تغزونا ألعاب الشاشات وتخطف عقول أبنائنا؟


بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب

إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية

مقدمة
بينما ننشغل في دوامة الحياة اليومية، يتكوّن في صمت جيل جديد… جيل تتسلل إليه عشرات الرسائل المسمومة كل يوم – من ألعاب، وأفلام، وسوشيال ميديا، وزملاء – تصوغ عقولهم، وتسرق قلوبهم، وتعيد تشكيل قيمهم دون أن نشعر ، نحن أمام قضية تمس حاضرنا ومستقبلنا، بل تمس بقاء أخلاق أجيالنا وهويتهم.

أولًا: ملامح الظاهرة – ماذا يرى أبناؤنا اليوم؟

منصات الألعاب والشاشات ليست مجرد وسائل ترفيه، بل باتت ساحات ضخمة لتشكيل العقول.

– ألعاب الأونلاين: محادثات بين أطفال ومراهقين مليئة بعبارات “بحبك” و”عايزة أتجوزك”، علاقات وهمية تُنبت مشاعر مبكرة وغير ناضجة.

– أنمي مشحون بالتلميحات: مشاهد لا تليق لا بطفل ولا بمراهق، تُزرع فيها صور وأفكار لا تُمحي بسهولة.

– لعبة GTA وأخواتها: كورسات مصغرة في الجريمة والانحراف… قتل، سرقة، خمر، بارات، عنف وألفاظ خارجة، كأنما صُممت لتطبع سلوكيات إجرامية في وجدان طفل لم تتكوّن ملامح رجولته بعد.

بيئات الدراسة: ألفاظ كبيرة، سلوكيات أخطر، غياب القدوة، وكأن البيت اكتفى بتوفير الأكل والنوم والمذاكرة… ونسي أن الأهم هو “التربية”.

ثانيًا: الأسباب – كيف وصلنا لهذا الحال؟

1ـ غياب الرقابة الأبوية: كثير من الآباء والأمهات لا يعرفون ماذا يشاهد أبناؤهم، أو يعتبرونه مجرد لعب وتسلية.

2ـ ضعف الحوار الأسري: الأب مشغول، والأم مرهقة، والطفل يبحث عن عالم بديل يحتويه ويستمع إليه.

3ـ وفرة المحتوى السام: سهولة الوصول لأي محتوى بلا رقابة، من خلال الإنترنت والهاتف الذكي، جعل العالم كله مفتوحًا على مصراعيه أمام الطفل.

4ـ ضعف دور المدرسة والمسجد: المؤسسات التربوية ضعفت، ولم تعد تملأ الفراغ الأخلاقي والقيمي الذي يعانيه الأبناء.

ثالثًا: الآثار – ماذا نخسر؟

١– تشوّه القيم: مفاهيم الحب، الرجولة، الأخلاق، الاحترام، كلها يُعاد تعريفها وفقًا لمعايير منحرفة.

٢– اضطراب الهوية: الطفل لم يعد يعرف من هو، ماذا يريد، وما هي حدود دينه وقيمه.

٣– الانطواء أو العدوانية: إما طفل منعزل في عالم افتراضي أو عنيف مستعد لنقل العنف الواقعي.

٤– تفكك الأسر: الهوّة تتسع بين الأهل وأبنائهم، ويتسرب الحوار والثقة.

رابعًا: الحلول – كيف نستعيد أبناءنا؟

1ـ الرقابة الذكية لا القمعية: راقب ما يشاهد ابنك بلطف ووعي، وناقشه في محتواه، لا بمنع أعمى بل بتوجيه حكيم.

2ـ إحياء الحوار العائلي: خصص وقتًا يوميًا لحوار حقيقي مع أبنائك، اسمع لهم قبل أن تعظهم.

3ـ زرع البدائل الآمنة: وفّر ألعابًا آمنة، كتبًا جذابة، أفلامًا تربوية، وساحات واقعية للأنشطة المفيدة.

4ـ التعليم بالتجربة لا التلقين: اربط الأخلاق بقصص واقعية وتجارب حياتية، ليشعر الابن أن القيم تنفعه في حياته.

5ـ تقوية دور المسجد والمدرسة: بتشجيع الأبناء على حضور الأنشطة، والاستفادة من الدروس، وبناء بيئات صالحة حولهم.

6ـ تنمية الوعي الرقمي: علّم ابنك كيف ينتقي المحتوى، كيف يفرّق بين النافع والضار، وكيف يضبط وقته أمام الشاشات.

خاتمة:
التربية ليست “وجبة سريعة”، بل بناء يومي: كلمة فوق كلمة، حجر فوق حجر. إن لم نبنِ أبناءنا اليوم، بنَتهم الشاشات بيد غيرنا. ولننتبه… القضية ليست مجرد “عيال بيلعبوا”، بل أرواح تتشكل، وعقول تُسرق، ونفوس تتشوّه. فلنصحو قبل فوات الأوان.

اترك تعليقاً