مراتب الحب الإلهي: بين نعمة المنعم وجلال الذات

بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية

إن للحب الإلهي درجتين، كما أن للعبودية درجتين… فالعبودية إمّا أن تكون عبودية افتقار، وهي التي تعيش بين جناحي الخوف والرجاء، إذ يقف العبد على باب مولاه، خائفًا من عقوبته، راجيًا رحمته… وإمّا أن تكون عبودية اختيار ومحبة، وهي التي تفيض بها الأرواح الطاهرة لعظمة الله تعالى، وتقديسه، ومحبته لذاته العلية، لا طمعًا ولا خوفًا، بل تعظيمًا وتنزيهًا.

وكذلك الحُبُّ لله تعالى… فإمّا أن يكون حبًّا لله تعالى لما يغدقه على عباده من نِعَمٍ وأفضال، فهو حب المُنْعَم عليه لمُنعِمه… وإمّا أن يكون حبًّا لجمال صفاته، وطُهر قُدسه، وعظيم كماله… فهو حب العابد للعظمة والجمال والكمال.

والفرق بينهما واضح: 

فالأول معلول، وللنفس فيه حظ ونصيب، إذ تطلب الأجر والثواب.


أما الثاني، فهو حب خالص، تنزيه للروح وبالروح، لا تكدّره أغراض النفس، ولا تشوبه شوائب الطمع…

الأول للعموم، والثاني للخصوص النادر، والنادر – كما قال أهل الأصول – لا حكم له، ولا يقوى عليه كل البشر…

ولذلك كان رسول الله ﷺ يخاطب عموم المسلمين، ويعلمهم حب الله وحب رسوله بقوله ﷺ: “أَحِبُّوا اللَّه تَعَالى لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنَ نِعْمَةٍ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّه، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي” (رواه الترمذي والحاكم عن ابن عباس – صحيح).

فرسول الله ﷺ يوقظ قلوب الناس بذكر الأفضال والنعم الظاهرة والباطنة، ويدعوهم إلى محبة الله صاحب الفضل والمِنّة، تمامًا كما يدعوهم إلى العمل الصالح بترغيب الثواب، ويخوّفهم بالعقاب. وهذا هو حال أكثر الخلق…
يرجون ويرهبون…
يتاجرون وينتظرون الربح… فحببهم الله إلى ذلك، وبشرهم بأنها تجارة لا تبور أبدًا.

أما الحب الخالص لله تعالى، لكماله وجماله وعظمته، فهو حب الخواص، الذين التقطت أرواحهم أنوار المعرفة، وسكنت قلوبهم في حضرة الجمال الإلهي… ذلك الحب يُشار إليه ولا يُفصح عنه، ولا يدركه إلا من شاء الله له ذوقًا وإحساسًا رفيعًا.
وقد أشار إليه النبي ﷺ بقوله: “إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمال”
(رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم).

فمن من الخلق لا يحب الجمال؟!
ومن منهم لا يحب الكمال؟!
لكن جمال الله ليس كجمال الخلق، وجلاله لا يُقاس بجلال البشر، بل هو الجمال المطلق، الذي إذا شعّت أنواره على القلوب، ذابت شوقًا، وارتقت عشقًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *