خطبة بعنوان: “إنَّ ما أتخوف عليكم رجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فغيّر معناه” لفضيلة الشيخ أحمد أبو اسلام

 

إعداد فضيلة الشيخ : أحمد أبو اسلام

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية

٩ مايو ٢٠٢٥م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ 

عناصر الخطبة

١) القرآن وأثره في حماية الأفكار

٢) حث القران على مراعاة العقل

٣)جادل القرآن الماديين وأرباب الملل وغيرهم بالبرهان

٤)نماذج من محاربة أصحاب الأفكار الفاسده بالعقل والحجة والبرهان

أما بعد ،،،

القرآن وأثره في حماية الأفكار

👈القرآن الكريم هو أساس حماية الفكر ومنطلق الاعتدال والتوسط، يدعو إلى ذلك بآياته وأحكامه وأخلاقه، والأمن الفكري مطلب لتربية الأجيال والناشئة في عصر الانفتاح والعولمة والتمدن والحضارة وانفتاح الشرق على الغرب، فالأمن الفكري إذا تحقق في الأمة يكون مصدر عزها وتطورها ونموها حضارياً وثقافياً، بل إن تحقيق الأمن الفكري يعد سياجاً قوياً وحصناً منيعاً لحماية المجتمع عامة والشباب خاصة من أي فكر دخيل أو هدام.

 

👈يقول تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [سورة البقرة:143] أي عدولاً وخياراً، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، ووسطا بين الأمم بين من غلا فيهم كالنصارى وبين من جفا كاليهود، وسطا في الشـريعة لا تشديدات اليهود وأحبارهم ولا تهاون النصارى[تفسير السعدي ]، فلذلك كانوا “أمة وسطا” كاملين معتدلين ليكونوا شهداء على الناس ((بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر الأديان ولا يحكم عليهم غيرهم))، روي عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده على الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [سورة الأنعام:153].

👈وكذا قوله تعالى في فاتحة الكتاب العزيز ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [سورة الفاتحة:6] فهي صـريحة في تحديد المنهج الوسط البعيد عن الغلو والتطرف؛ ذلك أنها بينت أن هذا الصـراط هو صـراط الذين أنعم الله عليهم. قال الطبري: (أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصـراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب.

والقرآن الكريم حمى الفكر وثبت أسس الأمن الفكري عن طريق الملامح التالية:

👈القرآن الكريم نقّى عقل المسلم من الخرافة، والسحر، والشعوذة، والوهم، وادعاء علم الغيب، وذلك حماية للعقل كي لا تسيطر عليه الخرافات والأوهام التي يهذى بها أهل الشعوذة والدجل ومن نحا نحوهم، ودعا القرآن الكريم إلى استخدام العقل للوصول إلى الإيمان بالله والتمسك بمنهجه عقيدة وشـريعة قال تعالى: ﴿ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [سورة يس:61]قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان، وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به [تفسير بن كثير ]، والقرآن الكريم لا يرضى للمسلم أن يكون إمّعَة يأخذ برأي غيره أو ينقاد بغير تفكير ولا تبين، بل الواجب أن ينظر ويفكر ويتفقه حتى يحقق الاعتدال في التفكير عملاً بقوله تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [سورة يونس:101] قل، يا محمد، لهؤلاء المشـركين من قومك، السائليك الآيات على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا، أيها القوم، ماذا في السموات من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها = وفي الأرض من جبالها، وتصدعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم موعظة ومعتبرا، ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101] يقول جل ثناؤه: وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عبادة الله عقابه، عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء، وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار، لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدقون به[تفسير الطبري].

👈فالقرآن الكريم دعا إلى تنقية العقل من الأحكام المبنية على الظنون والتخمينات، فالظن في الإسلام لا يغني عن الحق شيئاً. قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [سورة النجم:28]أي: لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث))[تفسير ابن كثير].

👈كما حذّر القرآن من إتباع الهوى لأنه يحول بين الشخص وبين الوصول للمعرفة الصحيحة قال: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ [ سورة المؤمنون:71]يقول تعالى ذكره: ولو عمل الرب تعالى ذكره بما يهوى هؤلاء المشـركون وأجرى التدبير على مشيئتهم وإرادتهم وترك الحق الذي هم له كارهون، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن; وذلك أنهم لا يعرفون عواقب الأمور والصحيح من التدبير والفاسد، فلو كانت الأمور جارية على مشيئتهم وأهوائهم مع إيثار أكثرهم الباطل على الحق، لم تقر السموات والأرض ومن فيهن من خلق الله، لأن ذلك قام بالحق[تفسير الطبري].

 

حث القران على مراعاة العقل

👈فالمسلمون يعيشون في زمن انفتحت فيه الدنيا على مصراعيها ،فصار المرء يتلقَّى آراء عديدة وتوجهات متغايرة من خلال الفضائيات ومواقع التواصل وغيرها ، وفي خِضَمِّ هذه التحديات والاختلافات؛ يجدر بالمسلم، أن تكون لديه رؤية ناضجة في مواجهة هذه التحديات ، فمواجهتنا لهذه التحديات الثقافية تتطلَّبُ منَّا قوَّة عقدية، وركائز ثابتة، تأخذنا لبرِّ الأمان، وشاطئ النجاة.

👈ومما يمكن تحصين النفس به وحماية الفكر من خلاله حث القران على مراعاة العقل في حماية الفكر الإنساني من الانحراف والضلال، فقد أتى العقل يحمل دلالات مشتركة لابد فيها من مراعاة السياق القرآني، ومجمل تلك المعاني تدور حول العقل بمعنى القوة ” المتهيئة ” لقبول العلوم كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [سورة العنكبوت:43] وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه[تفسير ابن كثير] وهذه القوة هي التي يحصل بها التميز بين الحسن والقبيح، وكذلك يكون بها العلم بصفات الأشياء من حيث الكمال والنقصان، ويسمى العقل قلبا كما يسمى القلب عقلا، قال الحق سبحانه: ﴿ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [سورة التوبة:87] ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما[تفسير ابن كثير].

👈وقوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها من قبل قريش ﴿ لَذِكْرَى ﴾ [ق: 37] يتذكر بها ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ق: 37] يعني: لمن كان له عقل من هذه الأمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم، خوفا من أن يحل بهم مثل الذي حل بهم من العذاب[تفسير الطبري].

👈وقد ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد هذا المعنى ((واعقل عقل قلبك))[المستدرك ]، ((وليعقل قلبك))[تفسير القران ط ] وذكر الفراء أيضا أنه جائز في العربية أن تقول: ما لك قلب، وما قلبك معك؛ تقول ما عقلك معك، وأين ذهب قلبك؟ أين ذهب عقلك؟.

👈وعلى هذا المعنى فإن العقل المتهيئ لتلقي الأفكار وقبول العلم لابد أن يكون محميا في تلقي هذه العلوم والأفكار لمنهج القرآن وإلا فإن مجرد التهيىء لتلقي العلوم والأفكار بالفعل المجرد بدون وحي عاصم قد يوقع المرء في ضلالات وانحرافات نشاهد كثيرا منها في العالم المعاصـر بسبب الابتعاد عن وحي القرآن.

👈ومن دلالات العقل أيضا التثبت في الأمور، يقول الرسول: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾] نزل به ملك كريم أمين وهو جبريل، عليه السلام، ذو مكانة عند الله، مطاع في الملأ الأعلى، ﴿ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ [الشعراء: 194] يا محمد، سالما من الدنس والزيادة والنقص؛ ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 194] أي: لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشـر به المؤمنين المتبعين له[تفسير ابن كثير].

👈ومنها قول الله تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [سورة الحجرات:6]يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون -في نفس الأمر-كاذبا أو مخطئا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن إتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال[تفسير ابن كثير]، وخاصة في الأمور التي لا يستطيع العقل بمفرده أن يصل فيها إلى نتائج قطعيه ثبوتا أو نفيا.

👈ومن دلالات العقل في القرآن بأن جعله نوراً يهدي به الناس وطالبهم باستعماله والتحاكم إليه وسماه نورا في قوله تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [سورة الأنعام:122] هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا، أي: في الضلالة، هالكا حائرا، فأحياه الله، أي: أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله، ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [الأنعام: 122] أي: يهتدي (به) كيف يسلك، وكيف يتصـرف به. والنور هو: القرآن، كما رواه العوفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقال السدي: الإسلام. والكل صحيح. ﴿ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي ﴾ [الأنعام: 122] أي: الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة، ﴿ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122] أي: لا يهتدي إلى منفذ، ولا مخلص مما هو فيه، وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل))[تفسير ابن كثير] كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [سورة البقرة:257]يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك[تفسير ابن كثير] وكما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [سورة الملك:22]أفمن يمشي منكَّسًا على وجهه لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب، أشد استقامة على الطريق وأهدى، أَمَّن يمشي مستويًا منتصب القمة سالمًا على طريق واضح لا اعوجاج فيه؟ وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن[التفسير الميسر].

جادل القرآن الماديين وأرباب الملل وغيرهم بالبرهان

👈وحين يجادل القرآن الماديين والدهريين وأرباب الملل والنحل إنما يجادلهم بالبرهان ويدعوهم إلى إمعان النظر والفكر، ويتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [سورة الأعراف:179] فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته، ولا يعتبرون بها حججه لرسله، فيعلموا توحيد ربهم، ويعرفوا حقيقة نبوة أنبيائهم. فوصفهم ربنا جل ثناؤه بأنهم: ﴿ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، لإعراضهم عن الحق وتركهم تدبر صحة (نبوة) الرسل، وبطول الكفر. وكذلك قوله: ﴿ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، فيتأملوها ويتفكروا فيها، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم، وفساد ما هم عليه مقيمون، من الشـرك بالله، وتكذيب رسله; فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحق، بأنهم لا يبصـرون بها[تفسير الطبري ].

👈وكذلك قوله: ﴿ وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، آيات كتاب الله، فيعتبروها ويتفكروا فيها، ولكنهم يعرضون عنها، ويقولون ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [سورة فصلت:26]أي: أعرضوا عنه بأسماعكم، وإياكم أن تلتفتوا، أو تصغوا إليه ولا إلى من جاء به، فإن اتفق أنكم سمعتموه، أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه، فـ ﴿ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ [فصلت: 26] أي: تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه، بل فيه المضرة، ولا تمكنوا -مع قدرتكم- أحدًا يملك عليكم الكلام به، وتلاوة ألفاظه ومعانيه، هذا لسان حالهم، ولسان مقالهم، في الإعراض عن هذا القرآن، ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾ [فصلت: 26] إن فعلتم ذلك ﴿ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26] وهذه شهادة من الأعداء، وأوضح الحق، ما شهدت به الأعداء، فإنهم لم يحكموا بغلبتهم لمن جاء بالحق إلا في حال الإعراض عنه والتواصي بذلك، ومفهوم كلامهم، أنهم إن لم يلغوا فيه، بل استمعوا إليه، وألقوا أذهانهم، أنهم لا يغلبون، فإن الحق، غالب غير مغلوب، يعرف هذا، أصحاب الحق وأعداؤه[تفسير السعدي ].

👈وقد حمل القرآن على المقلدين الذين يعطلون عقولهم ولا يستعملونها، فقال في موضع ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [سورة الأنفال:22]إن شر ما دب على الأرض من خلق الله عند الله الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه، فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكصون عنه إن نطقوا به، الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، فيستعملوا بهما أبدانهم[تفسير الطبري].

👈وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله: ﴿ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يونس: 43] [سورة يونس:43]يقول: أفأنت يا محمد، تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك، فلا يوفقون للتصديق بك أبصارا، لو كانوا عميا يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحد سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصـرهم سبيل الرشاد أنت ولا أحد غيري، لأن ذلك بيدي وإلي.

👈وهذا من الله تعالى ذكره تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعة ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمر برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله[تفسير الطبري].

👈وهذا ما وجه القرآن به لحماية الفكر في تقليد المخاطبين بأسلافهم في عوائدهم وعاداتهم التي لا يهتدون إلى مواقع الصواب فيها فقال تعالى: ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [الزخرف: 24] أي: قل يا محمد لهؤلاء المشـركين لو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به، لما انقادوا لذلك بسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله[تفسير ابن كثير ].

فهنا خاطبهم القرآن باستعمال عقولهم للموازنة بين الأفكار التي ورثوها والأفكار التي تعرض عليهم ليستخلصوا أوجه الهدى والصواب إلى أي الجانبين تميل .

نماذج من محاربة أصحاب الأفكار الفاسده بالعقل والحجة والبرهان

مناظرة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم:

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ” أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا الله على ما نقول وكيل، قال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال ” تنام عيناه ولا ينام قلبه “. قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: ” يلتقى الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت “. قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: ” كان يشتكي عِرق النسا فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا وكذا، قال أبي قال: بعضهم يعني الإبل فحرم لحومها، قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ” ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيده أو في يده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمر الله “. قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: ” صوته ” قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة وهي التي نبايعك أن أخبرتنا بها فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك، قال: ” جبريل عليه السلام “، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان، فأنزل الله عز وجل: من كان عدواً لجبريل…… إلى آخر الآية ” ( رواه أحمد ).

مناظرة الإمام على لأحد اليهود

مناظرة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أحد اليهود: جاء في كتاب ” عيون المناظرات ” لأبي علي السكوني ” رحمه الله: قال يهودي لعلي رضي الله عنه: ” ما نفضتم أيديكم من تراب نبيكم حتى قلتم ” منا أمير ومنكم أمير”.

فقال له علي: ما جفت أقدامكم من (فلق) البحر حتى قلتم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.

فانقطع اليهودي ولم يجد جوابا لأن ” منا أمير ومنكم أمير” ليس فيه ما يهدم الدين وإنما الطامة العظمى ما أتى به اليهود من الكفر إذ عبدوا العجل بإثر ذلك.

مناظرة أبو حنيفة النعمان مع بعض الملاحدة:

يذكر أنه اجتمع طائفة من الملاحدة بأبي حنيفة– فقالوا ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال: دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب. قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة وهي ذاهبة وراجعه من غير أن يحركها أحد ولا يقودها أحد. قالوا: أمجنون أنت؟! قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل !! فقال لهم: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا الفلك الدوار السيار يجري ويحدث هذه الحوادث من غير محدث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا إلى أنفسهم بالملامة.

هذا وصلوا على سيدنا محمد

وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، كما أسأله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته ، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وينصر بهم الحق، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *