خطبة بعنوان ( منهج القرآن الكريم في صدِّ الشبهات ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

خطبة بعنوان ( منهج القرآن الكريم في صدِّ الشبهات )
لفضيلة الدكتور : محمد أحمد جاد قحيف

الحمدُ للهِ الذي جَعلَ القرآنَ نوراً للمهتدينَ، ومَناراً للمسترشدينَ، وسَبيلاً قَاصداً للمستبصرينَ، وبابًا لصلاحِ الدُّنيا والدينِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، جعل القرآن خَبَر الْأَوَّلِينَ، وَنَبَأ الْآخِرِينَ، وَحِكْمَة النَّبِيِّينَ، وَهِدَايَة الْمُرْسَلِينَ

وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورَسولُه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ ، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أَمَّا بَعْدُ :

لقد أكرمنا الله جل وعلا بالقرآن الكريم فحفظ به الدين ، ورد شبهات المنكرين ، وفي عصرنا نظرا لوسائل التقدم الحديثة تفشو الشبهات حول الدين ، وتنتشر انتشار النار في الهشيم ، ويعمل على ذلك أعداء الإسلام ، وبعض منتسبيه للأسف الشديد ، فسعوا سعياً حثيثاً في تنفيذِ مُخططاتِهم في تغريب الأمة ، وغرس الشبهات والشهوات ليلاً ونهاراً، سِرّاً وجِهاراً، على مستوى كبيرٍ من التنظيمِ المدعومِ من البلاد المعادية ، والقنواتِ الآثمةِ، ومراكزِ الأبحاثِ المتقدمةِ، فبثُّوا الشُّبهاتِ، في كلّ المجالاتِ، حتى حقّقوا -للأسفِ- كثيراً من الأهدافِ المنشودةِ، ووصلوا إلى بعضِ الغاياتِ المرصودةِ..

والمنهج القرآني اعتمد في مواجهة الشبهات الفكرية على تحصِين القلوب والعقول وصيانتها ، بتعليمها الصحيح من العقيدة والشريعة والأصول والمبادئ الإسلامية، كما كان من منهج القرآن الكريم الخطاب بالحجة و البرهان، وإظهار زيف الباطل ، وروعة الحق..

ومن ذلك ما يلي:

العنصر الأول :دعوة القرآن الكريم للثبات أمام الشبهات والشهوات 

الشُّبْهَةُ هِيَ فِتْنَةٌ تَطْرَأُ عَلَى الْقَلْبِ فَتُثِيرُ فِيهِ الشَّكَّ وَالرِّيبَةَ فِي صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ الْوَحْيُ ، فَيَتَرَدَّدُ فِي قَبُولِهِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ نَجَاةٍ وَلَا مَهْرَبٍ مِنْ الفتن والشبهات إِلَّا بِالتَّمَسُّكِ بِدِينِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ حَتَّى الْمَمَاتِ..

قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 74]، فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَفْسُهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الثَّبَاتِ وَالتَّثْبِيتِ، فَمَا بَالُكَ بِنَا وَنَحْنُ الْمُذْنِبُونَ الْخَطَّاؤُونَ؟!..لا شك أننا بحاجة للتثبيت على الإيمان والدين ..

ثمت صلة بين الشهوات والشبهات ، فمن اعتاد الشهوات سهل عليه الاستسلام لقبول الشبهات..

ولَقَدْ طَلَبَ الحق سبحانه وتعالى مِنّ عباده المؤمنين الثَّبَاتَ فِي وَجْه الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، فَمِنَ يَتَجَنَّبُهَا فَهُوَ الْمُوَفَّقُ السَّعِيدُ، وَ مَنْ يُجَارِيهَا فَتَتَلَاعَبُ بِهِ فَهُوَ الشَّقِيُّ الْمَخْذُولُ..

وَالشَّهْوَةُ طَرِيقُ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ رَغْبَةٌ شَدِيدَةٌ إِلَى شَيْءٍ مَا، تُلِحُّ عَلَى الْإِنْسَانِ لِإِشْبَاعِهَا غَيْرَ عَابِئَةٍ حُدُودَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، كَشَهْوَةِ الْمَالِ وَالطَّعَامِ وَالْفَرْجِ وَشَهْوَةِ الشُّهْرَةِ وَحُبِّ الظُّهُورِ، وَيُوَضِّحُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُطُورَةَ الشَّهَوَاتِ وَصَدَّهَا عَنِ الْجَنَّةِ وَتَقْرِيبَهَا صَاحِبَهَا مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: “حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ”(رَوَاهُ الإمام الْبُخَارِيُّ).

وَقَدْ تَأْتِي الشُّبْهَةُ وَيُقْصَدُ بِهَا أَمْرٌ يَدُورُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ”(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

لَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْ قَوْمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُصَلُّونَ، لَكِنَّهُمُ انْتَكَسُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ لِشَهَوَاتِهِمْ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مَرْيَمَ: 59]… وَقَصَّ عَلَيْنَا قِصَّةَ “بِلْعَامَ بْنِ بَاعِرٍ” الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ وَحَبَاهُ، ثُمَّ سَقَطَ فِي وَحْلِ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ حَتَّى أَرْدَتْهُ وَأَهْلَكَتْهُ: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)[الْأَعْرَافِ: 175]..

وَحَذَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ رجل كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْتَكَسَ فِي شُبَهَاتِهِ حَتَّى صَارَ سَهْمًا فِي نَحْرِ الْمُسْلِمِينَ، قَائِلًا: “إنَّ ممَّا أتخوَّفُ عليكم رجلٌ قرأ القرآنَ، حتَّى إذا رُؤِيَتْ بهجتُه عليه ، وكان ردءَ الإسلامِ اعترَّه إلى ما شاء اللهُ، انسلخ منه، ونبذه وراءَ ظهرِه، وسعَى على جارِه بالسَّيفِ، ورماه بالشِّركِ. قال : قلتُ : يا نبيَّ اللهِ، أيُّهما أوْلَى بالشِّركِ : المرمِيُّ أو الرَّامي ؟ قال : بل الرَّامي”(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وسنده صحيح)..

فالإنسان غير قادر بالضرورة على مقاومة الفتن من شبهات وشهوات، فلا بد من الاستعانة بالله جل في علاه فمن دعاء الراسخين في العلم ” رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ” آل عمران/٨..

ألم تخبرنا أم المؤمنين أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يكثر من هذا الدعاء: اللهم” يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟!. (أخرجه ابن مردويه وسنده حسن)..

وذلك؛ لأن “قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء”؟! ..

العنصر الثاني: تحذير القرآن الكريم من أهل الزيغ و الهوى 

إن الآيات المحكمة الواضحة هي غالب آيات القرآن الكريم يفهمها ويتأثر بها من يفهمها ويتدبرها ، والآيات المتشابهات قليلة ويقصدها أهل الزيغ والذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منها، لماذا؟ حتى يلبسوا مصطلحات الحق بالباطل والباطل بالحق؛ ابتغاء الفتنة وقلب الموازين ..

ففي صحيح البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:269].

قالت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذروهم”، يعني: لا تجالسوهم ولا تكلموهم؛ فإنهم أهل الزيغ والبدع.

وهذه علامة واضحة لمعرفة مثيري الشبهات من مرضى القلوب ، أصحاب الأهواء المشككين الخبثاء الماكرين ..

“فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ”..

و عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدنية فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل -العرجون هو العرق اليابس المعوج- فقال له عمر: مَن أنت؟ فقال أنا عبد الله صبيغ. فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه فقال: أنا عبد الله عمر، فضربه حتى دمي رأسه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، حسبك! فقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي”. أدَّبَه حتى سكت.. (أورده الدرامي في السنن )..

ومن هنا فقد حذر القرآن الكريم من أصحاب الأهواء في كثير من آياته.. قال تعالى:﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾الجاثية/ ٢٣..

قال عكرمة : أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه ، فإذا استحسن شيئا وهويه اتخذه إلها . قال سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر ، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر . وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين ، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه …

وقال الشعبي : إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار . وقال ابن عباس : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه ، قال الله تعالى : واتبع هواه فمثله كمثل الكلب . وقال تعالى : واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقال تعالى : بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله . وقال تعالى : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله . وقال تعالى : ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وقال عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي – صلى الله عليه وسلم – : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (تفسير القرطبي)..

العنصر الثالث : استدلال القرآن الكريم على وحدانية الله ، والبعث بعد الموت ..

لقد تجرأ بعض البشر فأنكروا وجود الله ووحدانيته ، وانتشر في عصرنا موجات الإلحاد والقرآن الكريم يعالج بكل حكمة هذا الانحراف ، فعندما تأتي دعوةُ الإلحادِ لتُناقشَ المعقولَ، فيأتي القرآنُ ليُحاورَ العقولَ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ)[الطور:35-36]، طالما أنه لا هذا ولا ذاك، فالله جل جلاله هو الخالق العظيم لهذا الكون ، بما فيه من بشر وحجر وشجر ، ونباتات وحيوانات، وسموات وأراضين ..

كما تجرأ بعضهم على الله سبحانه وتعالى ، واستبعدوا ونفوا قدرة الخالق على إحياء الموتى بعد أن صاروا تراباً وعظاماً نخرة، فرد عليهم القرآن الكريم ، وأقام البراهين القاطعة على وقوع ذلك.. أذكر منها:

١- الاستدلال بالخلق الأول ، أي أن الذي خلقهم أول مرة وأنشأهم من العدم قادر من باب أولى على إعادتهم: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)..

وفي سورة الإسراء قال تعالى:﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا،قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾الاسراء٥١/٤٩..

“قالوا، إنكارا منهم للبعث بعد الموت: إنا لمبعوثون بعد مصيرنا في القبور عظاما غير منحطمة، ورفاتا منحطمة، وقد بَلِينا فصرنا فيها ترابا، خلقا مُنْشَأ كما كنا قبل الممات جديدا، نعاد كما بدئنا، فأجابهم جلّ جلاله يعرّفهم قُدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بِلاهم خلقا جديدا، على أيّ حال كانوا من الأحوال، عظاما أو رُفاتا، أو حجارة أو حديدا، أو غير ذلك مما يعظُم عندهم فالله قادر على إحيائهم “(تفسير القرطبي)..

٢-الاستدلال بإحياء الأرض الميتة بالماء والزرع والنبات ..

وهذا دليل حسي مشاهد بالعين ، وهو إحياء الأرض بالنبات الأخضر بعد موتها وجدتها،(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).. وغيرها من الأدلة والنصوص الكثير والكثير..

العنصر الرابع: نصوص القرآن الكريم القطعية لا تحتمل التأويل.

لقد قطع القرآن الكريم على مثيري الفتن والقلاقل في زرع الشبهات ، فكانت النصوص القطعية المحكمة التي لا تقبل التأويل ، لكنهم يصرون وفق أهوائهم على تحويل النص ذي الدلالة القطعية إلى ما يحتمل الاجتهاد والأخذ والرد، وعلى تحويل “الثابت إلى متغير”مخالفين بذلك إجماع الأمة سلفها وخلفها ، حتى أحكام الميراث القطعية كان لهم ولمن يتكلم بلسانهم فيه اجتهاد مع نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة ؛ …

لقد عانت الأمة كثيرًا من خبال هؤلاء وأمثالهم ممن يثرون الشبه حول القرآن الكريم ، أو ينكرون السنة، مستخدمين في ذلك سلاح الشبهات التي يثيرونها ، والشبهات حول صلاحية دين الإسلام لعصرنا الحاضر! ، وعانت من أصحاب الأهواء والأغراض الذين يسوون المرأة بالرجل في الميراث في كل الحالات مخالفين بذلك نص قطعي “للذكر مثل حظ الأثنين” ، ويشيعون زورا بأن الإسلام ظلم المرأة وهضم حقها وجعل نصيبها أقل من الرجل ، ويغفلون نصوص وحالات تسوي بين الرجل والمرأة كقوله تعالى “ولأبويه لكل واحد منهما السدس” السدس بالتساوي ..

وحالات تعطي المرأة ويحجب فيها الرجل ، كحالة ميراث الأخت مع البنات بما يسمى العصبة مع الغير ، هذا فضلا عن أحكام الشهادة ، والتحرر من الحجاب مستخدمين -أيضًا- سلاح الشبهات الفكرية !..

وممن يأخذون بظواهر النصوص فيكفرون المخالفين ، ويستحلون دمائهم ..

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: إذا سأل أحد عن تفسير آية في كتاب الله تعالى أو سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة بموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء، والحجر عليه، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الكلام قديما وحديثا. اهـ..

ويؤسفنا أن ممن يستخدمون هذا السلاح الخبيث في عصرنا: بعض مفتوني القلوب ، أو ممن قد أتاه الله علمًا وقرآنًا لكنه انسلخ منه واتبع الهوى ! ولقد أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك حين قال: “إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان”(رواه أحمد، وسنده صحيح)..

العنصر الرابع: البعد عن مواقع الشبهات

لقد أمر القرآن الكريم اتباعه بالبعد عن المجالس التي تثار فيه الشبهات، وإلا كان القاعد معهم دون أن ينهاهم مشاركًا لهم في عبثهم وظلمهم بل هو مثلهم: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النساء: 140]، اللهم إلا أن ينسى فيقعد ناسيًا، فإن ذكر فلينطلق موليًا فارًا بدينه وقلبه: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68]..

كما حذر النبي ﷺ من متابعة الدجال وأهل الأهواء والباطل فقال عليه الصلاة والسلام : “من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات”(رواه أبو داود، وسنده صحيح )..

فمن سمع -عباد الله- بمجلس أو داعية أو قناة وموقع على الشبكة العنكبوتية تثار فيه الشبهات فليبتعد عنه “قياسا على ذلك” ، ولا قال سيدنا مصعب بن سعد -رضي الله عنهما- فيقول: “لا تجالس مفتونًا؛ فإنه لن يخطئك منه إحدى خصلتين: إما أن يفتنك فتتابعه، أو يؤذيك قبل أن تفارقه”(البيهقي في الشعب)، ويؤكد التابعي الجليل أبو قلابة فيقول: “لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون”(سنن الدارمي)..

معاشر الإخوة: إذا كان القرآن الكريم ينهى عن الغيبة وقول الزور والقذف ويعاقب عليه؛ فكيف بما هو أعظم؟ كيف بسب الله تعالى أو سب دينه أو الاستهزاء برسوله أو التشكيك بالدين ونشر ذلك في كتاب أو عبر مقالة في صحيفة أو موقع إلكتروني؟ هل يسكت الإسلام عمن فعل ذلك ويقول له: أنت حر؟! أم يحاسبه؟ أين واجب النهي عن المنكر؟ أين هو؟ أين واجب حماية حدود الدين وتعظيم شعائر الله؟.

هل منهجية الإسلام في التعامل مع الفتن كمنهجية الغرب أو الشرق الكافر؟ الليبراليون شرقا وغربا ومحليا ودوليا يتبنون منهجية العلمانية المتطرفة ، وهي تحترم القوانين الوضعية، نعم؛ بل وتقدسها حتى لو طبقت الوصايا على السلوك، ولكنها لا تعترف بالدين مرجعا بالحكم على السلوك أو العادات أو القيم .

بل حتى على مستوى الاعتقاد الشخصي لا تُفرق بين الأديان ولا تُصحح ولا تُخطّئ؛ بل تترك الإنسان تحت رحمة المتنازعات، إن شاء أسلم أو تنصر أو تهود أو ألحد! افعل ولا حرج؛ فكله صواب! لا فرق! لأن الأديان في أذهان العلمانيين مجرد فلسفات إنسانية،

وهذا يعني باختصارٍ أنهم يطمعونَ في أن يكونَ الاستعمارُ الجديدُ “بعد فشل فكر المستعمر القديم “على أيدي شَبابٍ مُسلمٍ تربَّى على إسلامٍ يُناسبُ الغربَ، يفصلُ الدِّينَ عن الدُّنيا، ولا يعرفُ ولاءً لمؤمنٍ ولا براءً من كافرٍ، مشغولٌ بالتَّفاهاتِ، منغمسٌ في الشَّهواتِ، ليسَ له عزةٌ إسلاميةٌ، ولا هويةٌ وطنيةٌ، وإنما هي الليبراليةُ العلمانيةُ..

فلييقرأُ المسلمُ بقلبِه هذه الآيةَ:

:(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:162]..

وختاماً: إن منهج القرآن الكريم يحرص على الحفاظ على عقيدة الأمة وفكرها ، و هذا هو منهج الإسلام في التعامل مع الفكر الظاهري المنحرف ، أو أي فكر يستهزئ بالدين أو شعائره أو أحكامه، أو يناقض العقيدة، أو يلقي بالشبهات حول أمور الدين وثوابته، أو يسب الله تعالى، أو يتهكم برسوله -صلى الله عليه وسلم- أو يدعو إلى الرذيلة وما شابه ذلك من المحرمات..

اسمعوا إلى وصيةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلم- لأمتِهِ في أكبرِ جمعٍ في زمانِهِ، يومَ عرفةَ في حجةِ الوداعِ، حينَ خطبَ فيهم، وقالَ لهم: “وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ”.. إنَّه القرآنُ كتابُ اللهِ، ولذلكَ جاءَ في كثيرٍ من تصريحاتِ الأعداءِ التحذيرَ من القرآنِ؛ لأنه يُفسدُ عليهم مكائدَ الشَّيطانِ، يَقولُ غلادستون رئيسُ وزراءِ بريطانيا سابقًا: “ما دامَ هذا القرآنُ موجودًا في أيدي المسلمينَ، فلن تستطيعَ أوروبا السيطرةَ على الشَّرقِ، ولا أن تكونَ هي نفسُها في أمانٍ”..

عِبَادَ اللَّهِ: لقد كثرت الفتن والشبهات والشهوات في عصرنا الحاضر ، وانغمس الفتيان والفتيات فيها..

فيا إخوة الإسلام إِنْ سَأَلْتُمْ: وَكَيْفَ النَّجَاةُ؟ قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ لَنَا وَسَائِلَ تُعِينُنَا عَلَى الثَّبَاتِ، وَمِنْهَا: الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ..

قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النِّسَاءِ: 66]، فَالطَّاعَةُ مِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ، كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مِنْ أَسْبَابِ الزَّلَلِ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)[آلِ عِمْرَانَ: 155]..

كما أن الوضع الراهن يحتِّم على الأمة الإسلامية أن تتمسك بالقرآن الكريم مصدر الحق المعصوم الذي مَنَّ الله به عليها دون سائر الأمم، وألَّا تتلقى من غيره أنماط السلوك والقيم ..

نسأل الله جل في علاه أن يثبتنا وأهلينا وأولادنا على هداه ، وأن ينصر عباده المستضعفين على الصهاينة المعتدين ، وأن يحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين ..

واللهم انفعنا بالقرآن الكريم وارفع ذكرنا بالقرآن الكريم ،واشرح صدورنا واغفر ذنوبنا ببركة القرآن الكريم ، واجعل القرآن قائدنا إلى الجنة ، ولا تجعله سائقنا إلى النار ، برحمتك يا عزيز غفار . وصل الله وسلم على نبينا محمد المختار ، وعلى آله وصحبه الأخيار ، وسلم تسليما كثيرا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *