قوة الوطن فى وعى أبنائه ومشاركتهم الفعالة

بقلم دكتور مهندس : محمود مالك محمد علوان
شيخ عموم سجادة السادة العلوانية الخلوتية

https://web.facebook.com/mahmoud.m.olwan

الحمد والشكر لله رب العالمين الذى جعل التعاون على البر أساس العمران، والصلاة والسلام على النبى المعلّم سيدنا محمد (اللهم صل وسلم وبارك عليه) الذى أرسى قواعد المجتمع المتكافل. تأسيساً على قوة الأمة التى لا تقاس بثرواتها الطبيعية فحسب، بل بوعى أبنائها وإرادتهم فى البناء، وهذا ما تؤكده الرؤية القرآنية والنبوية والتجارب الحضارية للمجتمع الرشيد.

لذا لابد من التدبر من خلال رؤية تكاملية بين الإيمان والعمران، عبر أربعة محاور رئيسية:

المحور الأول: الوعى الإيمانى أساس البناء (النظرية التأسيسية):

﴿”…إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ… (11)” الرعد﴾، تضع الآية قانوناً اجتماعياً لا يحابى أحداً، وتشريعاً إلهياً يربط التغيير المجتمعى بالإرادة الذاتية، وذلك بالإيمان والعلم النافع: ﴿”…قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ…(9)” الزمر﴾، وذلك كسيدنا يوسف (اللهم صل وسلم وبارك عليه) فى الجمع بين الإيمان وعلم الإدارة، ويتضح ذلك فى قول الله عز وجل ﴿”قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)” يوسف﴾ والتخطيط الإستراتيجى كما أرشدنا الله عز وجل بقوله ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)” يوسف﴾.

المحور الثانى: مستويات المشاركة الفعالةحيث الوعى الفردى والجماعى هو البوصلة التى تحدد اتجاه المجتمع(النموذج التطبيقى):

1- المستوى الفردى (بناء الذات):

«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير (مسلم)»، ويظهر تطوير الذات فى قول الله عز وجل: ﴿”…وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)” طه ﴾، ويظهر الإتقان الذاتى فى قول الله عز وجل ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ… (105)” التوبة﴾، وتلك سنة عملية للإحسان فى العمل.

2- المستوى المجتمعى:

يطبق من خلال التكافل العملى للتمويل التنموى المستدام كما فى نظام الوقف الإسلامى والمؤسسات المجتمعية، تأسيساً للممارسة العملية للتكافل من خلال «إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا… (البخارى)»، وكذلك «مَثَلُ المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى (البخارى ومسلم)»، ويظهر أيضاً من خلال التطوع والإصلاح: ﴿”…وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى… (2)” المائدة ﴾.

المحور الثالث: معوقات البناء المجتمعى المعاصرة لتغييب الوعى (التشخيص الواقعى):

  1. الفراغ الفكرى بغياب العلماء «إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا (متفق عليه)».

  2. الفرقة والضعف وقد أرشدنا الله عز وجل بقوله ﴿”…وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ …(46)” الأنفال﴾

  3. التخلف الحضارى بترك الأمر بالمعروف، قال الله عز وجل ﴿”كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)” المائدة﴾ وشدد الله عز وجل على مراعاة الحقوق بقوله ﴿”…تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)” البقرة﴾، ونهانا الله عز وجل عن الحرام بقوله ﴿”…تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ …(187)” البقرة﴾.

  4. الانهزامية الحضارية من خلال انتشار الثقافة الاستهلاكية، فيتحقق «يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها ، قيل : يا رسولَ اللهِ ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ (رواه أحمد وأبو داود)».

  5. التفكك الأسرى المانع من غرس وإنماء القيم، وأرشدنا الله عز وجل بقوله ﴿”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا (6)” طه﴾، وكذلك التوعية بقول الله عز وجل ﴿”وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ…(18)” لقمان﴾، وفقدان سعادة العطاء والتسامى والتشافى، وهذا مؤداه نزع هيبة المعصية من القلب ومن ثم نزع هيبة كل مقدس وينتهى بتحقير كل ما هو مقدس ويتجلى ذلك بالتهوين من شأن الدين والوطن.

المحور الرابع: مشروع النهضة العملية الشاملة (رؤية مستقبلية):

  1. تعليم تكاملى: جمع بين العلوم الشرعية فى ﴿”اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)” العلق﴾ والتقنية فى (“وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ…(80)” الأنبياء﴾، لإعداد جيل يحمل أمانة ﴿”كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (110)” آل عمران﴾.

  2. اقتصاد إنتاجى: تطبيق سنة سيدنا محمد (اللهم صل وسلم وبارك عليه) «ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ… (البخارى)»، لاستثمار الطاقة الشبابية إلى مشاريع تنموية، بدلا من التذمر بحرق الوقت والمجهود فيهدم المجتمع.

  3. الحوكمة الرشيدة: تطبيق مبدأ ﴿”…وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ… (38)” الشورى﴾ مع الجمع بين الكفاءة “…الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)” القصص﴾ والعدالة ﴿”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)” المائدة﴾.

ومما سبق فلابد من عقد إيمانى اجتماعى متكامل، حيث إن الوطن القوى هو الذي يجعل من قول الله عز وجل: ﴿”كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ… (110)” آل عمران﴾ برنامج عمل، لا شعاراً أجوفا، وذلك يتطلب أموراً ثلاثة:

  1. الوعى الذى يجمع بين الثوابت الشرعية ومتطلبات العصر.

  2. المشاركة التى تبدأ من تنظيف وتنظيم الغرفة ثم الحى لنصل لبناء الحضارة.

  3. الإرادة بالتصميم المستدام ﴿”إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)” العصر﴾

حتى يتسنى لنا تطبيق “من المسجد إلى المختبر، ومن العبادة إلى العمارة، ومن الدعاء إلى الدفع الحضارى”. فالوعى ليس معلومات تحفظ، بل طاقة تبنى، من خلال ترسيخ مبدأ أن المشاركة ليست شعارات ترفع للاستهلاك الظاهرى، بل هى إنجازات تتحقق.

فلا مناص من الوعى والمشاركة الفعالة فى بناء المجتمع وتقدم الأمة، من خلال التزام الفرد والمجتمع بالإيمان والعلم لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة، لأن المشاركة الفعالة التكاملية بين أفراد المجتمع يُعزز من قوتهم واستقرارهم.

ويبرز مما تقدم أن التفاعل الإيجابى بين الأفراد والمجتمع هو السبيل لتعزيز القيم الإيمانية والوطنية، لتحقيق القوة والازدهار في المجتمع، من خلال الالتزام بالإيمان والعلم للتقدم المستدام، ولذا لابد من:

– تحويل دور العبادة إلى مراكز إشعاع إيمانى وعلمى وعملى.

– تحويل المؤسسات التعليمية إلى ورش إبداع ومنصات ابتكار.

– جعل الأحياء السكنية والمؤسسات المجتمعية نماذج للتعاون والعطاء.

مما يشكل المعادلة الحضارية الرشيدة: إيمان + علم + عمل + تقوى + إخلاص = مجتمع قوى مستقر مستدام.

وصدق الله العلى العظيم: ﴿…وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)” الحج﴾.

       

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *