التأسيس المؤسسي للطرق الصوفية على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني

بقلم الدكتور : محمد لطفي الحسني
شيخ الطريقة القادرية البريفكانية في مصر 

برز التصوف الإسلامي كواحد من التيارات الروحية المؤثرة في تاريخ الحضارة الإسلامية، إذ أسهم في تهذيب النفوس وتزكية الأرواح والسعي نحو القرب من الحق تعالى. ورغم تعدد طرق التصوف ومسالكها عبر القرون، تبقى مساهمة الشيخ عبد القادر الجيلاني (470 هـ -561هـ) رائدة ومفصلية، ليس في البعد الروحي والتربوي فحسب، بل كذلك في التأسيس المؤسسي الذي نقل التصوف من إطار الجهد الفردي والزهد الشخصي إلى منظومة منظمة ذات أركان وهيكل إداري وتعليمي.

ملامح التأسيس المؤسسي على يد سيدي عبد القادر الجيلاني:
أدرك الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد، قلب العالم الإسلامي آنذاك، عمق الحاجة إلى نظام يجمع السالكين ويوجههم، بعد أن شهد بعينيه مظاهر الانحراف والفتور والطغيان في بعض الأوساط الاجتماعية والدينية. لم يكتف سيدي عبد القادر الجيلاني بصفائه الذاتي ولا بسلوكه الفردي، بل كان حريصاً على نقل تجربته الروحية إلى الآخرين ضمن ترتيب واضح وضوابط عملية.

أسس سيدي عبد القادر الجيلاني زاويته الشهيرة “الرباط القادري” التي تحولت إلى نواة لواحدة من أكبر الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي.

تضمنت منهجيته في التأسيس المؤسسي عدة عناصر رئيسة ــ أولها وضع برنامج تعليمي متدرج يجمع بين علوم الشريعة وفيوضات التصوف، وهو ما أسس لمسار جامع بين الظاهر والباطن.

اعتمد الشيخ نظام “الصحبة” المنظّمة، حيث حفظ لكل شيخ حق الإشراف والتربية، وأعطى لكل مُريد واجبات ومسؤوليات. كما خط الجيلاني قواعد عامة لسلوك المريدين وواجبات الشيخ وقوانين الرباط وآداب الذكر، وتم وضع ضوابط صارمة للانضباط والأدب، فجعل من تربية الأخلاق محكاً لكل رقي في السلوك والطريق.

مخرجات المشروع وأثره:
بفضل هذا النظام الإداري المتين، تحولت الطريقة القادرية إلى مدرسة روحية منتشرة في مختلف البلاد الإسلامية، يلتف حولها المريدون والسالكون من شتى الأعراق والثقافات.

انتقلت الطريقة القادرية من بغداد إلى الأطراف الإسلامية في المشرق والمغرب، وترك الشيخ منظومة من الأوراد والأذكار والمناقب، إضافة إلى وصايا وآداب أصبحت بمثابة الدستور الروحي والإداري لأتباع الطريقة.

إن التأسيس المؤسسي الذي أحدثه سيدي عبد القادر الجيلاني لم يكن مجرد تنظيم خارجي، بل كان بمثابة إحياء أصيل لروح الإسلام في البعد الأكبر؛ إذ أرسى ثقافة المؤسسية في العمل الديني، فجعل للمشايخ مرجعية، وللمريدين دوراً واضحاً، وللزاوية نظاماً تكافلياً وتعليماً مستمراً.

ومع مرور الزمن، غدت الطريقة القادرية نموذجاً يُحتذى به في ضبط السلوك الفردي والجماعي، وفي التنظيم الروحي والإداري للطرق الصوفية.

لقد وضع الشيخ عبد القادر الجيلاني الأسس الصلبة للعمل المؤسسي في مجال التصوف، وانتقل بهذا التيار من التلقائية إلى التنظيم، ومن الفردية إلى الجماعية، ومن السلوك العفوي إلى السلوك المؤطر ضمن قيم ورسالة واضحة.

وما تزال بصماته شاهدة على عمق الأثر الذي يمكن لروح المؤسسية أن تحدثه في ميادين الإصلاح الروحي والاجتماعي، على نحو يجعل من منهجه جديراً بالدراسة والتأمل في سياق زمننا الراهن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *