خطبة بعنوان : “ونغرس فيأكل من بعدنا”
لفضيلة الشيخ : ياسر عبدالبديع
4 ذى القعدة 1446 هجرية – 2 مايو 2025 م
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
أما بعد
العُنْصُرُ الْأَوَّلِ : مَنْزِلَةَ الْعَمَلُ وَالسَّعْيُ عَلَى الرِّزْقِ
فَإِنْ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَالتَّكَسُّب وَكِفَايَة النَّفْسِ عَنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (الْمَلِكِ: 15).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ فِي تَسْخِيرِهِ لَهُمْ الْأَرْضُ، وَتَذْلِيلِه إيَّاهَا لَهُمْ، بِأَنْ جَعَلَهَا قَارَّة سَاكِنَةٌ لَا تَمِيد وَلَا تَضْطَرِب، بِمَا جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْجِبَالِ، وَإِنْبع فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ، وَسَلَك فِيهَا مِنْ السَّبَل، وَهَيَّأ فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَمَوَاضِع الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالَ: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } (الْمِلْكِ: 15)؛ أَيْ: فَسَافَرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَتَرَدَّدُوا فِي أَقَالِيمِهَا وَإِرْجَائِها فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَات، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَعْيَكُمْ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا، إلَّا أَنْ يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: { وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } (الْمِلْك: 15)؛ فَالسَّعْي فِي السَّبَبِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّل).
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هُودٌ: 61). قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي تَفْسِيرُهَا:
(..{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } أَيْ: خَلَقَكُمْ فِيهَا { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أَيْ: اسْتَخْلَفَكُمْ فِيهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيكُمْ بِالنِّعَم الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمَكَنكم فِي الْأَرْضِ، تَبْنُون، وَتَغَرِسُون، وَتَزَرِعُون، وَتَحْرَثُون مَا شِئْتُمْ، وَتَنْتَفِعُون بِمَنَافِعِهَا، وَتُسْتَغَلُّون مَصَالِحِهَا).
التَّرْغِيبِ فِي السَّعْيِ وَالعَمَلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (الْجُمُعَةِ: 10).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ } أَيْ: فَرَغَ مِنْهَا، { فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } لِمَا حُجِرَ عَلَيْهِمْ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ النِّدَاءِ وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاع، أَذِنَ لَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ، وَالِابْتِغَاء مِنْ فَضْلِ اللَّهُ).
وَقَالَ السَّعْدِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – : (لِطَلَب الْمَكَاسِب وَالتِّجَارَات).
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (رَحِمَهُ اللَّهُ): (كَانَ عَرَّاكُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ، وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّنَا عَلَى الْعَمَلِ وَالسَّعْي لِلتَّكَسُّب وَيَرْغَبُ فِي ذَلِكَ بِأَسَالِيب مُتَعَدِّدَة، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنَّ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَهُ”.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لِأَنَّ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِىَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنَّ يَسْأَلُ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ “رَوَاه الْبُخَارِيِّ.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ العَمَل مَهْمَا كَانَ نَوْعُهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ وَإِرَاقَةِ مَاءٍ الْوَجْه لَهُمْ، وَأَنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ شَاقًّا عَنِيفًا فَهُوَ ارْحَمْ مَنْ مَذَلَّة السُّؤَال، فَعِنْدَ الْحَاجَةِ يَنْبَغِي تَرْجِيحُ الِاكْتِسَابِ عَلَى السُّؤَالِ، وَلَوْ كَانَ بِعَمَلٍ شَاقّ.
وَبِطَرِيقَة أُخْرَى وَبِأُسْلُوب بَدِيع يَرْغَبُ فِي الْعَمَلِ وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ فَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومُ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا “رَوَاهُ أَحْمَدَ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : (هَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارَ عَامِرَة إلَى اخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُود الْمَعْدُود الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقُهَا، فَكَمَا غَرَس لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْت بِه، فَاغْرِسْ أَنْت لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَك لِيَنْتَفِع، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا وَقْتَ قَلِيلٌ).
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا كَانَ مِنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَخَذَ فِي إحْيَاءِ أَرْضٍ وَغَرْسِ نَخْلٍ فِي اخِرِ عُمْرِهِ فَقِيلَ لَهُ فِيهِ فَقَالَ: مَا غَرَسَته طَمَعًا فِي إدْرَاكِهِ بَلْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ قَوْلُ الأَسَدِيُّ:
لَيْسَ الْفَتَى بِفَتًى لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ. . . وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْأَرْضِ اثَارٌ
وَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعَ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ”رَوَاهُ مُسْلِمٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ فَضِيلَةٌ الْغَرْس، وَفَضِيلَة الزَّرْعَ، وَإِنْ أَجَّرَ فَأَعْلَى ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ مَا دَامَ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
وَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مِنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ بِهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَهُ الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَة”.
فَحَثّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْعَمَلِ وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ بِالزَّرْعِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوِهِمَا وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ بِأَثَرِ هَذَا الْعَمَلِ إلَّا كَانَ لِلْعَامِلِ أَجْرُ وَصَدَقَةٍ.
وَقَدْ مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَرَأَى أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِه فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ” رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْل، الصَّائِم النَّهَارِ”مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعِي: الْكَاسِب لَهُمَا، الْعَامِل لِمُؤْنَتِهِمَا.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ”. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: “فَيُعْمَل بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ” مُتَّفَق عَلَيْهِ.
الْأَنْبِيَاءُ وَالْعَمَل وَالتَّكَسُّب:
لَقَدْ كَانَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ قُدْوَةَ فِي هَذَا الْبَابِ فَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَكَسَّبُون، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ فِي الْقُرْانِ وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ فِي سَنَتِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ: { وَلَقَدْ اتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنْ أَعْمَلَ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سَبَأ: 10، 11).
وَالسَّابِغَات هِيَ الدُّرُوع.
وَقَالَ تَعَالَى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } (الْأَنْبِيَاءِ: 80).
فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صُنْعِه الدُّرُوع.
وَعَنْ الْمِقْدَامِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنَّ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنْ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ”رَوَاه الْبُخَارِيُّ.
أَمَّا نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ قَدْ رَعَى عِدَّةِ سَنَوَاتٍ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ حَتَّى يَنْكِحَ ابْنَتَهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُبَيِّنًا مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ حِوَارٍ وَاتِّفَاق: { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنَّ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَك أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاَللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }(الْقَصَص: 27 – 28).
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى قَضَى أَتَمُّ وَأَكْمَلُ الْأَجَلَيْن، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ : سَأَلَنِى يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ : أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَب فَاسْأَلْه. فَقُدِّمَتْ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَل.
وَنَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَجَّارًا، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا”.
قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّجَارَة صُنْعِه فَاضِلَة، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِزَكَرِيَّاء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ صَانِعًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِه).
أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَمِلَ قَبْلَ بَعْثَتِهِ بِالتِّجَارَةِ كَمَا عَمِلَ بِرَعْيِ الْغَنَمِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا رَعَى الْغَنَمَ”، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْت؟ فَقَالَ: “نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ (نُقُود) لِأَهْلِ مَكَّةَ” رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ: (قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي الْهَامِ الْأَنْبِيَاء رَعْيِ الْغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ: أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ التَّمَرُّن بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلِّفُونَه مِنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَمَتَهُمْ، وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يَحْصُلُ لَهُمْ الْحُلُم وَالشَّفَقَة؛ لِأَنَّهُمْ إذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا وَجَمْعُهَا بَعْد تَفَرُّقِهَا فِي الْمَرْعَى، وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَح إلَى مَسْرَح، وَدَفَع عَدُّوهَا مِنْ سَبْعِ وَغَيْرِه كَالسَّارِق، وَعَلِمُوا اخْتِلَاف طِبَاعِهَا، وَشِدَّة تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا، وَاحْتِيَاجِهَا إلَى الْمُعَاهَدَة – أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَمَةِ، وَعَرَفُوا اخْتِلَاف طِبَاعِهَا، وَتَفَاوُت عُقُولها؛ فَجَبَرُوا كَسْرِهَا، وَرَفَقُوا بِضَعِيفِهَا، وَأَحْسِنُوا التَّعَاهُد لَهَا، فَيَكُونُ تَحَمُّلِهِمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أَسْهَلُ مِمَّا لَوْ كُلِّفُوا الْقِيَامِ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ؛ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّدْرِيجِ عَلَى ذَلِكَ بِرَعْيِ الْغَنَمِ، وَخُصَّتْ الغَنَمِ بِذَلِكَ؛ لِكَوْنِهَا أَضْعَفُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ تَفَرُّقِهَا أَكْثَرَ مِنْ تَفَرُّقِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ؛ لِإِمْكَان ضَبْط الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِالرَّبْط دُونَهَا فِي الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَمَع أَكْثَرِيَّة تَفَرُّقِهَا فَهِي أَسْرَع انْقِيَادًا مِنْ غَيْرِهَا).
هَلْ يُمْكِنُ الْحُصُولِ عَلَى الرِّزْقِ عَنْ طَرِيقِ الدُّعَاءِ دُونَ سَعَى؟
الْأَصْلُ أَنَّ الرِّزْقَ وَغَيْرَهُ : قَائِمٌ عَلَى الْأَسْبَابِ، فَلَا يَنَالُ الرِّزْقَ إلَّا بِالسَّعْيِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ الْمَلِكِ/15
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ (8/ 180) :
” قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيّ: مَنَاكِبِهَا : أَطْرَافِهَا وَفِجَاجُهَا وَنَوَاحِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: مَنَاكِبِهَا : الْجِبَال” انْتَهَى.
وَرَوَى أَحْمَدُ (370) ، وَالتِّرْمِذِيُّ (2344) ، وَابْنُ مَاجَهْ (4164) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، وَشُعَيْب إلَّارنووط.
وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ : أَنَّ الطَّيْرَ (تَغْدُو) ؛ أَيْ : تَذْهَب فِي أَوَّلِ النَّهَارِ بَحْثًا عَنْ الطَّعَامِ، وَهَذَا مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي بَيَانِ تَقْرِير التَّوَكُّل ، وَتَصْحِيح مَقَامَهُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَاب لِإِينَافِي التَّوَكُّلُ ، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِهِ .
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْعَامّ أَلَذّ ي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ ، أَنْ يَطْلُبُوا الشَّيْء بِأَسْبَابِه الشَّرْعِيَّة ، وَالْحِسِّيَّة.
وَقَدْ يَخْرِقَ اللَّهُ الْعَادَةَ ، وَيَرْزُق عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ ، بِلاَ سَبَبٍ وَلَا سَعْيَ، مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، أَوْ كَرَامَةً لِوَلِيّ.
وَهَذَا هُوَ مَا حَصَلَ لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ ؛ فَرْزِقها اللَّهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حِسِّيٌّ ظَاهِرٌ ؛ كَرَامَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ نَبِيَّةً، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَأْمُريم إنِّي لَك هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبُّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ال عِمْرَانَ/37، 38 .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِه (4/ 71):
“وَكَانَ زَكَرِيَّا ، إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، يَجِدْ عِنْدَهَا فَاكِهَةٌ الشِّتَاءِ فِي الْقَيْظِ ، وَفَاكِهَة الْقَيْظِ فِي الشِّتَاءِ !!
فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ ؛ أَنَّى لَكَ هَذَا؟
فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهُ !!
فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِع زَكَرِيَّا فِي الْوَلَدِ ، وَقَالَ: إنَّ الَّذِي يَأْتِيهَا بِهَذَا ، قَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا” انْتَهَى.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ (2/ 32):
” قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ : فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زَكَرِيَّا قَالَ: إنْ الَّذِي قُدِّرَ عَلَيَّ أَنْ يَأْتِيَ مَرْيَم بِالْفَاكِهَة ، فِي غَيْرِ حِينِهَا ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ : لِقَادِرٍ عَلَى أَنَّ يَصْلُح زَوْجَتِي ، وَيَهَب لِي وَلَدًا فِي غَيْرِ حِينِهِ مِنْ الْكِبْرِ ؛ فَطَمِعَ فِي الْوَلَدِ” انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِه (2/ 36):
” وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا : قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَالسُّدِّيّ [وَالشَّعْبِيّ]: يَعْنِي وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةٌ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ ، وَفَاكِهَة الشِّتَاءِ فِي الصَّيْف.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ – وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا – أَيْ: عِلْمًا، أَوْ قَالَ: صُحُفًا فِيهَا عِلْمُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَفِي السَّنَةِ لِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ” انْتَهَى.
وَالْحَاصِلُ :
أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ الرِّزْقَ لَا يَأْتِي إلَّا بِالسَّعْيِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً ، كَنُزُولِ المَائِدَةِ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كَرَامَةً كَاَلَّذِي حَصَل لِمَرْيَم .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِجَابَة لِدُعَاء يَدْعُو بِهِ الْعَبْدُ ، فَيُرْزَقُه بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ ، وَالدُّعَاءُ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يُعَطِّلَ أَسْبَاب مُطَالَبَة الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْغُرُورِ .
العُنْصُرُ الثَّانِي : خُطُورِه الْكَسَلِ عَنْ السَّعْيِ وَعِلَاجِه
وَنَظَرًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَنْزِلِهِ السَّعْي وَفَضْلِه فَإِنَّه لِزَامًا عَلَيْنَا أَنْ نُحَذِّرُ مِنْ الْكَسَلِ وَخَطَرِه فَقَدْ وَقَفَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ مَوْقِف شَدِيد وَحَارَبَه مُحَارَبَةٍ هَائِلَة، فَقَدْ بَثَّ فِي رَوْعِ اتِّبَاعُه النُّفُورُ مِنْهُ، وَالْبُغْضَ لَهُ ،أَوْ الْوُقُوعِ فِيهِ لِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ النَّبِيَّ يُنَادِي لِلْعَمَل وَيُحَبَّبُ إلَيْهِ
فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لِأَنَّ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِىَ الْجَبَلَ، فَيَجِىءَ بِحُزْمَةٍ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنَّ يَسْأَلُ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ](رَوَاه الْبُخَارِيُّ)
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: [أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ الصَّدَقَةَ، فَرَفَعَ فِيهِمَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ، فَوَجَدَهُمَا جَلْدَيْنِ قَوِيَّيْنِ فَقَالَ: إِنَّ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِب].
كَمَا أَنَّهُ تَوَعُّدٌ سَائِل النَّاسُ عَنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، أَيْ مُحْتَرِفَيْ التَّسَوُّل، فَقَالَ: [لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَمَا فِي بَيْتِك شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ، قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا. فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا اخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ يَزِيدَ عَلَى دِرْهَمٍ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا اخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إلَى أَهْلِك، وَاشْتَرِ بِالْاخَرِ قَدُومًا فَائْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَفَعَلَ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنَّ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ](قَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ وَضَعَّفَه الأَلبَانيّ).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: [أَنْ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يَنْفُذُ (وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطَى) مَا أَمَرَ بِهِ، فَيُعْطِيهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسَهُ، فَيَدْفَعُهُ إلَى الَّذِي أَمَرَ لَهُ بِهِ – أَحَدٌ الْمُتَصَدِّقِين](وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ).
وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ دَعْوَة لِلْعَمَل، وَحُبًّا لِلْعَامِلِين، وَكَرَاهِيَة وَبُغْضًا لِلْكُسَالَى الْخَامِلِين، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: “لَا يَقْعُدُ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةٍ”.
وَكَانَ إِذَا أَعْجَبَه إنْسَان سَأَلَ: هَلْ لَهُ مِنْ عَمَلِ؟ فَإِنْ قِيلَ لَا. سَقَطَ مِنْ عَيْنُهُ.
وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِتَعَلُّم الْحَرْف وَالْمِهْن، وَيَقُولُ: “يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى مِهْنَة وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ.
وَمَنْ جَمِيل كَلَامِهِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذِهِ الْأَيْدِي لِتَعْمَل، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الطَّاعَةِ عَمَلًا، وُجِدَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ أَعْمَالًا”.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَحَدَ الرَّجُلَ فَارِغًا لَا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَلَا فِي أَمْرِ اخِرَتِهِ”.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بَنِي اسْتَغْن بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ عَنْ الْفَقْرِ، فَإِنَّهُ مَا افْتَقَرَ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا اُبْتُلِي بِرِقِّهِ فِي دِينِهِ، وَضَعْفٌ فِي عَقْلِهِ، وَذَهَابُ فِي مُرُوءَتُه.
وَجَعَل السَّعْي وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {عَلَّمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: (سِوَى اللَّهِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِين وَالْمُكْتَسِبِين الْمَالُ الْحَلَالُ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْمَالِ الْحَلَالِ لِمَنْزِلِه الْجِهَادِ).
فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ إنْ يَكُونَ كِلَا عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ إنْ يَكُونَ إِمَّعَة يَسْتَجْدِي الرِّزْقِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ عَلَّان، وَهُوَ يَعْلَمُ وَيُسْمَعُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى * وَإِنْ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النَّجْمِ: ٣٩-٤١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الْجُمُعَةِ: ١٠]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التَّوْبَة: ١٠٥].
وَيُرْوَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي التَّوْرَاةِ: «يَا عَبْدِي حَرِّكْ يَدَك أُنْزِلْ عَلَيْك الرِّزْقَ»، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ: «اطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ»، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنَّ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَهُ».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا يَقْعُدْن أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةٍ».
وَاللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يَرْزُقُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ طَلَبَ الرِّزْقِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، فَبَعْضُهُمْ يَحْسُنُ فِي طَلَبِهِ فَيُعَامَل النَّاس وَيَتَحَرَّزُ مِنْ الْحَرَامِ، وَيَجِد وَيَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ بِالطُّرُق الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ، وَالْبَعْضُ الْاخَرُ أَمَّا إنْ يَتَكَاسَل وَيَنَام وَيَقُول: حُظُوظ، أَوْ يُنَافِق وَيُخَادِع وَيَغُشّ وَيُرَابَى، وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْحَيَاةَ جِهَاد وَكَفَاح.
لَيْسَ الْحَيَاة بِأَنْفَاس تَكَرُّرِهَا
أَنَّ الْحَيَاةَ حَيَاةِ الْجَدِّ وَالْعَمَلُ
قَيِّمُهُ الْإِنْسَانِ مَا يُحْسِنُه
أَكْثَر الإِنْسَانِ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ
فَلَيْسَ طَلَبُ الْمَعِيشَةِ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ بِالْعَمَل، وَعَجَز الْمَرْء وَكَسَلِه سَبَبُ الْبَلَاءِ وَالتَّأْخِير.
وَمَنْ أَرَادَ الْعُلَا عَفْوًا بِلَا تَعِب
قَضَى وَلَمْ يَقْضِ مِنْ إدْرَاكِهَا وَطَرَأ
أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ الْكَسَلِ، وَقَدْ تَعَوَّذَ مِنْهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَمَنْ غَلَبَهُ الدِّينُ وَقَهْرِ الرِّجَالِ»، وَقَدْ قَالَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَكْسَل»، فَسُبْحَانَ مَنْ أَخْرَجَ النَّاسَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَهُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا، وَهَدَاهُمْ إلَى أَسْبَابِ الرِّزْقِ، وَيُسْرِهَا لِمَنْ طَلَبَهَا.
عِلَاج الْكَسَل
الِاسْتِغْفَارِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا () يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ()وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْايَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقَ وَالْأَمْطَار.
وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَشَكَا إلَيْهِ الْجَدْبِ، أَيْ قِلَّةِ الْمَطَرِ، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَهُ اخَرُ فَشَكَا الْفَقْرَ فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَهُ اخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا؟ فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَقَالَ أَصْحَابُ الْحَسَنِ: مَا هَذَا؟ سَأَلُوك فِي مَسَائِلِ شَتَّى، وَأَجَبْتُهُمْ بِجَوَابِ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا قُلْت مِنْ عِنْدِي شَيْئًا، إنْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول:
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ()يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ()وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾.
التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ مَعَ أَخْذِ الْأَسْبَاب:
فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ) فَرَبَط النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوَكُّل الْحَقّ بِالسَّعْيِ عَلَى الرِّزْقِ
الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَة:
فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 🙁 تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ وَالْفَقْرَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّة ).
صِلَة الْأَرْحَام:
فَعَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَبْسُطَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَه ).
الصَّدَقَة
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ ادَمَ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك، وَقَالَ: يَدٌ اللَّهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار ).
الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الدُّعَاء :
الدُّعَاء سَهْم صَائِب مَتَى مَا انْطَلَقَ مِنْ قَلْبِ صَادِقٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنْ الدُّعَاءِ وَمِنْ قَوْلِهِ ( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَنْ تَظْلِمَ، أَوْ تَظْلِمَ ).
مِنْ عِلَاجٍ الْكَسَل كَذَلِك: التَّبْكِيرِ إلَى طَلَبِ الرِّزْقِ، فَعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا ).
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: ثَمَرَةُ الْكَسْبِ مِنْ عَمَلِ الْيَدِ
اعْلَمُوا عِبَادِ اللَّهِ إِنَّ مِنْ ثَمَرِهِ الْكَسْبِ مِنْ عَمَلِ الْيَدِ أَنَّ يَمْتَثِلْ الْعَامِل أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى؛ حَيْثُ أَمَرَنَا رَبَّنَا بِالْعَمَل وَحَثَّنَا عَلَى ذَلِكَ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الْمَلِكَ: 15].
يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: (أَيْ: فَسَافَرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَتَرَدَّدُوا فِي أَقَالِيمِهَا وَإِرْجَائِها فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَات، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَعْيَكُمْ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾فَالسَّعْي فِي السَّبَبِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُوا خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا
وَأَبَاح سُبْحَانَهُ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ طَلَبًا لِلْحَلَال فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الْجُمُعَةِ: 10].
أَنْ تَنَالَ أَجْرَ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّه:
مَعَاشِر الْمُوَحِّدِين: وَمَنْ ثِمَار الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ أَنْ يَنَالَ الْعَامِل الْجَادّ أَجْرُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى؛ يقـوَلِ سَبَّحــأَنَّه: ﴿ وَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الْمُزَّمِّل: 20].
يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْايَةِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِين وَالْمُكْتَسِبِين الْمَالُ الْحَلَالُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ الْإِحْسَان وَالإِفْضَال، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مَع الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهُ…
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً الشُّهَدَاء، وَقَرَأ: ﴿ وَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾.
وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعْيِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْأَبْنَاء أَوْ الْإِبَاءَ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَلَعَ شَابٌّ مِنْ الثَّنِيَّةِ فَلَمَّا رَأَيْنَا رَمَيْنَاه بِأَبْصَارِنَا فَقُلْنَا: لَوْ أَنَّ هَذَا الشَّابَّ جَعَلَ شَبَابَهُ وَنَشَاطَهُ وَقُوَّتَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: « وَمَا سَبِيلُ اللَّهِ إلَّا مِنْ قَتْلِ؟! مَنْ سَعَى عَلَى وَالِدَيْهِ فَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ سَعَى عَلَى عِيَالِهِ فَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ سَعَى مُكَاثِرًا فَفِى سَبِيلِ الطَّاغُوت »
وَفِي رِوَايَةٍ: « سَبِيل الشَّيْطَانُ ».
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا –: (مَا خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَهُ أَمْوَاتِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْمَوْتِ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ).
وَقَالَ طَاوُوس: (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهُ).
أَنَّ تَتَشَبَّه بِالْأَنْبِيَاء:
وَلَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِالِاقْتِدَاء وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الْأَنْعَام: 90].
فَالْعَمَل أَيُّهَا الْأَحْبَاب شَرَف وَاقْتِدَاء بِصَفْوَة الْخَلْقِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – بِسَنَدٍ وَاهٍ كَانَ دَاوُد زُرَادا، وَكَانَ ادَمُ حَرْثًا، وَكَانَ نُوحٌ نَجَّارًا، وَكَانَ إدْرِيسُ خَيَّاطًا، وَكَانَ مُوسَى رَاعِيًا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إنْ دَاوُد كَانَ زُرَادا يَصْنَعُ الزَّرَد وَالدُّرُوع وَكَانَ ادَمُ حَرَّاثًا، وَكَانَ نُوحٌ نَجَّارًا، وَكَانَ إدْرِيسُ خَيَّاطًا
وَهَا هُوَ نَبِيٌّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنَّ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَك أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاَللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [الْقَصَص: 26 – 28].
وَهَا هُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْمَلُ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ يَقُولُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يُوسُفَ: 55، 56].
وَهَذَا سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامِ الْأَتْقِيَاء وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ يَعْمَل وَيَكُدّ لِأَنَّ الْعَمَلَ مِنْ سُنَنِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْتَدِيَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ؛ قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ “
أَنْ يَعِفَّ نَفْسَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ النَّاس:
مَعَاشِر الْمُوَحِّدِين وَمَنْ ثِمَار الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ أَنْ يَعِفَّ الْعَامِلُ نَفْسَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ النَّاس وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، فَالْمَسْأَلَة مَذَلَّة لِلسَّائِل تُرِيق مَاءِ وَجْهِهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لِأَنَّ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِىَ بِحُزْمَةِ حَطَب عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنَّ يَسْأَلُ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوه»
وَاَلَّذِي يُجَسِّدَ هَذَا الْمَعْنَى مَاحَدَث مَعَ شَقِيقٍ الْبَلْخِيّ وَالْإِمَام إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ أَنْ الْإِمَام شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَدَعْ “أُسْتَاذِه أَوْ شَيْخُهُ” إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ حِينَ عَزَمَ عَلَى سَفَرٍ مِنْ أَجْلِ تِجَارَة يُرِيدُهَا، وَعِنْدَمَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ رَأَى طَائِرًا أَعْمَى كَسَيْر الْجَنَاح، فَوَقَف يُتَأَمَّل الطَّائِر، وَيُفَكِّر كَيْف يَجِدْ رِزْقُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُنْقَطِعِ، فَلَمْ يَمْضِ وَقْتٌ طَوِيلٌ حَتَّى جَاءَ طَائِرٌ اخَرُ، فَأَطْعَم الطَّائِر كَسَيْر الجَنَاحِ كَمَا يُطْعِمُ الْحَمَّام فِرَاخِه، تَعَجَّب شَقِيقٌ مِنْ هَذَا الْمَشْهَدِ وَأَثَّرَ فِيهِ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: إذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُق هَذَا الطَّائِرُ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنْهُ وَلَا قُوَّةَ وَلَمْ يُهْمِلْهُ فَلِمَاذَا أَذْهَبُ أَنَا إلَى التِّجَارَةِ وَلِمَاذَا الْعَنَاء وَالسَّفَر وَأَنَا فِي هَذَا السِّنِّ؟!، سَأَرْجِع إلَى دَارِي وَسَيَرَزَقَنِي اللَّه.
وَعَادَ إلَى بَيْتِهِ، وَحِين وَصَل زَار شَيْخَهُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: لِمَاذَا عُدَّتْ يَا شَقِيق أَلَمْ تَذْهَب لِلتِّجَارَة؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، وَقَالَ: سَيَرْزُقُنَي اللَّهُ مِثْلَمَا رُزِقَ هَذَا الطَّائِرُ الْأَعْمَى الْكَسِير، سَأَرْجِع إلَى بَيْتِي وَسَط أَوْلَادِي، هُنَا قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا شَقِيق..! وَلِمَاذَا رَضِيتَ لِنَفْسِك إنْ تَكُونَ الطَّائِر الْأَعْمَى الْعَاجِزُ كَسَيْر الْجَنَاحُ الَّذِي يُنْتَظَرُ عَوْنِ غَيْرِهِ، وَلَا تَكُونُ أَنْتَ الطَّائِر الْقَوِيِّ الَّذِي يَسْعَى وَيَكُدّ وَيَعُود بِثَمَرَةِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ حَوْلَهُ؟!، أَمَّا عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى).
فِي هَذَا قَامَ شَقِيق وَقَبْل يَد شَيْخِه وَقَالَ: أَنْتِ أُسْتَاذُنَا يَا أَبَا إِسْحَاقَ وَتَرَكَهُ وَذَهَبَ يَسْعَى كَمَا يَفْعَلُ الطَّيْرِ الَّذِي يَغْدُو خِمَاصًا وَيَعُود بِطَانًا.
وَصَحَّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَعَ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: ( أُلْزِمَ السُّوقِ ).
وَقَالَ لِاخَرَ: (اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغِنَى عَنْهُمْ)
عَنْ عَفَّانَ قَالَ: لَقِيَ رَجُلٌ الْحَسَنَ بْنَ يَحْيَى بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَهُ تِجَارَةٌ فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بَلَغَ بِك هَاهُنَا؛ فَعَزَلَه الرَّجُلُ فَقَالَ: أَكُلَّ هَذَا طَلَبُ الدُّنْيَا وَحِرْصًا عَلَيْهَا؟!
فَقَالَ الْحَسَنُ: يَا هَذَا أَنَّ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى هَذَا كَرَاهَةُ الْحَاجَةِ إلَى مِثْلِك
إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَطْلُبْ مَعَاشًا
وَلَمْ يَنْحَاش مِنْ طُولِ الْجُلُوس
جَفَاه الْأَقْرَبُون وَصَار كُلًّا
عَلَى الْإِخْوَانِ كَالثَّوْب اللَّبِيس
وَمَا الْأَرْزَاق عَنْ جِلْدِ وَلَكِنْ
بِمَا قَدَرَ الْمُقْتَدِر لِلنُّفُوس
قَبُولِ الدُّعَاءِ