الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام، على سيد الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله واشكروه وأطيعوه وراقبوه، ولا تعصوه، فإن التقوى هي أساس العلم، ومفتاح الفهم، وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ [البقرة:282].
عباد الله، تعلموا رحمكم الله العلم النافع، وعلموه، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فإن العلم منه ما هو واجب على كل مسلم ومسلمة، لا يقدر أحد على تركه، إذ تركه مُخِلٌ بحياته ودينه، كأحكام العقيدة، والطهارة، والصلوات، والزكاة، والصوم، والحج، فالواجب على المسلم أن يسأل عن ذلك، ويتعلم أحكام دينه، فإنما شفاء العِيّ السؤال.
أولاً: فضل مجالس العلم: إن مجالس العلم خير المجالس ومن كان فيها خير جالس وان الملائكة لتحتفي بم يسعي الي تلك المجالس كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ العِلْمِ ) الترمذي
عباد الله : إن العِلْمَ يُزكِّي صاحبه ويرفعُ قدرَهُ ويُشْعِرَهُ دوامَ الغنى بحاجة الناس إليه وإقبالهم عليه، والعالمُ الصالحُ العاملُ السائرُ على منهاجِ وطريق الهداية دُرَّةٌ يتيمةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، وخصوصاً هذه الأيام التي زادتْ فيها مرابِحُ الدُّنْيا المُقْبلة على المُلْصَقِينَ بالعلم والمُتَنَاهِبينَ أماكنَ العُلماءِ غَدْراً وأَشَراً.
وإن حلقات العلم وموائد العلماء من ارفع المجالس وهي رياض الجنة التي يجب أن يرتع فيها العباد تتنزل فيها السكينة وتغشاها الرحمة وتحفها الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا في المسجد مجلسان : مجلس يتفقهون ، ومجلس يدعون الله ، ويسألونه ، فقال : كلا المجلسين إلى خير ، أما هؤلاء فيدعون الله تعالى ، وأما هؤلاء فيتعلمون ، ويفقهون الجاهل . هؤلاء أفضل ، بالتعليم أرسلت ثم قعد معهم } رواه أبو عبد الله بن ماجه
وكما في حديث النفر الثلاثة من حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ : أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ “
تري الناس الآن يدخلون المسجد للصلاة فقط فإذا وجدوا درس علم فروا خارج المساجد وكان مجلس العلم يؤخر مصالحهم ويضيعها وتناسوا أن العلم نور من الله وهداية روى الخطيب الحافظ أبو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي في كتابه عن أبي ذر ، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : ( باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع ، وباب من العلم نعلمه عمل به أو لم يعمل ، أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا )
فهل يستوى من يحضر مجلس علم ليتعلم ومن يعرض
والله تعالى قال : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }
وإن العلم هو الهدي حيث قال المصطفى صلى الله عليه وسلم { من دعا إلى هدى } ،
ويقول صلي الله عليه وسلم { لأن يهدي الله بك رجلا واحدا }
ثانياً : خُطورةُ الجَهْلِ وبَلاؤُهُ
لا شك أن أثر الجهل في حياة الخلق مميتٌ مادياً ومعنوياً، ومن المواقف التي تبين ذلك ما حدث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: ” خرَجنا في سفَرٍ، فأصابَ رجلًا منَّا حجرٌ، فشجَّهُ في رأسِهِ، فاحتلَمَ، فسألَ أصحابَهُ: هل تجدونَ لي رخصةً في التَّيمُّمِ؟ ! قالوا: ما نجدُ لَكَ رخصةً، وأنتَ تقدرُ علَى الماءِ، فاغتسلَ فماتَ، فلمَّا قدِمنا علَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلِكَ، قالَ: قَتلوهُ قتلَهُمُ اللَّهُ، ألا سأَلوا إذْ لم يعلَموا؟ ! فإنَّما شفاءُ العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كانَ يَكْفيهِ أن يتيمَّمَ ويَعصِبَ علَى جُرحِهِ خِرقةً ثمَّ يمسحَ علَيها ويغسلَ سائرَ جسدِهِ ” (الألباني في تخريج مشكاة المصابيح 507 وقال: حسنٌ لغيره)، فقد يقتل المرء نفسه بجهله، لأن الجهل رديف الموت كما قال أمير الشعراء:
الجهل هو أكبر داء كما قال بعض السلف: ما عصي الله بذنب أقبح من الجهل.
وقيل للإمام سهل: يا أبا محمد! أي شيء أقبح من الجهل؟ قال: الجهل بالجهل، قيل: صدقت؛ لأنه يسد باب العلم بالكلية.
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور.
وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور.
وقال اخر
والجهل داء قاتل وشفاءه أمران في التركيب متفقان.
نص من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني.
ما تأخرت الامة الا بسبب الجهل واذا كان الجهل كان المرض والفقر ذلك الثالوث المرعب
فالجهل داء وكفى بالعلم حسناً أن يفرح به من ينسب إليه وإن لم يكن من أهله، وكفى بالجهل قبحاً أن يتبرأ منه من هو فيه، فإذا قلت لأحد ليس بعالم: إنك عالم، فإنه يفرح بذلك، وإذا قلت للجاهل: إنك جاهل فإنه يحزن من ذلك مع أنه جاهل.
فكفى بالعلم شرفاً أن يفرح به من ينسب إليه ويتشرف به وإن لم يكن من أهله، وكفى بالجهل قبحاً أن يتبرأ منه من فيه، ويحزن إذا نسب إليه.
دائماً أهل المعاصي يوسمون بالجهل بالله عز وجل، كما قال إبراهيم الخليل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].
وكما قال يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
وقال عز وجل: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].
فالله عز وجل يصف دائماً أهل الطاعة بأنهم يتنزهون عن معصية الله عز وجل قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
وقال عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17].
فإن آثار العلم تبقى بعد فناء أهله, فالعلماء الربانيون لم تزل آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورة وسعيهم مشكوراً وذكرهم مرفوعاً, إن ذكروا في المجالس امتلأت المجالس بالثناء عليهم والدعاء لهم, وإن ذكروا في الأعمال الصالحة والآداب العالية كانوا قدوة الناس فيها، فتعلموا العلم عباد الله لتنالوا بركته وتجنوا ثماره تعلَّموا العلم للعلم لتعملوا به لا لتجادلوا به وتُماروا به, فإن من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء فقد عرض نفسه لعقوبة الله ونزل بها إلى الهدف الأسفل، لا تطلبوا العلم للمال فإن العلم أشرف من أن يكون وسيلة إلى المال, وإن المال أحق أن يكون وسيلة للعلم لأن المال يفني والعلم يبقى ورضي الله عن مصعب بن الزبير الذي قال لابنه: ((يا بني تعلم العلم فإنه إن يك لك مال كان لك العلم جمالاً وإن لم يكن لك مال كان لك العلم مالاً))
ولله در من قال:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ……على الهدى لمن استهدى أدلاّء
وقدر كل أمرئ ماكان يجنيه……والجاهلون لأهل العلم أعداء
وقال:
تعلم فليس المرء يولد عالماً……وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لاعلم عنده……صغير إذا التفت عليه المحافل