«مسك الختام فى وداع رمضان»
29 مارس، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد
الدرس التاسع والعشرون : «مسك الختام فى وداع رمضان»
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين سيدنا محمد النبي الأمى الكريم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها الصائمون: لقد جعل الله عز وجل لكل شىء بداية ونهاية، وهكذا الليالي والأيام، والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتدبل، قال تعالى: ﴿يُقَلّبُ اللَّهُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبرَةً لأولِى الأبصَـارِ﴾(النور:٤٤)، ولقد جاءنا رمضان وحل بنا ونزل بينا، وغمرنا بفضله، وإحسانه، وأحبنا وأحببناه، وألفنا وألفناه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبأي شعور نحن مفارقوه؟! كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي العيون؟
وهل هناك فراق أشد وقعاً، ووداعاً أكثر أسى والتياعاً من وداع المسلمين فى هذه الأيام لضيفهم العزيز ووافدهم الحبيب، شهر البر والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك؟!
فهنيئاً لمن خرج من رمضان بأعمالٍ صالحة تقيه من الفزع الأكبر، وأمّا الذين غادروا رمضان دون أن يتزودوا منه بعمل الصالحات فقد خابوا وخسروا، لقد شمر رمضان عن ساق، وأذن بوداع، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قوِّض خيامه، وأزف رحيله، ولم يبق إلا قليله، وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأله الله قبوله.
معاشر الصائمين: لقد كان أسلافنا الكرام يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده من ذلك؛
– أمنا عائشة رضي الله عنها سألت: رسول الله ﷺ عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، قالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، رواه الترمذي وابن ماجه.
– وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾(المائدة: ٢٧)،
– قال مالك بن دينار رحمه الله: الخوف على العمل ألا يُتقبل أشد من العمل.
– وقال فضالة بن عبيد رحمه الله: لو أني أعلم أن الله تقبل مني حسنة واحدة لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها.
– وعبدالله ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ يَخْرُجُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُنَادِي: مَنْ هَذَا الْمَقْبُولُ اللَّيْلَةَ فَنُهَنِّيهِ، وَمَنْ هَذَا الْمَحْرُومُ الْمَرْدُودُ اللَّيْلَةَ فَنُعَزِّيهِ، أَيُّهَا الْمَقْبُولُ هَنِيئًا، وَأَيُّهَا الْمَرْحُومُ الْمَرْدُودُ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَكَ؛ مختصر قيام الليل للمروزي.
– ولقد خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد فطر فقال في خطبته: أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يوماً وقمتم ثلاثين ليلة وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبَّل منكم؛ لطائف المعارف.
– وعن محمد بن يزيد قال: رأيت وهيب بن الورد صلى ذات يوم العيد، فلما انصرف الناس جعلوا يمرون به، فنظر إليهم ثم زفر ثم قال: لئن كان هؤلاء القوم أصبحوا مستيقنين أنه قد تُقُبِّل منهم شهرهم هذا لكان ينبغي لهم أن يكونوا مشاغيل بأداء الشكر عما هم فيه، وإن كانت الأخرى لقد كان ينبغي لهم أن يصبحوا أشغل وأشغل؛ صفة الصفوة.
– وعن مفضل بن لاحق أبي بشر قال: سمعت عدي بن أرطاة، يخطب بعد انقضاء شهر رمضان فيقول: كأن كبداً لم تظمأ، وكأن عيناً لم تسهر، فقد ذهب الظمأ وأبقى الأجر، فيا ليت شعري! من المقبول منا فنهنئه؟! ومن المردود منا فنعزيه؟! فأما أنت أيها المقبول، فهنيئًا هنيئًا، وأما أنت أيها المردود، فجبر الله مصيبتك. قال: ثم يبكي ويبكي؛ الصيام للفريابي.
– وقال الحسن البصري: إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون؛ لطائف المعارف.
– وقيل لبشر الحافي: أن قومًا يتعبدون في رمضان ويجتهدون في الأعمال، فإذا انسلخ تركوا! قال: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.. مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار.
عباد الله: إن وداع رمضان ليذكرنا برحيلنا من هذه الحياة، فتَذَكَّر أخي الحبيب؛ أنَّك ستودع الدُّنيا، فمَاذا قَدَّمْتَ للآخرة؟! هل أنت مُستَعِد للقاء ربك جل وعلا؟! لقد جرت عادة الناس أن مَن عزم على سَفر، تَزَوَّد له، وأعدَّ العدة، فهل أعْدَدْت زاداً لسفر الآخرة؟ ويا عجباً لمن أعد للسفر القريب، ولم يعد للسفر البعيد؛ فعن عبدالله بن عمر قال: قال رجل:
يا رسولَ اللَّهِ أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: «أَحسنُهُم خُلقًا، قالَ: فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ؟ قالَ : أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْراً، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعداداً، أولئِكَ الأَكْياسُ» رواه ابن ماجه.
ودخل رجلٌ على أبي ذر، فجعل يُقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: إنَّ لنا بيتاً نوجه إليه صالِحَ مَتاعنا، قال: إنَّه لا بُدَّ لك من متاع ما دمت ها هنا، قال: إنَّ صَاحِبَ المنزل لا يدعنا فيه، قال تعالى: ﴿يا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾(غافر: ٣٩)،
فيا أسفًا على رحيلك يا رمضان،
فيا شهرَنا، غير مُودَّع ودَّعناك،
وغير مقلي فارقناك،
كان نَهارك صدقة وصياماً،
وليلك قِراءَةً وقياماً،
فعليك منا تَحيةً وسلاماً،
أتراك تعود بعدها علينا،
أم يدركنا المنون،
فلا تؤول إلينا؟
مصابيحنا فيك مشهورة،
ومساجدنا منك معمورة،
فالآن تُطْفأ المصابيحُ،
وتنقطع التراويح،
ونرجع إلى العادة،
ونفارق شهر العبادة..
معاشر الصائمين: إن الكيّس يدرك أن العمل لا ينقطع، وأن فراق رمضان يشحذ الهمم؛ لطاعة الله ومراقبته وحسن عبادته في كل زمن وحين وإنما الأعمال بالخواتيم، فلنجعل من ختام شهر رمضان استغفاراً وتوبة وعهداً مع الله في الاستقامة والمدوامة على الطاعات وعمل الصالحات، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(الحجر:٩٩)، والمعنى: اعبد يا محمد ربك حتى يأتيك الموت الذي أنت موقن به.
وقد نقل الطبري في تفسيره عن كثير من السلف تأويلهم لليقين في هذه الآيات بالموت.
قال القرطبي: والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: ﴿وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً﴾
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أنه يجب عليكم أن تودعوا رمضان بمثل ما استقبلتموه من الإحسان والبر والطاعات، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وحافظوا على ما كنتم عليه من العمل الصالح تفوزوا برضوان ربكم جل وعلا.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
السبت ٢٩ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ٢٩ من مارس ٢٠٢٥ميلادياً