خطبة بعنوان ( شهر رمضان شهر البر وطاعة الوالدين ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

 خطبة بعنوان ( شهر رمضان شهر البر وطاعة الوالدين )
لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

الحمد لله الذي أمرَنا بالبرِّ وأداء الحقوق، ونهانا عن القطيعة والعُقوق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من يطمعُ في رِضاه وإلى جنَّته يتُوق، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه وأتباعِه ما تعاقبَ الجَديدان بين غروبٍ وشروق.
وبعد :

فإن شهر رمضانَ شهرُ البرِّ والصلة، وموسمُ الخير، وشهر الصفاء والإخاء ، ونبذ البغضاء وترك الشحناء ، وميدان التنافس..

وإن من أعظم البرِّ وأجل القربات برَّ الوالدين، فإذا كانت القطيعة بين عموم المسلمين محرمة ، فهي بين الوالدين والأقارب والأرحام والجيران أشد حرمة..
ولا شك أن من أحب الموضوعات الدعوية الحديث عن بر الوالدَين

روى الحاكم بإسناد صحيح عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أحضروا المنبر”، فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: “آمين”، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: “آمين”، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: “آمين”، فلما نزل قلنا: يا رسول الله: لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه. قال: “إن جبريل عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له. قلت: آمين. فلما رقيت الثانية قال: بَعُدَ من ذكرت عنده فلم يصل عليك.. فقلت: آمين. فلما رقيت الثالثة قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين”.

إن حقَّ الوالدين عظيم، ومنزلتهما عالية في الدين؛ فَبِرُّهما قرينُ التوحيد، وهو من أعظم أسباب دخول الجنة، وهو مما أقرته الفطرة السوية، واتفقت عليه الشرائع السماوية، وهو خلق الأنبياء، ودأب الصالحين، وهو سبب في زيادة العمر، وسعة الرزق، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وانشراح الصدر، وطيب الحياة. وهو أيضاً دليل صدق الإيمان، وعلامة حسن الوفاء، وسبب البر من الأبناء وفي مقابل ذلك فإن عقوق الوالدين ذنب عظيم، وكبيرة من الكبائر، فهو قرين للشرك، وموجب للعقوبة في الدنيا، وسبب لرد العمل، ودخول النار في الأخرى

رمضان دروس وعبر، محمد ابراهيم الحمد..

وبر الوالدين -أيضًا- دليل صدق الإيمان، وعلامة حسن الوفاء، وسبب البر من الأبناء ..

العنصر الأول : برُّ الوالدَين من أفضل الأعمال، وأجل القربات

إن بر الوالدين من أجل الطاعات التي أمر بها دين الإسلام في القرآن وحث عليها النبي عليه الصلاة والسلام ..

قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23، 24]﴾..

وقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء: 36]..
وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الأنعام: من الآية ١٥١) .
وقال (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]”..

انظر كيف قرنَ الله -جل جلاله – حقَّ الوالدَين بحقِّه -سبحانه-، وما ذلك إلا لعِظَم حقِّهما، وكريمِ فضلِهما، ومن لم يشكُر لوالدَيه لم يشكُر الله -عزّ وجل-..
وإنما خص الله -تعالى- حالة الكبر: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ) مع أن ما أوصى الله -تعالى- به مطلوب مع الوالدين حتى في غير حالة الكبر، لكن الله -تعالى- إنما خص هذه الحالة لأن الوالدين في حال الكبر تضيق أنفسهما، وتكثر حوائجهما ومطالبهما، فربما تبرم الولد من ذلك، ولهذا خص الله -تعالى- هذه الحالة: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) أي لا يصدر منك إليهما أي فعل قبيح.

ثم لما نهى عن القول القبيح والفعل القبيح، أمر بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) أي: لينا طيبا، حسنا، بتأدب، وتوقير، واحترام (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) أي ادعوا لهما بالرحمة في حياتهما وبعد وفاتهما فإن ذلك داخل في برهما..

هذا وقد تكرَّرت الوصيةُ في كتاب الله تعالى في حقِّ الوالدَيْن في مواضِع عديدة، وآياتٍ مجيدةٍ، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) [الأحقاف: 15]، وقال -سبحانه-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8]..

ويقول ربنا -عز وجل-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 14-15] ..

فأمر الله -تعالى- بصحبة الوالدين بالمعروف في الدنيا، حتى وإن كان يأمران الولد بأعظم الذنوب، وبأعظم المعاصي وهو الشرك بالله -تعالى-، حتى وإن كانا كافرين، ويأمران الولد بأعظم ذنب عصي الله به وهو الشرك، ومع ذلك يقول الله -تعالى- (فَلَا تُطِعْهُمَا) أي فيما أمراك به، وفيما جاهداك عليه من الشرك ولكن مع ذلك (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فإذا كان الله -تعالى- أمر بصحبة الوالدين الكافرين اللذين يجاهدان ولدهما على الشرك فكيف بالوالدين المسلمين؟!..

في الصحيحين عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: قدِمَت عليَّ أمي وهي مُشرِكةٌ في عهدِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتَيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: إن أمي قدِمَت وهي راغِبَةٌ، أفأصِلُ أمِّي؟! قال: “نعم، صِلِي أمَّكِ”. متفق عليه. هذا في حالِ الشركِ؛ فكيف بما دُون ذلك؟

إن جاهَداكَ على شركٍ فقل لهما * خيرًا، ولا طاعةٌ تأتي بعِصيانِ
واطلُب من الله أن يرأَف بحالِهما * وأن يزيدَ عطاءً دُون نُقصانِ
وأن يقـودَ إلى الإسلام قلبَهما * وأن يُكافِئَ في جُودٍ وإحسانِ ..

و من هنا كان برُّ الوالدَين من أفضل الأعمال، وأجل القربات، وأعظم الطاعات، جعله النبي ﷺ قرينًا للصلاة عمودِ الإسلام، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله ﷺ: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» [رواه الإمام البخاري (5970)]..

ومُتقدِّمًا على الجِهاد ذِروة سَنام الإسلام؛ ويشهَدُ لذلك: ما في الصحيحين أيضًا أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذِنُه في الجِهاد، فقال: “أحيٌّ والدِاك؟!”، قال: نعم. قال: “ففيهما فجاهِد”..

طاعة الوالدين من أسباب وعلامات رضا الله جل جلاله..

إن أعظمَ ما ينشُدُه المُسلمُ: رِضا ربِّه -جلّ وعلا-، ورِضا الإله تعالى في رِضاهما؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “رِضى اللَّهِ في رِضى الوالِدَينِ ، وسَخَطُ اللَّهِ في سَخَطِ الوالدينِ”. أخرجه ابن حبان وسنده صحيح..

بر الوالدين بعد وفاتهما:
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي أُسيدٍ الساعديِّ -رضي الله عنه- قال: قال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله: هل بقِيَ من برِّ أبوَيَّ شيءٌ أبرُّهما بهِ بعد موتِهما؟! قال: “نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما”..

وعن عبد الله بن دينارٍ، عن عبد الله بن عُمر -رضي الله عنهما- أن رجُلاً من الأعرابِ لقِيَه بطريقِ مكَّة، فسلَّم عليه عبدُ الله بنُ عُمر، وحملَه على حِمارٍ كان يركبُه، وأعطاهُ عِمامةً كانت على رأسِه. فقال ابنُ دينارٍ: فقلنا له: أصلَحَك الله، إنهم الأعرابُ وإنهم يرضَون باليسير. فقال عبدُ الله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعُمر بن الخطاب، وإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن أبرَّ البرِّ: صِلةُ الولد أهلَ وُدِّ أبِيه”. رواه الإمام مسلم..

ولنا في السَّلَفِ خيرُ مِثالٍ، وأحسنُ مقالٍ؛ فعن الزهريِّ -رحمه الله- قال: “كان الحسنُ بن عليٍّ لا يأكُلُ مع أمِّه، وكان أبرَّ الناس بأمِّه. فقيلَ له في ذلك، فقال: أخافُ أن آكُلَ معها، فتسبِقَ عينُها إلى شيءٍ من الطعامِ وأنا لا أدرِي فآكُلُه، فأكونُ قد عققتُها”..

فاعتبرَ الحسن -رضي الله عنه- هذا عقوقًا بالنسبة له ، وهذا من تمام الأدبِ والبرِّ ..

وعن عروة أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَبْصَرَ رَجُلَيْنِ. فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: مَا هَذَا مِنْكَ؟ فَقَالَ: أَبِي. فَقَالَ: ” لَا تُسَمِّهِ بِاسْمِهِ، وَلَا تَمْشِ أمامه، ولا تجلس قبله”..
(الأدب المفرد للإمام البخاري).

وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- إذا ابتدَرَ الخروجَ من بيتِه وقفَ على بابِ أمِّه، فقال: السلامُ عليكِ يا أمَّاه ورحمةُ الله وبركاتُه. فتقول: وعليك السلامُ يا ولدِي ورحمةُ الله وبركاته، فيقول: رحمَكِ الله كما ربَّيتِني صغيرًا، فتقول: رحمَكَ الله كما برَرتَني كبيرًا. وإذا أراد أن يدخُل صنعَ مثلَ ذلك ..

ولقِيَ ابنُ عمر -رضي الله عنهما- رجُلاً في المطاف يحمِلُ أمَّه على ظهرِه يطوفُ بها، فقال: يا ابنَ عُمر: أتُرانِي جزيتُها؟! قال: “ولا بزَفرةٍ واحِدةٍ”. رواه البخاري في الأدب المفرد..

ما أروع هذا البرَّ وهذا الأدب!! وايْمُ الله؛ إنه أنموج مُشرِق مُتألِّق من نماذِجِ حضارتِنا الإسلامية، ومحاسِن دينِنا الحَنيف الذي بلغَ الثُّريَّا في رحمتِه وبرِّه وبلغ العلا بشموله وسماحتِه وعدله ، ولا مُقارنَة في ذلك بينَه وبين الحضارَةِ الماديَّة المُعاصِرَة في النَّظرة إلى الوالدَين والأُسرَة، والتمرُّغ في الثَّرَى ورميِهم في دُور الرِّعايَة الاجتماعيَّة! ..

وإن مما يحسن التنبيه إليه: أن بعض الآباء لا يعينون الأبناء على برهما، بل ربما تجد الإبن أو البنت يحرص جاهدا لبر والديه ، ولكن والده بسوء خلقه، وجفوته يعيق ولده عن أن يقوم ببره، وكلما حاول الولد أن يبر بوالده أو والدته لم يتمكن بسبب جفوة هذا الأب أو الأم، فرحم الله والدا أعان أولاده على بره؛ لهذا قال الله -سبحانه وتعالى- بعد ما أمر ببر الوالدين قال: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)[الإسراء: 25]..

العنصر الثاني : الأم مقدمة على الأب في البر.

والأم مقدمة على الأب في البر، ولها من الحقوق على الابن أكثر من حقوق الأب ؛ لأن شرعنا الكريم قد أشار إلى ذلك؛ ولأنها بفطرتها ضعيفة ؛ ولأنها الحامل والوالدة والمرضع: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان:14]، وفي آية أخرى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف:15]..

لهذا كان بر الأمهات ثلاثة أمثال بر الآباء ..
وفي المحرمات من النساء قُدِّمت الأم على سائر المحارم : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ…) ..الآية [النساء:23]..
والأم أولى من الأب في البر وحسن الصحبة، دلت على ذلك أحاديث عدة، منها : ما روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟! قال: “أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك”. رواه الشيخان..
وفي حديث آخر: “إن الله يوصيكم بأمهاتكم”، ثلاثًا، “إن الله يوصيكم بآبائكم…”. رواه ابن ماجه.

ومن هنا فللأم ثلاثة حقوق، وللأب حق واحد؛ فإنه ينبغي للولد أن يصرف ثلاثة أرباع برِّه لأمه، وربعه لأبيه، وكثير من الناس يضعف فقههم عن ذلك..

وعقوق الأم أشد جرمًا من عقوق الأب، وإن كان كل العقوق جريمةً، وقد نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن الله تعالى حرم علينا عقوق الأمهات ..

ولا أحد من الناس أشد رحمةً ولا أكثر خوفًا من الأم على ولدها، وفي قصة إسماعيل وأمه -عليهما السلام- ما يظهر رحمة الأم وشفقتها على وليدها حين نفد ماؤها، وجف لبنها، وخشيت عليه ، ولم تطق النظر إليه ، وهو يتألم من الجوع، فهامت في جبال مكة تبحث عن الماء، وكانت في كل صعود وهبوط على الصفا والمروة تعود لرضيعها لتطمئن عليه..

حتى نبع خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ..

وتظهر رحمة الأم وشفقتها في قصة أم موسى -عليه السلام- مع ابنها حين وضعته في التابوت وألقته في اليم؛ إذ أمرت أخته بتتبع خبره، والسؤال عنه: (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [القصص:11]، وقد أخبر الله تعالى عن حزن الأم بفقد ولدها فقال سبحانه: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) [القصص:13]، وذكر الله تعالى موسى -عليه السلام- بهذه النعمة العظيمة حين جمع شمله بأمه وهو رضيع: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) [طه:40]، فهذا هو قلب الأم ..

إنها الأم يا من تريد مغفرة الذنوب، وسترَ العيوب ، يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فيقول: أذنبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “هل لك من أم؟” قال: لا، قال: “فهل له من خالة؟” قال: نعم، قال: “فبرها” [رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان].

الإحسان إلى الأم سبب لقبول الأعمال ، قال سبحانه عن عبده الشاكر لنعمته، البار بوالديه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف: 16].

الإحسان إلى الأم سبب للبركة في الرزق وفي العمر ، في وقتٍ قلت فيه البركات، وفي الصحيح: “مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ”الزواجر عن اقتراف الكبائر الهيثمي وسنده صحيح ..

تعطيك كل شيء ولا تطلب منك أجراً ، وتبذل لك كل وسعها ولا تنتظر منك شكراً ..
والبر بالأم مفخرة الرجال، وشيمة الشرفاء، وقبل ذلك كله هو خلق من خلق الأنبياء, قال تعالى عن يحيى -عليه السلام-: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) [مريم: 14].

وقال عيسى -عليه السلام-: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) [مريم: 32]..
لأمك حق لو علمت كثير * كثيرك يا هذا لديه يسير..

إنها الأم التي وصى بها المولى -جل جلاله-، وجعل حقها فوق كل حق إلا حقّه..
فويل ثم ويل لمن فرَّق بين أم وولدها بسبب خلاف بين الزوجين، وكثير من الأزواج يفعلون ذلك، ويفعله آباء الأزواج وآباء الزوجات وقرابتهم؛ بدعوى حفظ كرامة متوهمة، أو للحصول على مال، أو المطالبة بإسقاط نفقة الأولاد ما داموا عند أمهم، أو نحو ذلك، فتكون الأم وأطفالها ضحايا هذه التصرفات الرعناء، وتحرم الأم منهم ويحرمون منها ، ولا سيما الأطفال والرضع، ويلتاع قلبها عليهم، فلا تهنأ بنوم، ولا تتلذذ بطعام. نعوذ بالله تعالى من قلوب نزعت منها الرحمة، فاسودت بالأحقاد، وكانت كالحجارة أو أشد قسوةً. ولا رحم الله تعالى أزواجًا لا يرحمون أمهات أولادهم، ولا يرحمون أطفالهم حين فرقوا بينهم وبين أمهاتهم..

العنصر الثالث: التحذير من عقوق الوالدين

يا إخوة الإسلام إن عقوق الوالدين ذنب عظيم من كبائر الذنوب، ومن أعظم المحرمات ، فهو قرين للشرك، وموجب للعقوبة في الدنيا، وسبب لرد العمل، ودخول النار في الآخرة.

وهو جحودٌ للفضل، ونكرانٌ للجميل، ودليلٌ على الحمق والجهل، وعنوانٌ على الخسة، والدناءة، وأمارةٌ على حقارة الشأن وصِغَرِ النفس.(المكتبة الشاملة).
عن أبي بَكرَة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “ألا أُنبِّئُكم بأكبَر الكبائِر؟!”. قلنا: بلى يا رسول الله، قال: “الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدَين”. (متفق عليه)..

و ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان». [رواه أحمد، المسند (1/89)].

إن عقوبة العقوق وخيمة ومعجلة في الدنيا قبل الآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كلُّ ذنوبٍ يؤخِرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلَّا البَغيَ وعقوقَ الوالدَينِ ، أو قطيعةَ الرَّحمِ ، يُعجِلُ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ المَوتِ”. أخرجه أبو داود وسنده صحيح..

ثم لتعلم -أيها المسلم- أن دعوة الوالد على ولده مستجابة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ ؛ دَعوةُ المظلومِ ، ودعوةُ المسافرِ ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ” أخرجه الترمذي وسنده حسن ..

فيا من أبكى أبويه وأحزنهما وأسهر ليلهما، وحمَّلهما أعباء الهموم، وجرعهما غصص الفراق، ووحشة البعاد، هلا أحسنت إليهما وأرضيتهما وأضحكتهما، يبكيان عليك وأنت صغير إشفاقًا وحذرًا، ويبكيان منك وأنت كبير خوفًا وفرقًا … فلما بلغت موضع الأمل ومحل الرجاء قلت: أهملهما في الأرض، أطلب كذا وكذا، فارقتهما على رغمهما باكيين، وتركتهما في وكرهما محزونين، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما، لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غمضًا إن تأخرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك؟! وأبصرا خلو مكانك ففقدا أنسك؟! ولم يجدا رائحتك؟! فكان ملاذهما سحَّ الدموع، فصار الولد خبرًا، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هولهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك، وأبصرا أقرانك، ولم يبصراك معهم، فهنالك تسكب العبرات، وتتضاعف الحسرات، وأنت إذا فقدتهما وابتليت بموتهما فإنك لا تدرك إلا حينئذ فضلهما، ومقتَّ نفسك على إساءتك لهما، وتقول: ويحي، ماتا ورحلا قبل أن يجدا مني ما يرضي نفوسهما، ويمسح عنهما ما عاشاه من نكد مني في حياتهما.

العنصر الرابع : صور من بر الوالدين وصور من العقوق

أولا: صور من بر الوالدين :
من صور بر الوالدين طاعتهما، واجتناب معصيتهما في غير مخالفة لأمر الله، و الإحسان إليهما، وخفض الجناح لهما، والبعد عن زجرهما.. وبذل ما يرغبانه ويشتهيانه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ، وإعانتهما في حال الصحة والمرض ..

قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[سورة الإسراء: 24] ..

ومن صور البر تذكير الوالدين بالله، ونصحهما بالتي هي أحسن، ومن برهما أيضاً الاستئذان منهما، والاستنارة برأيهما، والمحافظة على سمعتهما، والبعد عن لومهما وتقريعهما، ومن ذلك فهم طبيعة الوالدين، ومعاملتهما بمقتضى ذلك. ومن البر بهم كثرة الدعاء والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإنفاذ عهدهما، والتصدق عنهما، ومما يعين على بر الوالدين أن يستعين الإنسان بالله، وأن يستحضر فضائل البر، وعواقب العقوق، وأن يستحضر فضل الوالدين، وأن يضع نفسه موضعهما، وأن يقرأ سير البارين بوالديهم..

ثانيا: صور من عقوق الوالدين ..

عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عن النبي ” قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» رواه الإمام البخاري..

ومع عظم تلك المكانة للوالدين إلا أننا نرى عقوقهما قد تفشّى، وأخذ صورًا عديدةً، ومظاهر شتى؛ فمن ذلك إبكاؤهما وتحزينُهما، ونهرُهما وزجرُهما، والتأففُ والتضجر من أوامرهما، والعبوسُ وتقطيبُ الجبينِ أمامهما..

ومن صور العقوق احتقارُ الوالدين، والنظر إليهما شزرًا، والإشاحةُ بالوجه عنهما إذا تحدثا، وقلةُ الاعتداد برأيهما، وإثارةُ المشكلات أمامهما..

ومن ذلك – عياذًا بالله – شتمُ الوالدين، وذمُّهما عند الناس، والتخلي عنهما وقت الحاجة أو الكبر، والتبرؤُ منهما، والحياءُ من ذكرهما والنسبة إليهما.

ومن صور العقوق الإثقالُ على الوالدين بكثرة الطلبات، والمكثُ طويلًا خارجَ المنزل إلى ساعات متأخرة من الليل، أو النوم خارج المنزل دون علم الوالدين بمكان الولد، خصوصًا إذا كان صغيرًا.

ومن صور العقوق المتناهية بالقبح لعنُ الوالدين، والتعدي عليهما بالضرب، وإيداعُهما دورَ المسنين ..

ومن صور العقوق هجرُ الوالدين، والبخلُ عليهما، وتركُ نصحهما، والسرقةُ من أموالهما، والأنينُ وإظهارُ التوجُّع أمامهما..

إننا في زمان قد كثر فيه العقوق للآباء والأمهات ولكن في جانب الأمهات أكثر حتى إن بعض الناس في بعض الأماكن وفي بعض الدول ربما إذا كبرت الأم أخذها إلى دار العجزة ورمى بها إلى أن تموت فإذا ماتت اتصل عليه من دار العجزة بأنها توفيت فيأتي لحضور مراسم الدفن عياذاً بالله، هذا قد دفن قلبه وقد دفن الخير ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن صور العقوق لجوء بعض الأبناء إلى المحاكم ليقف في وجه والديه ربما من أجل إرث أو ربما من أجل مال أو ربما من أجل أشياء من لعاعات الدنيا، أهكذا يكون رد الجميل?! أهكذا يكون البر والإحسان?!.

كذلك أيضاً بعضهم ربما يصل به الأمر إلى القتل، إلى القتل لوالديه عياذاً بالله، فيقتل أباه أو يقتل أمه أو يعمل ما يعمل من هذه البوائق والجرائم، وهذي الأشياء تدل على أن الله قد مسخ هذا الشخص عياذاً بالله.

قال الشاعر:
أغرى امرؤ يوماً غلاما جاهلاً
بنقوده كي ما ينال به الوطر
وقال ائتني بفؤاد أمك يا فتى
ولك الجواهر والدراهم والدرر
فمضى وأغرز خنجراً في صدرها
والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط سرعته هوى
فتدحرج القلب المضرج إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفرٌ
ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
فكأن هذا الصوت رغم حنوه
غضب السماء به على الولد انهمر
فدرى فظيع خيانة لم يجنها
ولد سواه منذ تاريخ البشر
واستل خنجره ليطعن نفسه
ويصير عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كف يدا
ولا تذبح فؤادي مرتين على الأثر..

هذه بعض صُور العُقوق المأساويَّة القديمة والمُعاصِرة، التي وصلَت -عياذًا بالله- إلى حدِّ القتلِ، في صُورٍ يائِسَة تنِمُّ عن قِلَّة الديانَة، وتئِنُّ منها الفضيلة، وتبكِي منها الشهامة والمُروءة.
حين تجِفُّ المشاعِر، وتموتُ الضمائِر، وتجمُدُ الأحاسِيس عند هؤلاء المفالِيس. وكأن لسان حالِ والدِيهم كما قال الأولُ:
غذَوتُك مولودًا وعُلتُك يافِعًا * تُعلُّ بما أُحنِي عليـك وتنهَلُ
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي * إليها مدَى ما كنتُ فيك أُؤمِّلُ
جعلتَ جزائِي غلظةً وفظاظةً * كأنَّك أنـت المُنعِـمُ المُتفضِّلُ
فليتَك إذ لم تـرعَ حقَّ أُبُوَّتي * فعلتَ كما الجارُ المُجاوِرُ يفعل..

العنصر الخامس: قصص وعبر ..

إن سير الصالحين مع الأمهات مآثر تدرس ، وأخبارٌ تروى ، فحدث عن الوفاء ، وعن السمو، وعن البر في أنصع الصور ، وأرقّ المشاعر..

هذا أبو الحسن عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب -وهو المسمى بزين العابدين وكان من سادات التابعين – كان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أُمَّك؛ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها…

وعن ابن عون أن محمدًا إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضًا من خفض كلامه عندها.

وعن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئًا قالوا: لا، ولكن هكذا يكون عند أمه.
وروى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر أنه كان يضع خدَّه على الأرض ثم يقول لأمه: قومي ضعي قَدَمَكِ على خدي..
وأخذ منه بعض الصالحين تقبيل رجل الأم، فكان يقبل قدم أمه كل يوم، فأبطأ على إخوانه يومًا، فسألوه فقال: “كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات”..

وعن ابن عون المزني أن أمه نادته، فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتق رقبتين.
وقيل لعمرَ بن ذرٍّ: كيف كان بر ابنك بك؟ قال ما مشيت نهارًا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلًا إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحًا وأنا تحته..
(المكتبة الشاملة)..

سل ذلك الذي فقد والديه يخبرك كيف تغير عليه طعم الحياة، حين خلّف والديه في المقابر ، فلم يجد من بعدهما من يسنده ويدعو له ويبث له شكواه، ولن يعرف قدر هذا إلا من عاناه ..
ومن قصص العقوق : قصة منازل بن لاحق :
قَالَ: كُنْتُ شَابًّا عَلَى اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ لا أُفِيقُ عَنْهُ وَكَانَ لِي وَالِدٌ يَعِظُنِي كَثِيرًا وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ! احْذَرْ هَفَوَاتِ الشَّبَابِ وَعَثَرَاتِهِ فَإِنَّ لِلَّهِ سَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *