رجل من أهل الجنة

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

 

الدرس الرابع عشر : «رجل من أهل الجنة»

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين؛

أمابعد: فيا أيها الصائمون:

سوف نعيش فى هذا اللقاء الطيب المبارك بمشيئة الله تعالى مع رجل من أهل الجنة، وإذا كنا جميعاً نشتاق إلى الجنة ونتسابق إليها بفعل الخيرات ونحن فى رمضان شهر الخيرات فتعالوا لنصغى إلى سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وهو يروى لنا قصة رجل من أهل الجنة لنتأسى بما فعل، ونعمل كما عمل عسنا أن نبلغ ما بلغ؛ يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: « كنَّا يوماً جلوساً عند رسولِ اللهِ ﷺ فقال: «يطلُعُ عليكم الآن من هذا الفجِّ رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ قال فطلع رجلٌ من الأنصارِ ينفضُ لحيتَه من وضوئِه، قد علَّق نعلَيْه في يدِه الشِّمالِ، فسلَّم، فلمَّا كان الغدُ قال ﷺ مثلَ ذلك فطلع ذلك الرَّجلُ، وقاله في اليومِ الثَّالثِ، فطلع ذلك الرَّجلُ، فلمَّا قام النَّبيُّ ﷺ، تبِعه عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، فقال له: إنِّي لاحيْتُ أبي، فأقسمتُ ألَّا أدخُلَ عليه ثلاثًا، فإن رأيتُ أن تئويَني إليك حتَّى تمضيَ الثَّلاثُ فعلتُ؟ فقال: نعم . فبات عنده ثلاثَ ليالٍ، فلم يرَه يقومُ من اللَّيلِ شيئاً، غيرَ أنَّه إذا انقلب على فراشِه ذكر اللهَ تعالَى، ولم يقُمْ حتَّى يقومَ إلى صلاةِ الفجرِ، قال غيرَ أنِّي ما سمِعتُه يقولُ إلَّا خيراً، فلمَّا مضت الثَّلاثُ، وكِدتُ أن أحتقِرَ عملَه، قلتُ: يا عبدَ اللهِ، لم يكُنْ بيني وبين والدي غضَبٌ ولا هِجرةٌ، ولكنِّى سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: كذا وكذا، فأردتُ أن أعرِفَ عملَك، فلم أرَكَ تعملُ عملًا كثيراً، فما الَّذي بلغ بك ذلك؟! فقال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، فلمَّا ولَّيتُ دعاني فقال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، غيرَ أنِّي لا أجدُ على أحدٍ من المسلمين في نفسي غِشّاً ولا حسَداً، على خيرٍ أعطاه اللهُ إيَّاه قال عبدُ اللهِ: فقلتُ له هي الَّتي بلغت بك، وهى الَّتي لا نُطيقُ» رواه النسائي وأحمد.

أيها الصائمون: تأملوا فى هذه البشارة العظيمة التي جعلت كل من في المجلس – بل كل مَن سمع بهذا المجلس المبارك – يتمنى أن يكون ذلك الرجل الذي بشَّر النبي ﷺ أنه من أهل الجنة، ولقد جرت عادة الناس إذا سمعوا بمن سبق إلى درجة من درجات الدنيا أو مكانة مرموقة؛ فإنهم يبادرون إلى فعل ما فعل عسى أن يبلغوا ما بلغ، وبخاصة إذا كان أمراً عظيماً، ويتحقق بلا مشقة ظاهرة، لكن الصحابة رضي الله عنهم، كان حرصهم على درجات الدار الآخرة أعظم من حرصهم على أمور الدنيا.

ومن هذا المنطق انتدب عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما نفسه للنظر في هذا العمل الذي يعمله هذا الرجل، حتى يبلغ هذه البشارة العظيمة، فذهب إليه وقال: «إنه كان بيني وبين أبي ملاحاة، فآليتُ ألا أبيت في البيت ثلاثًا»، حتى يتوصل بذلك إلى أن يبيت معه؛ لينظر في عمله وكيف يصنع، فبات عنده ثلاث ليال، فكان لا يَرى منه كثيرَ عملٍ، لم يره متهجداً في الليل، ولا زائداً بالعمل في النهار، ولكنه كان في ليله إذا انقلب أو استيقظ من الليل ذكر الله، ولا يزال هذا دَيدنه حتى يكون الصبح، وحتى يخرج الفجر.. فلما انقضت الليالي الثلاث، قال له: يا فلان، إنا كنا عند النبي ﷺ، فقال: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة» فكنت أنت ثلاث مرات، فأردت أن أنظر ما هو العمل الذي بلَّغك هذه المنزلة؛ فلم أر كثيرَ عملٍ، فقال له: ما هو إلا الذي رأيت. يعني: ليس ثمة شيء أُخفيه، وإنما هذه هي حالي في ليلي ونهاري، فلما هَمَّ عبد الله أن ينصرف، ناداه الرجل، وقال له: «ما هو إلا الذي رأيت، وإني أبيت إذ أبيت، وليس في قلبي غش لأحد من المسلمين، ولا أحسد أحدًا على نعمة آتاه الله تعالى إياها، قال عبدالله: «هذه التي بلَّغتك وهي التي لا نستطيعها»

معاشر الصائمين: لقد حملت لنا قصة هذا الرجل فوائد عديدة من ذلك؛
– سلامة القلب لها عظيم الأثر في سعادة المرء في الدنيا والآخرة؛ فلا يكاد العبد ينتفع بشيء في دنياه وآخرته، أعظم من انتفاعه بسلامة قلبه، سلامته من الشرك والنفاق والرياء والكبر والعجب وسائر الأمراض التي تعتريه، قال خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلا تُخزِنِي يَومَ يُبعَثُونَ يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ﴾(الشعراء: ٨٧-٨٩)، وقال تعالى: ﴿وَإِبرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾(النجم: ٣٧)، فإبراهيم ابتلاه الله بكلمات فأتمهن فجعله الله للناس إمامًا: ﴿إِذ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ﴾(الصافات: ٨٤)، والناس إذا شعر أحدهم بأي مرض عضوي يعتري قلبه من قلة نبضات أو سرعتها، أو أي نوع من تلكم الأمراض التى تُصيب القلوب، فإنه يبادر وبسرعة بالذهاب إلى الأطباء، ويسأل عن أعلم أهل الطب بطب القلوب، ويبحث عن أكثرهم خبرة وأحذقهم تطبيباً، ولم يدَّخِر وسعاً في الذهاب إليه، ولو كلَّفه ذلك الغالي والنفيس، بيد أن البعض لا يُعطى لمعاجلة قلبه من الأمراض المعنوية أدنى اهمتمام، وكأنه لا يعلم أنه لن ينتفع بشىء مثل انتفاعه بسلامة قلبه من الشك والشرك والشقاق والنفاق، والرياء، والأحقاد، والغل والحسد…

– صلاح القلب يصلح به سائر الجسد، فعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال النبي ﷺ: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْب» رواه مسلم.

قال العلامة ابن رجب رحمه الله: فالقلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له، المنقادة لأوامره، فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامر، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره و نواهيه.

وقال: فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، وهو أن يكون سليماً عن جميع ما يكرهه الله من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته، ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه.

والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الميل إلى الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وليس فيه من خشية الله ما يَكُفُّ الجوارح عن اتباع هوى النفس.
– والقلب المنيب يورث صاحبه الجنة؛ قال تعالى:﴿وَأُزلِفَتِ الجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ غَيرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُون لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّن خَشِيَ الرَّحمَنَ بِالغَيبِ وَجَاءَ بِقَلبٍ, مٌّنِيب ادخُلُوهَا بِسَلامٍ, ذَلِكَ يَومُ الخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيدٌ﴾(ق: ٣١-٣٥)

– وسلامة القلب من أعظم أسباب تنزل السكينة قال تعالى: ﴿لَقَد رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحًا قَرِيبًا﴾(الفتح: ١٨)،

– القلب يطمئن بالذكر؛ ومن أعظم أسباب طهارة القلب وصلاحه الإكثار من ذكر الله كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار، هذه من أسباب صلاح القلب؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد: ٢٨)، فإذا أكثر العبد من ذكر الله ومن قراءة القرآن وبادر بالتوبة طهر القلب وصلح واستقام أمره، وإذا تابع السيئات أظلم القلب وساءت حاله وقسا، وربما طبع عليه فلا يعقل بعد ذلك معروفاً ولا منكراً.

– ومن تعلق قلبه بالمساجد كان في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «سبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَدْلٌ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ فَقالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» رواه البخارى.

– والله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب والأعمال، ويُجازي عليها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم»رواه مسلم.

معاشر الصائمين: إن شهر رمضان فرصة كبيرة حتى نصلح ونطهر قلوبنا، لا سيما ونحن نعلم أن الغاية من الصيام هي تحقيق تقوى الله عز وجل والقلب هو موضع التقوى؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَاتَحَاسَدُوا، ولَا تَنَاجَشُوا، ولَا تَبَاغَضُوا، ولَا تَدَابَرُوا، ولَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، ولَا يَخْذُلُهُ، ولَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، ومَالُهُ، وعِرْضُه» رواه مُسْلِمٌ.

إن البعض قد يُصلى ويصوم لكن قلبه لا يصفو أبداً لخلق الله، والسؤال الذى يطرح نفسه هل حقق هذا الغاية من الصيام، وقلبه مملوء غل وحقد وضغينة وشحناء؟!

ما أثر الصيام فى حياته، وهو لا يزال يضمر الشرور لخلق الله؟!
اللهم أصلح لنا فساد قلوبنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ١٤ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ١٤ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *