بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
مصر.. أرض الكرم وأصل موائد الرحمن
منذ أقدم العصور، تميّزت مصر بكونها أرض الكرم والجود، حيث كان التكافل الاجتماعي جزءًا أصيلًا من ثقافة شعبها. ومع حلول شهر رمضان، تتجلى هذه القيم بأبهى صورها في موائد الرحمن، التي تعدّ واحدة من أجمل التقاليد الرمضانية التي انتشرت في مختلف الأقطار الإسلامية، ولكن جذورها الأولى تعود إلى أرض الكنانة.
يُعتبر أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية وحاكم مصر في القرن التاسع الميلادي، أول من سنَّ هذه العادة المباركة. فقد كان رجلًا ذا رؤية اجتماعية، يدرك أن القوة الحقيقية للأمة لا تكمن فقط في الجيوش والحكم، بل في ترابط الناس وتكاتفهم. لذا، أمر بإقامة موائد ضخمة تُقدَّم فيها الأطعمة للفقراء والمحتاجين طوال الشهر الفضيل، فأصبحت موائد الرحمن تقليدًا مستمرًا حتى يومنا هذا، ليس فقط في مصر، بل في مختلف الدول الإسلامية.
موائد الرحمن.. عادة مصرية ألهمت العالم الإسلامي
منذ أن بدأ المصريون هذه العادة النبيلة، انتقلت فكرتها إلى العديد من الدول العربية والإسلامية، لتصبح رمزًا للعطاء والتكافل الاجتماعي في رمضان. واليوم، لا تكاد تخلو مدينة عربية أو إسلامية من موائد الرحمن التي تستقبل الصائمين، بغض النظر عن طبقاتهم أو جنسياتهم.
في مصر.. موائد تتجدد وتزداد عظمة كل عام
لا تزال مصر تتربع على عرش هذا التقليد، حيث تُقام موائد الرحمن في كل شارع وزاوية تقريبًا، فتجد الأغنياء وأصحاب المؤسسات والجمعيات الخيرية يتنافسون في تقديم أشهى الأطباق للصائمين. والمثير للإعجاب أن بعض الموائد أصبحت تحمل طابعًا فخمًا، حيث تُقدَّم فيها وجبات متكاملة لا تختلف عن تلك التي تُقدَّم في أفضل المطاعم، مما يعكس عظمة كرم الشعب المصري.
كيف استلهمت الدول الإسلامية سنة موائد الرحمن؟
في سوريا.. موائد الكرم الشامي
لطالما اشتهرت سوريا بالضيافة والكرم، ويظهر ذلك جليًا خلال شهر رمضان، حيث تنتشر موائد الرحمن في المدن السورية الكبرى مثل دمشق، وحلب، وحمص. وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد، إلا أن هذه الموائد لم تختفِ، بل زاد الإقبال عليها، خاصة في ظل المبادرات الأهلية التي ينظمها التجار والعائلات السورية لتوفير وجبات الإفطار للصائمين، في صورة تعكس تماسك المجتمع السوري.
في السعودية.. موائد عند الحرمين
في السعودية، تأخذ موائد الرحمن طابعًا مميزًا، خصوصًا في المسجد الحرام والمسجد النبوي، حيث يتوافد مئات الآلاف من الصائمين لتناول الإفطار المجاني. ويقوم أهل الخير والمتطوعون بتوزيع التمور والماء والعصائر، مما يجعل تجربة الإفطار في مكة والمدينة تجربة روحانية فريدة. كما تنتشر هذه الموائد في أحياء المدن الكبرى مثل الرياض، وجدة، والدمام.
في الإمارات.. موائد الفخامة والضيافة
أما في الإمارات، فتأخذ موائد الرحمن طابعًا فاخرًا ومنظمًا، حيث تُقام تحت إشراف الجمعيات الخيرية ويتم تقديم الوجبات بطرق حديثة تضمن توفير الطعام لمئات الآلاف من المحتاجين، ومن بين أكبر المبادرات مبادرة “إفطار الصائم” التي تشمل توزيع ملايين الوجبات في المساجد والمراكز الإسلامية.
في السودان واليمن.. الكرم بلا حدود
في السودان، يتميز رمضان بموائد الرحمن التي تُقام على الطرقات، حيث يتجمع الأهالي ويفطرون معًا، في مشهد يعكس روح العائلة الواحدة. وفي اليمن، ورغم الظروف الصعبة، يحرص الناس على إقامة الموائد، حيث تُقدَّم الأطعمة التقليدية للصائمين مثل “الشفوت” و”السلتة”، إضافة إلى وجبات الأرز واللحم.
في المغرب العربي.. موائد بنكهة خاصة
تحظى المغرب، الجزائر، تونس، وليبيا بعادات رمضانية مميزة، وموائد الرحمن هي جزء لا يتجزأ منها. في المغرب، تنتشر مبادرات الإفطار الجماعي في الساحات العامة، حيث تقدم الحريرة المغربية والتمر والحلويات التقليدية. أما في الجزائر، فتقام موائد ضخمة تحت إشراف الجمعيات الخيرية، ويشتهر رمضان هناك بمبادرات الجيران الذين يتشاركون وجبات الإفطار. وفي تونس، تنتشر موائد الرحمن خاصة في العاصمة والمناطق الريفية، حيث تحرص الأسر الميسورة على تنظيم ولائم للصائمين.
في تركيا وآسيا.. امتداد للخير المصري
حتى في الدول الإسلامية البعيدة مثل تركيا، إندونيسيا، وماليزيا، أصبحت موائد الرحمن من التقاليد المنتشرة، حيث يتم تحضير وجبات ضخمة في المساجد وتوزيعها على الفقراء وعابري السبيل، مستلهمين هذه العادة من العالم العربي. في إسطنبول، على سبيل المثال، تُقام موائد ضخمة في الساحات العامة، خاصة بالقرب من المساجد التاريخية مثل مسجد السلطان أحمد، حيث يتجمع الصائمون في مشهد يعكس التكافل الإسلامي العابر للحدود.
موائد الرحمن.. أكثر من مجرد طعام
ما يميز موائد الرحمن أنها ليست مجرد وجبة تُقدَّم للصائمين، بل هي صورة رائعة من التضامن الاجتماعي، حيث يجلس الغني بجانب الفقير، والمسافر بجانب المقيم، والكل يتشارك في لحظات الإفطار بروح واحدة. كما أنها تزرع في النفوس معاني الرحمة والتكافل، وهي قيم أساسية في الإسلام.
وبفضل هذا التقليد العظيم، أصبح رمضان شهر العطاء والمحبة، حيث يتسابق المسلمون في إطعام الطعام، وهو من أعظم العبادات التي أكد عليها الإسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: “من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء”.
ختامًا.. مصر مهد العطاء الذي انتشر في الآفاق
لم تكن موائد الرحمن مجرد فكرة عابرة، بل كانت سنة مصرية عظيمة تحولت إلى تقاليد عالمية. ومن مصر، انتشرت إلى مختلف الأقطار، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من روح رمضان.
إن هذا المشهد الإنساني الرائع يعكس كيف أن الخير يبدأ من نقطة صغيرة، لكنه يمتد ليشمل أمة بأكملها. وفي كل رمضان، تظل مصر، بشعبها المعطاء، صاحبة الفضل الأول في هذه السنة المباركة التي باتت اليوم رمزًا للكرم الإسلامي في مختلف بقاع الأرض.