هل صلاة القيام في البيت أفضل أم في المسجد؟

بقلم فضيلة الشيخ : أحمد عزت حسن
الباحث فى الشريعة الإسلامية

 

وبمناسبة الحديث حول صلاة التراويح نود التنبيه إلى نقطة يكثر فيها السؤال والحديث والقيل والقال كل عام وهي، هل صلاة القيام في البيت أفضل أم في المسجد؟
فنجد أحدهم يدع –في وسائل التواصل الاجتماعي- إلى صلاة التروايح في البيت -فهذه سنة الأقوياء- بحجة أن النبي ﷺ لم يحافظ عليها، وأنها -صلاة التراويح- من النفل، وهذا يؤدى في البيت أفضل من المسجد -فهذه سنة الضعفاء- للحديث المتفق عليه: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)

– وأيضا تركه ﷺ لها بعد ما كثر الناس خلفه في اليوم الثالث أو الرابع واكتفى بها في بيته، وعلى هذا ترك الكثير صلاة التراويح في المساجد وأكثرهم تركوها كلية،

فنقول وبالله تعالى التوفيق ونسأله السداد والإخلاص: إننا بداية نحُسن الظن بمن يكتب أو يردد هذا القول، وأنه لا يعرف ما تنطوي عليه مثل هذه الدعوات من خبثٍ ومكرٍ في دعوة إلى تعطيل شعائر الدين ثم تعطيل الفرض بعد أن عطّلوا السنة.

* وإن المتأمل في كل شعائر الإسلام وعبادته يجد أنها تنطوي على العلانية والجماعية، فالصلاة في جماعة أفضل من صلاة الفذ -الفرد- بسبع وعشرين درجة،

* والصوم يؤدى في جماعة من بدايته حتى نهايته إمساكٌ وإفطار في وقتٍ واحدٍ يستحيل لأي قوة -مهما بلغت- أن توّحد هذه الأعداد بهذا الشكل،

* والحج أروع مثل للجماعة وهكذا.

* بل إن شهادة التوحيد لا بد من إظهارها والنطق بها حتى نُجْرِي على صاحبها أحكام الإسلام، وفي حاشية البيجوري “وذهب الجمهور إلى الجماعة في صلاة التروايح” وهي -كما يقول د/ بكر إسماعيل في الفقه الواضح ج١ ص٢٥٨- “شعيرة من شعائر رمضان، لها جلالها في نفوس المسلمين”

حكمة الجماعة فيها:
ولا يخفى على أحد أن الإسلام شرع الجماعة في أمورٍ كثيرة لا تخفى حكمتها على أحد، فلصلاة الجماعة العديد من المزايا فمن ذلك:
– صلاة الجماعة تخرج الإنسان من الانطوائية
– تعود المسلم النظام والانضباط واحترام الوقت،
– إظهارٌ لشعائر الدين
– في الجماعة أستمع للتلاوة،
– وقد أصحح ما أقع فيه من أخطاء سيما إذا كان الإمام متقنًا.
– قد أتعلم كلمة تدل على هدى أو تصد عن ردى؛ وذلك من خلال درس الراحة بين الركعات.
– تدريبٌ للأطفال على هذه الصورة من العبادة.
أما في البيت فقد تضيع -بل تضيع- عليّ معظم هذه الفوائد

أما النسبة للحديث فهو وإن عمّ النوافل مطلقًا إلا أنه من العام الذي أريد به الخصوص، ويدل عليه أن صلاة الخسوف أو الكسوف والعيدين والاستسقاء لم يؤدها رسول الله ﷺ في البيت؛ وهذا لأنه تسن فيها الجماعة “فكل ما تسن فيها الجماعة فأداؤها خارج البيوت أفضل سواء في المصلى أو المسجد”، فهل التراويح تسن لها الجماعة؟ نقول: نعم. ويدل عليها أمور:

١ – أن الرسول ﷺ لم ينههم عن الاصطفاف خلفه، فلو كانت الجماعة فيه لا تسن لبينه لهم. بل سكوته دليل على الأفضلية وإنما ترك ذلك؛ لما هو أعلى وهو خوفه -ﷺ- أن تفرض عليهم وهذه علة ظاهرة يزول الحكم بزوالها.

٢- أن الصحابة في عهد الخليفة عمر اجتمعوا على إمامٍ واحدٍ -كما أوضحنا ذلك من قبل- ولم ينقل أنه وقع الخلاف بينهم بعد استقراره ولا يجتمع الصحابة -والأمة- على ضلالةٍ أبدًا وحاشاهم.

٣- جريان العمل عند السلف على هذا النمط مما يدل على أفضليته ومشروعيته -وإن كان نقل عن بعضهم فعلها في بيته-

كما يرى بعض الشافعية والمالكية للحديث الذي رواه أحمد: “صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة” فهذا يعود إلى الموازنة والتفاضل في حالات خاصة ونحن نتكلم عن فعلها على العموم.

وقد فصّل البعض القول في هذا -جمعًا بين الأحاديث- فقالوا: “إن كان المسلم حافظًا للقرآن الكريم، أو لم يخش الانشغال عنها، ولم يخف تعطيل المساجد بدونه، فصلاته لها في البيت أولى، وإلا فصلاته بالمسجد أولى” بكر إسماعيل: السابق١/ ٢٦٠.،

وقد أجمع بين الحسنيين بأن أصلي في المسجد وبعد العودة أصلي ولو ركعتين بأهل البيت؛ ليتأسّى ويقتدي بي أولادي وأهل بيتي.

وأما من يقول أنه: لا يشعر بتلك اللذة و…. فنقول وبالله التوفيق: يعني لو صليت في البيت ستشعر بتلك اللذة المنشودة، وهل الشيطان -وشيطان نفسك- سيدعك تهنأ بتلك اللذة،

وأيضًا هذا تبرير زائف؛ لأنك لن تصليها، ولو صليتها ستصليها مرة ولن تصليها أخرى، ولو صليتها ستصليها من غير روح،

الشيطان سيشتغلك ويأتيك بالتدريج حتى يفسدها عليك، ولن يدعك تهنأ بها.

* نحن نأتي المسجد بعد يومٍ شاق لنمارس العبودية ممارسة حقيقية، ونعيش معنى “سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير”

* وهل تظن أنك وحدك “اللي تقلان ونعسان ومجهد ومش لاقي لسه الأنس واللذة”؟
معظمنا يعاني ما تعاني، ولكننا نساند ويشجع بعضنا البعض ونتوارى في بعض، فحينما أرى الشيخ الكبير الذي يحرص على المواظبة على الحضور فأنا أتعلم منه

* ولعل أحد أهم أسباب الجماعة في المسجد هو الاقتداء والتقوّي بالآخرين فأنا -إذا لم أكن قويًا- فقد أكسل أو أتكاسل عن أدائها أو أشعر بالضجر أو الملل أو … ولكن حينما أكون في جماعة وأرى الرجل العجوز والشيخ الكبير يقفان بالصف فأنشط وأتخذهما قدوة

* وأيضًا نأتي عبوديةً لله؛ فالعبودية من معانيها الانقياد والطاعة والاستسلام التام، فنحن نأتي في عز التعب والجهد بعد صيام يومٍ شاقٍ من أجل أن نُظهر لربنا عبوديتنا، ونسترضيه كأننا نقول له: “يارب إحنا تعبانين ومجهدين ومش قادرين وجايين بس علشان نرضيك”

* مجرد عصيانك لهواك وطرد وسوسة الشيطان ومقاومتك طول الوقت للصوت “اللي بيقولك ماتروحش المسجد أو بيقولك وأنت بتصلي: صل الركعتين دول وروح كمل في البيت” = ده في حد ذاته لذة وعبادة عظيمة اسمها “المجاهدة” واللي في النهاية ربنا بيكافئك عليها بإنك تجد “الأنس واللذة” اللي بتحلم بها.

* الخوف كل الخوف من أن يكون تركها في جماعة المسجد بداية للتفريط وضياعها بالكلية، وما لا يدرك كله لا يُترك جله، والقاعدة الأصولية تقول: “المستحَبُّ -وإن كان تاركه لا يعاقب في تركه جزءًا- فإنه قد يعاقب إذا تركه جملة”. يقول الإمام الشاطبي -وقَعَّدَ بذلك قاعدة- وهي: “أن الفعل إذا كان مندوبًا بالجزء، فهو واجب بالكل”، وعلى هذا يُحمَل كلام الإمام أحمد وهو: “مَن ترَك الوتر، فهو رجلٌ سُوءٌ، ولا تُقبَل شهادته”. “فالمندوب بالجزء واجب بالكل”؛ فإذا كان الفعل بالجزء مندوبًا فإنه واجب بالكل، فالأذان في المساجد وصلاة الجماعة وصلاة العيدين وصدقة التطوع والوتر وسائر الرواتب حكمها أنها مندوبٌ إليها بالجزء لكنها واجب بالكل، ولهذا إذا اتفق أهل بلد أو مدينة أو دولة على ترك الاذان أو ترك صلاة الجماعة وجب منعهم من هذا الترك، بل قد يقاتلوا، ولهذا هدد النبي -ﷺ- أقوامًا لا تصلي الجماعة بإحراق بيوتهم عليهم، فإذا اتفق أهل بلد أو دولة على تركه فيصبح ترك بالكل وهو محرم؛ لهدم مقصد ضروري من مقاصد الشريعة “فكل ما يهدم الضروريات الخمس فهو محرم” فالمندوب خادمٌ للواجب، فإذا تركها المكلف جملةً واحدةً يجرح تاركها فإذا كان مندوبًا بالجزء فهو في نفس الوقت مكمل الواجب الذي يقدمه وهو واجب بالكل.

ويقول الإمام الطحاوي رحمه الله: “ذهب قوم إلى أن القيام مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل، واحتجُّوا في ذلك بقول رسول الله ﷺ: (إنه من قام مع الإمام حتى ينصرِفَ، كُتِبَ له قُنُوت بقيَّةِ ليلَتِه)، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل صلاته في بيته أفضلُ من صلاته مع الإمام، وكان من الحجَّة لهم في ذلك أن ما احتجُّوا به من قول رسول الله ﷺ: (إنه من قام مع الإمام حتى ينصرِفَ، كُتِبَ له قُنُوتُ بقيَّةَ ليلتِه)، كما قال رسول الله ﷺ، ولكنه قد رُوي عنه أيضًا أنه قال: (خيرُ صلاةِ المرءِ في بيته إلا المكتوبة) في حديث زيد بن ثابت، وذلك لما كان قام بهم ليلةً في رمضان فأرادوا أن يقُومَ بهم بعد ذلك، فقال لهم هذا القول، فأعْلَمَهم به أن صلاتَهم في منازلهم وحدانًا أفضلُ من صلاتهم معه في مسجده، فصلاتُهم تلك في منازلهم أحرى أن يكون أفضل من الصلاة مع غيره في غير مسجده، فتصحيح هذين الأثرين يُوجِبُ أن حديث أبي ذرٍّ هو على أن يُكتَبَ له بالقيام مع الإمام قُنُوتُ بقية ليلته، وحديث زيد بن ثابت يُوجِب أن ما فعل في بيته هو أفضل من ذلك، حتى لا يتضادَّ هذان الأثران”
[شرح معاني الآثار (١/ ٣٤٩) (٢٠٥٦)]، وهذا الذي ذهب إليه البيهقي والعيني وغيرهما [شعب الإيمان (٤/ ٥٥٤)، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (٤/ ١٨٨)].

ومن عميق فهم السلف الصالح وفقههم ما ألَمَح إليه ابن بطال رحمه الله من التفاتة عظيمة، وهي أنه مَن فضَّل قيام الليل بمفرده، ينبغي ألا يُعطِّل سنة صلاة التراويح في المسجد؛ لأنها أصبحتْ شعارًا على أهل السنة والجماعة، فقال: قال الطحاوي: وكل مَن اختار التفرُّد، فينبغي أن يكون ذلك على ألا يَنقطعَ معه القيامُ في المسجد، فأما الذي ينقطع معه القيام في المسجد فلا، قال: وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل المساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيام واجبًا على الكفاية، فمن فعَله كان أفضل ممَّن انفرَد؛ كالفروض التي على الكفاية، وأما الذين لا يَقوون على القيام في بيوتهم، ولا يَقدِرون عليه، فالأفضل لهم الصلاة مع الإمام وحضورها؛ ليسمعوا القرآن، وتحصل لهم الصلاة، ويُقِيموا السنة التي قد صارت علمًا” [شرح صحيح البخاري لابن بطال (٣/ ١٢٠)]

أخي الحبيب
لقد خطف هؤلاء أشْرْعة مراكبهم عند أول هبوب لرحمة الله فطارت بمراكبهم بعيدًا بعيدًا والآخرون ما زالوا مُنشغلين في وضع الأشرعة ولما يخطوا بعد، فالقلب يبحث عن خلل. أتحسب أن الأمر بيدك وأن قلبك رهن إشارتك.

▪︎ إياك أن تذهب بالأسباب بعيدًا أو تشغل قلبك بها فتلهو بها عمن بيده الأسباب والمسببات.

اترك تعليقاً